عاشت مدينة القلعة الكبرى ليلة أمس، السبت 10 رمضان 1444 هـ – 1 أفريل 2023 م، حدثا مفصليا في تاريخها الثقافي تمثل في افتتاح "زاوية سيدي بن عيسى" التي تعهدت جمعية دروب للثقافة والتنمية بترميمها وبعث الروح فيها من جديد بمعيّة العديد من الأطراف الأخرى. افتتاح غاب عنه البهرج والجانب الرسمي الذي تعوّدنا به في مثل هذه المناسبات والذي لطالما سرق الأنظار عن الحدث الأصلي وهو ما يحسب لصاحب المبادرة سفيان الفقيه فرج الذي وضع لهذا الحدث الإطار الذي يستحق.

لقد أصبح لمدينة القلعة الكبرى التي تسبح فوق ثروات
أثريّة جمّة معظمها مهمل ويلفّه النسيان، بفضل هذا الإنجاز الهام معلم تاريخي تتوفر به كل الشروط العلمية. زاوية سيدي بن عيسى التي ظلت لسنوات طويلة مهملة ومهددة بالسقوط والاندثار وخصوصا قبّتها عاد لها بريقها واحتضنت بمناسبة افتتاحها القاء محاضرة علمية قيّمة ألقاها الباحث بالمعهد الوطني للتراث محمد علي الخرشفي.
في افتتاح الجلسة، أكدت الدكتورة آمنة غيث الاستاذة بكلية الآداب والعلوم الانسانية بسوسة أن هذا الفضاء هو "فضاء جميل عمليا وكذلك من خلال رونقه المعماري وبمختلف مكوناته المعمارية", واعتبرت الباحثة أن عملية الترميم التي انخرط فيها العديد من الفاعلين "هو إنجاز مشرِّف لكل أبناء الجهة ليشمل كل التونسيين. وهو مثال يمكن اعتماده كتجربة رائدة كان السر في نجاحها هو تعاون كل هذه الأطراف فيما بينها".
كما لم تتغافل رئيسة الجلسة ــالتي تميزت بطابعها العائلي والحميمي زادها عذوبة واحساسا آداء الفنان ياسين الكامل الذي أدى وصلات موسيقية متميزة على آلة الكمنجةــ عن تقديم شكرها لكل أبناء الجهة المتداخلين في عملية ترميم قبة سيدي بن عيسي وحفرية معلم الدريبة لتعاونهم التام ودعمهم المطلق لعمليات البحث.
تحدّ شخصي
وخلال مداخلته قدم سفيان الفقيه فرج، رئيس جمعية دروب للثقافة والتنمية، والذي اعتبرته الأستاذة آمنة غيث "بمثابة القاطرة التي قادت هذا المشروع" الإطار العام الذي تمت فيه عملية الترميم والظروف التي حفّت بهذه العملية. وقدّم سفيان الفقيه عرضا مفصّلا ودقيقا عن عملية الترميم من خلال عرض صور تترجم حالة المعلم الذي تم إهماله لعشر سنوات تقريبا مما جعله آيلا للسقوط بسبب الأضرار الجسيمة التي لحقت العديد من الأركان المثبّتة له وبمكونات القبّة التي تآكلت بفعل غلق الزاوية لوقت طويل وغياب عامل التهوئة.
.jpg)
وعن المبادرة في حد ذاتها كشف رئيس جمعية دروب أنه اكتشف بالصدفة الحالة الكارثية التي كانت عليها قبة سيدي بن عيسى من خلال مساهمته في ترميم بعض قاعات المدرسة بدعوة من حاتم دردور. وهو ما حدا به الى الاتصال بالدكتورة آمنة غيث التي كانت بمثابة المستشارة والعمود الفقري في مشروع الترميم من خلال النصائح التي ما فتئت تقدمها في كل مسار عملية الترميم.
وأشاد سفيان الفقيه في معرض تقديمه لعملية الصيانة بكل المتدخلين في هذه المبادرة على غرار أنيس الحجلاوي المتفقد الجهوي للمعهد الوطني للتراث بسوسة وغازي عبودة محافظ مستشار التراث التفقدية الجهوية للتراث بسوسة الذي أشرف على عمليات الترميم ومدير مدرسة بن عيسى السابق معتز الغناي والحالي أنور قلالة وبكل الداعمين والممولين الذين ساهموا كل بحسب إمكانياته في إعادة الروح لمعلم تاريخي متفرّد ليس في القلعة الكبرى فحسب بل في ولاية سوسة بأسرها.

ولعل القيمة المادية المكلفة نسبيا لعملية الترميم والتي كشف عنها أمين مال الجمعية عاطف بن عامر تترجم حجم وقيمة عملية الترميم التي فاقت ربما كل توقعات المشرفين إذ ناهزت حسب الأرقام التفصيلية المقدمة ضمن التقرير المالي العشرين ألف دينار.
