المسافة الصفر مفردة خلقت من رحم المقاومة في الحرب الأخيرة على غزة وهي تحيل إلى استهداف العدو من مسافات قريبة، من هذه التعبيرة استمدت مجموعة من الأفلام القصيرة ضمن حراك أطلقه المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي تسميتها.
أفلام من المسافة الصفر حراك فني ضد النسيان والتعود وصوت صارخ ضد كل محاولات التعليم وسد منيع أمام اليأس والقنوط وحديث عن قصص لم تروها الأخبار.
الدمار وسيول الدماء والأشلاء المتناثرة والدموع والصراخ، مشاهد تتداولها وسائل الإعلام على مدار اليوم ولكن أيا منها لم يخض في دواخل الغزاويين وما يعتريهم من هواجس وأحلام.
زاوية نظر أخرى لمعاناة الفلسطينيين في غزة بعد السابع من أكتوبر تنغمس في التفاصيل التي تتعاظم على وقع الحرب وتأثيراتها المادية والمعنوية وتروي الوجع اليومي بأساليب مختلفة تراوح بين التوثيق والتخيل.
في مساحات بين الوثائقي والروائي والتحريك تتشكل ملامح مشروع يجمع 22 مخرجا من غزة، عبر رؤية يتماهى فيها الفني والإنساني، رؤية تأخذك إلى يوميات الغزاويين والغزاويات زمن الحرب.
وهذه الأفلام التي عرضت في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي ضمن برمجة خاصة بفلسطين مساحة للتعبير الحر عن اليومي الذي تتشابه حيثياته وسط استمرار القصف وانهيار البيوت والنزوح المستمر وانقطاع الماء والكهرباء وانعدام كل المرافق الحر، وشكل من أشكال مقاومة الاحتلال.
مع كل قصة وكل رواية تردد في داخلك أن الفلسطينيين ليسوا أرقاما وأن لا تعود ولا نسيان وأن المقاومة مستمرة وهو ما تظهره الشخصيات التي ظهرت في مجموعة الأفلام وهي تصنع سبلا أخرى للحياة غصبا عن الحرب.
ما يشدك في هذه التجربة الإنسانية والفنية غياب العدو من كل الصور وإن تجلت همجيته في كل ركن وزاوية وقي الجروح التي كست الأجساد والأرواح، هي إحالة إلى أن الكيان الغاصب زائل لا محالة.
هي السينما ترصد بعينها مكامن الوجع ولكنها أيضا تلاحق خيوط الأمل في أفلام المسافة الصفر التي كانت مساحة للتعبير الحر الذي لا يخضع لقوالب صناعة الأفلام ولا تقييمات المجتمع الدولي الذي ما انفكت أقنعته تتساقط على أعتاب المجازر والإبادة.
وفي الفيلم الوثائقي “خارج الإطار”( Out Of Frame) لنداء أبو حسنة تضعنا الكاميرا على امتداد 6 دقائق وجها لوجه مع فنانة تشكيلية تعود إلى الاستوديو المدمر من فعل الحرب لإقامة معرض حيث تتحسس آثار أعمالها الفنية التي صارت لها روح تئن وجعا لما طالها.
وفي الفيلم الروائي “سحر” (Charm) لبشار البلبيسي، تمضي 4 دقائق على إيقاع طفلة كانت ترتمي في حضن الرقص قبل الحرب وبعدها لجأت إليه وهي تبحث عن سبيل للتواصل الروحي مع أصدقائها الغائبين في غياهب القصف.
أما الدراما الوثائقية “جنة الجحيم ” (Hell’s Haven) لكريم ستوم، فتعطي معنى آخر للكفن حينما يحوم الموت حول أهل غزة وتسافر أرواح الشهداء كل حين ويستوي الوجود بالعدم.
وفيما يخص الفيلم الوثائقي “جاد وناتالي” (Jad And Natalie) فيتتبع وجعه وهو يحصي خساراته التي لا تحتمل تقييما بعد عودته إلى حيه الذي مر منه الاحتلال فترك وراءه دمار صاروا كروحه المثقلة بالفقد.
وفي “عذرا سينما” (Sorry Cinema) لأحمد حسونة يتجلى وجع الفنان والإنسان على امتداد 6 دقائق وقع اعتذار المخرج أحمد حسونة للسينما بعد أن تغيرت كل الأولويات في لحظة الحرب الفارقة.
وأما فيلم “صحوة” ( Awakening) لمهدي كريرة فتحكي فيه الدمى المصنوعة من العلب الحديدية طيلة 4 دقائق معاناة النازحين من القصف عبر قصة أب فقد ذاكرته في تفجير واستعاد في تفجير آخر
وفي وثائقي “لا” (No) لهنا عليوة تظهر لحظات من الأمل والبهجة وسط دمار الحرب وتعلو الأصوات المقاومة بالغناء لتطمس بعضا من بشاعة الاحتلال الذي يخلف الدمار حيثما مر.
