كطفلة تحضن لبس العيد في انتظار انبلاج صبحه كنت أعانق فكرة لقاء الفنان أنور براهم في انتظار عرضه الوحيد في تونس ضمن مهرجان دقة الدولي.
السادس من جويلية يوم العيد، ربّتٌ على مكامن الوجع في جسدي ضمّدتها وارتديتُ ابتسامة الطفولة ووليتُ وجهي شطر المسرح الأثري بدقة.
في الطريق إلى الجنة توشح القمر بمسحة من السحاب جعلت منظره آسرا وتناثرت قطع من الجنة على جنبات الطريق واتخذ الطقس منزلة وسطى بين الحر اللاذع والبرد القارس.
وعلى أعتاب مسرح دقة تناثرت نسمات وديعات تغازل الوجنات وخصلات الشعر وكأنها ترحّب بجمهور الفنان أنور براهم الذي يعود إليه بعد سبع سنوات من الغياب.
جحافل من الجمهور حجت إلى دقة لتحضر العرض الوحيد في تونس ضمن جولة عالمية، جمهور من شرائح عمرية مختلفة ومن خلفيات متنوعة اجتمعت على حب موسيقى أنور براهم.
الجمهور يملأ المدارج والأضواء الخافتة توشح ركح المسرح الأثري بدقة في انتظار اللقاء الموعود، ولعلها المرة الأولى التي ينبئ فيها اللون الأسود بحلم لايتكرر.
أنور براهم ورفاقه القدامى يطلون على الركح بأزيائهم السوداء، كل منهم يعانق آلته الموسيقية كأنما يعانق قريبا أو حبيبا والجمهور في المدارج ينتفض فرحا بلحظة اللقاء.
كنت أجلس، وحيدة، في زاوية قريبة من الركح، أتفحص حركات أنور براهم على الركح وأرقب نظراته وهي تطالع جمهوره الذي حج إليه من كل صوب، استشعرت تأثره.
في الأثناء كنتُ أغالب آلام ظهري وأحاول عبثا إيجاد وضعية مريحة للجلوس، استندتُ إلى المدرج ورميت بثقلي في قلب الآثار، وهربتُ إلى الركح.
علّقت عيني بالرفاق الأربعة على الركح أنور براهم (عود) وكلاوس غيزينغ (كلارينيت باس، ساكسفون سوبرانو) وبيورن ماير (باس) وخالد ياسين (دربوكة، بندير)، أية لحمة هذه التي تطبع علاقتهم، أي انسجام هذا الذي يتحول إلى سحر على الركح.
حينما تسربت أول نغمة في أرجاء المسرح الأثري بدقة، سرت حالة من النيرفانا انتشلتني من الواقع وأدرانه وأوجاعه وخفت معه الألم الذي استبد بجسدي فما عدتُ أشعر به فقد أسرت موسيقى أنور براهم روحي.
وهو يحتضن عوده، يدنيه من قلبه ويغازل أوتاره يعاضده رفاقه، فيعزفون جميعا على أوتار الروح وكلما تسربت إليها الموسيقى علا منسوب التناسق الروحي وترتبت الأوراق المبعثرة.
حوارات الموسيقين على الركح وخطاباتهم مع آلاتهم الموسيقية خلقت مشهدية أخاذة على إيقاع حركة الضوء البسيطة التي تنهل من روح الموسيقى، تروي حكايات البشر والحجر، عروقها ضاربة في الوطن وفروعها ممتدة إلى العالم.
مزيج الأصوات القائم على اجتماع آلات العود والساكسفون أو الكلارينات والدربوكة أو البندير متعدد التأويلات يخترق الروح دون إيذان يستنطقها فتتخفف من أعبائها وتتحرك من قيودها.
حالة من الانسجام تتسرب إلى كل الارجاء من فرط تجذرها على الركح بين الرباعي الذي يخلق ألحانا فحسب بل يشيّد عوالم مختلفة أكاد أجزم أنها تؤوي الجميع على اختلافات.
نوتات منسابة كالنسمات التي ملأت المسرح الأثري، تستهوي الإنسان والحيوان، ليس الجمهور فحسب متماهيا مع موسيقى أنور براهم حتى قطط المسرح أيضا.
من ركني القصي لاحت لي قطة أو قط ارتمى/ت بكل ثقله حذو المدارج ثم تسلل/ت إلى الركح حيث اختالت على امتداده واستهوت ابتسامات العازفين حتى أن عازف الساكسفون ظل يرمقها بل إنه حاول دعوتها للمكوث حذوه.