ولعل ما يحسب لسفيان الفقيه فرج ــ الذي يعتبر من أهم الفاعلين في المجتمع المدني ــ هو اصراره اللامتناهي وحرصه الشديد على إتمام هذا المشروع الذي لطالما اعتبره تحديا شخصيا رغم الانتقادات الكثيرة التي طالته وعمليات الهرسلة المعنوية التي تعرض لها طيلة المسار الذي اتخذته عملية الصيانة والتي ساهم فيها معنويا وماديا وجسديا اما من خلال التنسيق والدعم المادي أو حتى من خلال مشاركته بالساعد في عملية الترميم.
.jpg)
القلعة الكبرى عبر التاريخ
من جهته أكّد محمد علي الخرشفي، محافظ للتراث بالمعهد الوطني للتراث في محاضرة قدمها بمناسبة افتتاح هذا المعلم وذلك بحضور عدد كبير من أبناء الجهة خصوصا من المتدخلين بصفة مباشرة وغير مباشرة في عملية الترميم، أنه يُرجَّح من خلال عملية الأبحاث التي قام بها الى أن ترقى عملية تشييد زاوية سيدي بن عيسى الى القرن الثامن عشر.
وخلال وضع إنشاء هذا المعلم في إطاره التاريخي قدم المحاضر لمحة عن تاريخ مدينة القلعة الكبرى خلال الفترة العثمانية اذ اعتبر ان هذه المدينة تعتبر من أهم المدن التاريخية في الساحل التونسي رغم ان العديد من فصولها التاريخية تبقى الى اليوم مجهولة.
واعتمد محمد علي الخرشفي في تقديمه على بعض الشهادات المصدرية والتي يرقى أقدمها الى منتصف القرن 16م-10هـ وهي "عبارة عن نسخ من رسوم تحتوي على اسئلة فقهية ذات صبغة شرعية موجهة من سكان القلعة للقاضي ابي القاسم عظوم المرادي طلبا لفتوى وأولها مؤرخ بشهر صفر سنة 1001 هـ -1592 م وثانيها مؤرخ بـ 17 صفر 1006 هـ – 29 سبتمبر 1597 م وذكرت المدينة باسم قلعة الزعارنة وعُرفت بكونها القلعة الكبرى."
كما انتهى الباحث الى أن وجود المدينة قبل هذا التاريخ يعتبر غير مثبت تاريخيا إذ "يبقى وجودها في خانة الافتراض من ذلك ما أشار له الباحث روبار برونشفيك لوجود القلعة الكبرى خلال الفترة الحفصية فقط لوجود القلعة الصغرى التي ذكرها ابن ناجي في كتابه معالم الإيمان منذ القرن 8هـ – 14م".
كما تطرق المختص في التراث والذي أشرف على ترميم وصيانة العديد من المعالم الأثرية بمدينة سوسة وخارجها إلى تاريخ القلعة خلال الفتنة الباشية الحسينية مقرا بأن القلعة الكبرى كانت موالية موالاة تامة للحسينيين بعد أن رفض أهلها الوقوف في صف علي باشا ضد عمه الحسين بن علي حيث كان جوابهم على دعوته الانضمام اليه "نحن رعية العسكر العثماني فمن تبع العسكر تبعناه ومن أطاع العسكر أطعناه ونحن نسلم بانك سيدنا وعمك سلطاننا وحاكمنا، نخاف إن أطعناك يأتينا بالعسكر ويؤاخذنا وسلب الدراهم من أيدينا. وهذا ما تسمعه منا فاذهب يا رسول الى من بعثك ولا تطل معنا الكلام". وهو ما عاد عليهم بالوبال حيث كانت ردة فعل الباشا عنيفة جدا الى درجة قطع غابات الزيتون وحرقها إلى أن جاءهم المدد من الحسين الذي دحر عدوهم واطرده من القلعة الكبرى. وظل هذا الصراع متواصلا بحسب الباحث الى غاية الفوز النهائي للحسينيين حيث "عادت القلعة لموقعها".

واعتبر محمد علي الخرشفي خلال تقديم بحثه، الذي لاقى اهتماما كبيرا من الحاضرين الذي اكتشف العديد منهم تفاصيل كانت مغيبة عنهم، أن القلعة الكبرى مرت بحدث تاريخي آخر في غاية الأهمية تزامن مع تردّدها في الانخراط ــ على عكس أغلب بقية مناطق البلادــ في الحركة الشعبية التي قادها علي بن غذاهم في 1864 وذلك خوفا من تكرار سيناريو الفتنة الحسينية-الباشية.