ويأتي الفيلم الوثائقي “كل شيء على ما يرام” ( All is Fine) لنضال دامو ليصور الملحمة بشكل كوميدي وينغمس في الصراعات اليومية للنازحين الذين يقاومون من أجل الحياة ويحاول مواساة المعذبين في ثنايا الحرب.
وفي الفيلم الدرامي “تاكسي ونيسة” ( Taxi Wanissa) لاعتماد وشاح كان من المفترض أن يستشهد صاحب العربى التي تجرها “ونيسة” التي ترك ترك صاحبها ولكن استشهد أفراد من عائلة المخرجة ولم يكتمل الفيلم…
وعلى امتداد “24 ساعة” (24 hours) لعلاء دامو توثق الكاميرا رحلة “مصعب” فلسطيني ناج من تهديدات حامية بالموت، ومع كل تهديد يعانقه الموت ويغادر تاركا جروحا على جسده الذي أثقلته الانهيارات ولكنه ظل ثابتا.
وعن “سيلفي” (selfie)لريم محمود فهو وثائقي يمتد على 7 دقائق يرصد حرص إمرأة على حفظ ذكرياتها إذ تجمعها في زجاجة وتلقيها في بحر غزة العامر بالاحلام لتبقى حية أبدا.
أما روائي “خارج التغطية” (No Signal) لمحمد شريف فيجسد حالة الارتباك والشك التي تنتاب رجلا لم يستوعب قلبه وعقله إمكانية أن يكون أخاه قد استشهد إثر القصف.
وفي “جلد ناعم” ( Soft Skin) لخميس مشهراوي تلامس مجموعة من الأطفال قلب الوجع حينما تبوح عن مشاعرها لما كتبت أسماؤهم على أجسادهم ليتعرفوا عليهم إذا ما وجدت القنابل طريقها إليهم.
وعلى إيقاع الموسيقى والرقص تقاوم “فرح” كل تمظهرات الحرب وتخلق لنفسها مساحة رمزية آمنة تتخرك فيها بحريةفي الفيلم الوثائقي “فلاش باك” (Flashback) لإسلام الزريعي.
من جهته يلاحق باسل المقوسي في فيديو آرت “شظايا” صورا تختزل رحلة البحث عن الحياة وسط أكوام الركام ورائحة الموت التي تعشش في كل الأركان بالتوازي مع عوالمه المتخيلة والواقع.
وفي روائي “القرابين” يقتفي مصطفى نبيه أثر روائية تراقب أمائر الدمار من خلال رؤية روائبؤة تستلهم كلماتها مما حولها وتنظم حروفها لتحاكي أفواج النازحين وأكوام الحجارة المتداعية من فرط القصف.
وفيما يستعد “زياد” للذهاب للمدرسة ينتهي به الأمر واجما أمام ضريح معلمه في مشهدية تختزل وجع تلاميذ استشهد رفاقهم ومعلموهم عاى امتداد 3 دقائق في دراما “يوم دراسي” (A School Day) لأحمد الدنف.
وقصص المسافة صفر توغل في الوجع لأنها تترجم دواخل فلسطينيين من اعمار مختلفة زمن الحرب على غزة بعيدا عما تعرضه الأخبار على غرار وثائقي “فرح ومريم” ( Farah And Myriam) لوسام موسى إذ تواجه الطفلة “فرح” ذات العشرة أعوام فقد صديقتها “مريم” بلوزة وبراءة.
وعبر الفيلم التجريبي “حمولة زائدة” (Overload) تهرب آلاء أيوب من واقع النزوح وتتخيل نفسها سجينة في إحدى الروايات وتجد بين طياتها ملاذا من القصف فيما يوثق تامر نجم في “الأستاذ” (The Teacher) لرحلة أستاذ يحاول عبثا أن يلبي حاجاته اليومية ويؤثر على نفسه وبه خصاصة.
وأما الفيلم الوثائقي “إعادة تدوير” ( Recycling) لرباب خميس فيخوض في مشكلة شح المياه التي تخطتها عائلة تحاول النجاة على سطح مبنى قديم من خلال فكرة التدوير بكل ما تحمله من قهر في هذا السياق.
وفي وثائقي “صدى” لمصطفى كلاب تدوي أصوات القنابل وسيارات الإسعاف وصرخات الاستغاثة وترتطم ببحر غزة في ليلة طويلة من ليالي الحرب المستمرة على القطاع منذ ما يزيد عن السنة.