وعلى إيقاع الموسيقى التي تنهل من الروح التونسية والعربية وتوجد نقاط وصل مع موسيقى العالم، يتجلى الجنون العذب والثورة والتحرر وتتناثر قضايا الإنسان أنى كان، ويتبدى الحب في كل تجلياته.
في مستهل العرض تأسرك حركات العازفين وانفعالاتهم مع آلاتهم والحالات الفنية التي يخلقونها على الركح، ولكن كلما تدفقت الموسيقى تشعر لحاجة ملحّة لأن تغمض عينيك وتصغي لها بقلبك.
ما أقدر هذه الموسيقى على إعادة ترتيب الفوضى في داخلنا، وتضميد جراحنا ومواساتنا، إنها تهمس في آذاننا ألا شيء يستحق كل العناء وأن الطريق إلى السلام الداخلي واضحة وجلية.
آهات العشق وانات الشوق وأنفاس الفرح تخترق كل خلايايا ومسامي وتتهاطل الصور في ذهني، تسري بي إلى أكثر من بلد وتعرج إلى أكثر من زمان، أية تعويذات تحملها هذه الألحان حتى يعم كل هذا السحر؟
تغمرني النوتات، أغمض عيني، تتراءى لي روحي في زمن غير الزمن تختال بين الآثار وتراقص الأثير بعد أن رتقتُ كل الثقوب التي تركتها الخيبات والخيانات، ما عدتُ أشعر بالألم.
عمّت النشوة داخلي وانتابتي هدوء غير مسبوق تزين معه الكون وامتلأت الرؤية وضوحا وألوانا وتهاوت كل السوداوية على أعتاب التعبيرات الموسيقية التي يجتمع عندها كل العالم.
تجربة حسية ووجودية، يتماهى فيها الإنساني والوجودي في ركح مهرجان دقة الأثري على إيقاع معزوفات تكسر الأغلال والقيود وتروي قصصا موغلة في الحياة، في المقاومة، في الوجود …
كل موسيقات العالم اجتمعت في أوتار عود أنور براهم، وكل الحكايات الموشحة بالشغف تسللت من هيكله وتحولت إلى طاقة تزداد قوة وسحرا بمعاضدة رفاق دربه إذ غازلوا آلاتهم الموسيقية وبثوا من أرواحهم.
أثر لا ينسى علق ثنايا المسرح الروماني، شعرية وشاعرية معمّدة بموسيقى الجاز، اختيالات متفردة تتبوأ فيها الموسيقى الشرق أوسطية والمغاربية مكانة، ممارسة موسيقية تحاكي العلاج.
فضاء مسرح دقة الشاسع المفتوح على أكثر من سيناريو واحتمال تحول إلى مساحة حميمية خاصة، حيز لممارسة طقوس التشافي والتحرر على إيقاع موسيقى دقيقة غامضة ورقيقة تجمع الشجن والحنين والعنف والوداعة.
رحلة روحانية صار فيها قلبي طائرة ورقية تحوم بين العود والباص والساكسفون والكلارينات والدربوكة والبندير وتنغمس في عالم مداده الحلم فيما تنساب الموسيقى هادئة فمحتدمة.
حنين وذكريات ينهمران على إيقاع معزوفة ” عيون ريتا المذهلة” المستلهمة من قصيدة محمود درويش “ريتا”، في استحضار للشاعر الفلسطيني والمأساة الفلسطينية المستمرة.
بالطبيعة قالها ثلاث ثم أردف “قلبي مع غزة” لكلمات أنور براهم وقع وأثر لما تحمله من صدق تجلى في عينيه اللتان تربع فيهما ألق التأثر، بعد أن رحب بجمهوره على طريقته قائلا ” مااحلاها لمة عندي مدة نستنى فيها”.
فعلا هي لمة حلوة بطعم العسل، اتخذ فيها العزف هيئات مختلفا، قويا وخافتا، عنيفا وهادئه، مرتجفا وصامدا يحاكي اختلاجات الروح وخفقان القلب ويعكس ألق الإحالات الصوفية.
“عطر الغجر”، “توقّف في جيبوتي”، “الحزام الذهبي”، “باهية”، “وقت”، معزوفات تعالت حتى تجاوزت فضاء المسرح الأثري وتشكلت على وقعها هالة من الانتشاء تعمقت على إيقاع “حلفاوين”.
سيل من الأحاسيس والمشاعر تهاطل على ركح مهرجان دقة الدولي حينما ارتسمت كيمياء عصية على التفسير والوصف بين الفنان المتفرد وجمهوره الاستثنائي، وأما أنا فقد شعرت لأول مرة بعد مدة طويلة بالرغبة في النعاس.