رياليتي أون لاين-جدة
في حدائق قرطاج، الحي السكني الذي تخبّط في أحشاء منظومة بن علي لتنقطع أنفاسه مع الثورة ويسترجعها في الآونة الأخيرة، تدور أحداث فيلم "أشكال" للمخرج التونسي يوسف الشابي الذي عُرض في مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي.
من هذا الحي الذي يحمل في تفاصيله أكثر من رمزية نسج ملامح فيلمه الذي يصور الواقع التونسي دون تزييف ولا مساحيق تجميل ولا مباشرتية مزعجة واقتبس عنوانه من أشكاله الهندسية الملهمة.
المكان في الفيلم تجاوز بعده المادي وصارت له روح بثها فيه المخرج يوسف الشابي الذي يجيد بناء الفضاءات الرمزية المفعمة بالحياة والحركة فمع تقدم الأحداث ترى للسقف أعينا تحاصر كل المارين به وللحيطان أياد تمتد لتقتلع أفكار كل المفكرين خارج الصندوق وللأرضية سيقان تلاحق كل من يحاول ملامسة الحقيقة.
فيما تغويك الأشكال الهندسية اللامتناهية في حدائق قرطاج بالسفر في تفاصيلها التي تحمل في طياتها تأويلات وإحالات كثيرة، تقتفي كاميرا يوسف الشابي أثر النار التي تتعالى ألسنتها على نسق احتراق الأجساد المنساقة نحوها بكل ما أوتيت من رغبة فتخلق معنى آخر للاحتراق.
على امتداد الفيلم الروائي الطويل الأول لصاحبه يستمر العزف على أوتار النار لتتبدّى موسيقى تحاكي واقع تونس وصراعات الأفراد فيها والأقنعة الجديدة لوجوه قديمة والوضع الذي لا يتبدل ولا يتغير ليكتفي في كل مرة بطلاء لسطحه فيما السوس ينخر داخله.
على نسق المشاهد المكثفة بالمشاعر وبالمواقف الدرامية دون إيغال في البكائيات، يتجلى أسلوب مختلف لمخرج يعيد صياغة الواقع على طريقته ويحيك تفاصيله بعناية ودقة ولا ينفلت منه الخيط وهو الذي أوجد المعادلات بين عمق الموضوع وجمالية الطرح.
صورة أخرى لحدائق قرطاج، مغايرة لما هي عليه في الحقيقة، كل تفاصيل المكان تحررت من جمودها ونطقت بحكايات كثيرة عن الحال في تونس بعد مفترق الثورة دون ثرثرة ودون إمعان في ذكر التفاصيل التي يترك لك الفيلم مجالا لرسمها كما يحلو لك.
نضج جلي في هذه التجربة الجديدة التي يخوضها يوسف الشابي يظهر في كل عناصر الفيلم من السيناريو والكتابة والإخراج والكاستينغ والإضاءة والموسيقى وفي القدرة على استنطاق المكان وإنشاء لغة سينمائية مختلفة تخلق للأشكال الهندسية وخيوط اللهب أرواحا.
وعلى نسق حوادث موت أشخاص حرقا تتواتر أحداث الفيلم لتفضي في النهاية إلى داخلك وأنت تلاحق تفاصيل التحقيقات البوليسية التي يجريها "بطل" (محمد حسين قريع)و"فاطمة" (فاطمة الوصايفي) للوصول إلى حقيقة هذه الحوادث التي طالت رجل أمن.
في رحلة البحث عن الحقيقة تتصاعد ألسنة اللهب أكثر وتصبح أشد نهما للأجساد العارية وتواصل الكاميرا البحث عن سر لا تفقهه إلا تلك الأرواح التي تنشد الخلاص وسط واقع يلفه الغموض والسواد فتلبي نداء النار وتعانقها بعد أن تتخفف من عبئها.
مشهد احتراق الأجساد، شكل الرحيل هذا يتكرر على امتداد الفيلم مع اختلاف بعض التفاصيل ليتفرع إلى أشكال تلتقي عندها الرغبة في معانقة النار دون أسباب واضحة ودون تفسير منطقي لمن يزرع الشرارة الأولى في الأجساد حتى تتفحم.
عبر كتابة بسيطة لا تتعالى على المشاهد وعميقة في ملامستها لمواضيع راهنة يبدو الفيلم متشبعا بواقع المحيط الذي تشكلت فيه ملامحه الأولى يشبهه في غموضه وفي مسحة التشويق التي تكتسي تفاصيله وفي التوتر الذي يتسلل من بين زواياه وفي الأشكال المتحركة في كل الاتجهات.
في الفيلم لا يخفي المخرج نظرته النسوية فالتساؤلات تنطلق من الشرطية "فاطمة" وتعود إليها في كل مرة لتغذي منها حيرتها وشكها وتستمد منها سببا لزيارة المكان الذي يختزن روح النار لترسم شكلا جديدا لشخصية تريد حل لغز ولكنها تظل على امتداد الفيلم محيرة لا تبوح بدواخلها.
وهذه الشخصية تبدو لافتة لما تجمعه داخلها من تناقضات ليست سوى امتدادٍ لمحيطها إذ تراوح بين الهدوء والانفعال وبين الحذر والاندفاع في مآلات ذهنية ونفسية جسدتها فاطمة الوصايفي بعفوية جعلت الأمر يبدو في بعض المشاهد أشبه بالتسجيل أو التوثيق.
ولعل ما يميزها في تجربتها السينمائية الأولى قدرتها على تطويع تعابيرها وجهها بما يكفي للانسجام مع سيرورة البناء السيكودرامي للشخصية إلى جانب نظرتها التي تختصر كلمات كثيرة في بعض المشاهد وتختزن تلك الرغبة المعلقة في الرقص على إيقاع النار.
ومن زاوية فلسفية اعتمد فيها المخرج النار رمزا للخلاص بغض النظر عن مآلات الأمر ، ينتقد الواقع ويسائله ويذكرنا بالعدالة الانتقالية وهيئة الحقيقة والكرامة والمنظومة البوليسية وحكام الظل والجهات المجهولة التي تتحكم في سيرورة الأمور وغيرها من تمظهرات الانتكاس.
وفي احتراق الأجساد ربما إحالة إلى جسد البوعزيزي الذي احترق ذات شتاء فتناثرت نيرانه لتشكل شرارات الغضب التي أغرقتها سيول الوعود الزائفة والتغيير الوهمي، وربما هي أيضا تجسيد للانعتاق من سطوة الواقع للنجاة من "سيستام" يستنسخ قوالب السكر وينوّم العقول حتى لا تتمرد على الأطر التي تحاوطها.
على نسق حركة كاميرا يوسف الشابي التي تشعر أحيانا بأنها تدور لك حول نفسك لترفعك عاليا فتعانق السماء ثم تهوي بك إلى الأرض دون أن تفقد تركيزك إلى أن تغرقك في مشاهد فنية تحاكي جماليتها التنويم المغناطيسي فتتبع سمو النار حينما يرتسم في بؤبؤ العين وتتشرع أبواب الأسئلة دفعة واحدة.
وفي "أشكال" لا يعرف الملل طريقه إليك فكلما مسكت بطرف إجابة تتولد عنها أسئلة أخرى فتغدو الإجابات كما الأشباح تتخذ في كل مرة ملامح جديدة تحاكي ملامح الشخصية التي تتحكم في خط سير النار نحو الأجساد وتشبه واقع تونس المطرّز بالغموض.