وقد كلف هذا الموقف عداء العديد من المدن المجاورة لها إلى درجة تعرّضها لهجمات من أكودة والقلعة الصغرى مات فيها ما يقارب 200 شخص من الجانبين، بحسب الباحث. وقد انخرطت مساكن ايضا في هذه الهجمات حيث ذكر الباحث ان اهلها قدموا بمعية اهل القلعة الصغرى للهجوم على سكان القلعة الكبرى مما أدى الى مقتل قرابة 1000 شخص بحسب ما رواه ابن ابي الضياف.
زاوية سيدي بن عيسى : معلم بمواصفات معمارية مميزة
وفي معرض حديثه عن الطابع المعماري لزاوية سيدي بن عيسى المحاذية لجامع بن عيسى والتي كونت معه مشهدا جماليا متفردا، اعتبر محمد علي الخرشفي أن هذا المعلم يعد أحد المعالم التاريخية والأثرية المميزة.
.jpg)
وبحسب ما ورد في اللوحة التعريفية لزاوية سيدي بن عيسى فهي متكوّنة من ثلاثة عناصر. نجد أولا قاعدة مربعة تليها رقبة مثمّنة (ثمانية) تُيسّر الانتقال إلى الشكل الدائري وهو شكل القبّة التي أُنجزت بتقنية الأعناق الخزفية. يتضمّن فضاء الزاوية الداخلي مجموعة من الاعمدة والتيجان ذات النمط الكورنثي والكورنثي المبسط جُلِبت على الأرجح من مواقع أثرية رومانية بالجهة وتاج حفصي رُكِّز على مستوى الجانب القبلي للمعلم.

ويعود تأسيس زاوية سيدي بن عيسى الى العهد العثماني وتنسب الى أحد مشائخ الطرق العيساوية الشيخ محمد بن عيسى أصيل مدينة مكناسة الزيتون المغربية (ولد 1467م – توفي 1526م)
ويعود انتشار الطريقة العيساوية في بلادنا ــ وهي إحدى أبرز الطرق الصوفية التي عرفت انتشارا واسعا في كل دروب البلاد من شمالها الى جنوبها ومن شرقها إلى غربهاــ الى الإمام أبي الحسن الشاذلي (توفي 1258م-656 هـ).
ولعلّ من بين أجمل الاكتشافات خلال عملية الترميم التي تواصل لأشهر عديدة هي النقيشة التي نجحت جمعية دروب في نفض الغبار عنها واظهارها للعيان بعد أن كانت معالمها مطموسة تماما وتم بالتعاون مع المعهد الوطني للتراث وإشرافه ترميمها. وتبيَّن من خلال هذه النقيشة الموجودة بساكف باب الزاوية الرئيسي (باعتبار وجود باب ثانوي تم فتحه من قبل المشرفين على مدرسة بن عيسى لسنوات طويلة لما كانت الزاوية تستغل كقسم لتدريس التلاميذ) وجود عملية تجديد سنة 1796م – 1211 هـ. إذ أن هذه النقيشة تضمنت نصا يتحدث عن تاريخ التجديد من جهة وتأصيل لوجود عائلات الزواري والعكروت في القلعة الكبرى حيث تضمنت النقيشة: "جُددت على يدي الأسطوان الحاج محمد الزواري وعمر العكروت وكان الفراغ منها يوم الجمعة أول يوم من شهر سفر الخير سنة 1211هـ".
وقام المحاضر بعرض بعض الوثائق الارشيفية النادرة التي عثر عليها مؤخرا وتتعلق بفترة منتصف القرن العشرين وفيها عرض لتفاصيل حول هذا المعلم والشخصيات التي تعلقت بها,
وأوصى المحاضر في ختام عرضه الثري بضرورة تثمين هذا المعلم وتشريكه في الأنشطة الثقافية والفكرية بالجهة وفتحه أمام كل الراغبين لزيارته والاطلاع على مكوناته وذلك قصد تطوير رابط الانتماء.كما اعتبر محمد علي الخرشفي أنه من الضروري استغلال هذا المعلم بطريقة تتماشى وتحافظ على طابعه ونمطه التاريخي ودعا في هذا السياق الى الانتقال بزاوية سيدي بن عيسى الى المستوى الثاني بعد الصيانة وهو التثمين.
ولعل هذا الهدف هو ما يسعى إليه المشرفون على هذه المبادرة حتى لا يبقى هذا المعلم حبيس جدران المدرسة الابتدائية التي يرجع لها بالنظر اداريا. وهو أمر لم يعد ذي معنى ولا ذي فائدة إذ من الضروري التحرك في اتجاه نقل ملكية هذه الزاوية التي تعد واحدة من بين العديد من مئات الزوايا الموجودة داخل المؤسسات التربوية، من وزارة التربية الى وزارة الشؤون الثقافية. وهو مطلب طبيعي في ظل الطابع الحضاري والتاريخي الذي يميز هذه المنشئة التي يجب أن حتى تلعب دورها الثقافي ولم لا السياحي كما هو الحال مع بقية المعالم في بلادنا.
