"الملكة الأخيرة"، فيلم جزائري يتماهى فيه التاريخ والأسطورة والجماليات الفنية في محاولة لإلقاء النور على فترة مجهولة من تاريخ الجزائر في أوائل القرن السادس عشر، فترة لم يسل فيها حبر كثير للمؤرخين.
من تفاصيل الحصار الإسباني للجزائر، ومحاولات القوى الوطنية الجزائرية التحرر والاستعانة بالقراصنة الذين صاروا غزاة جددا، ينسج الفيلم الذي يشترك في إخراجه كل من "داميان أونوري" و "عديلة بنديمراد" تفاصيله.
مع المشاركة في إخراج الفيلم، تجسد "عديلة بنديمراد"، أيضا، دور الملكة الأخيرة "زفيرة" المرأة الجزائرية التي هزت عرش القراصنة وأربكتهم حينما تمردت على جبروتهم وحينما خلطت أوراقهم وتركتها مبعثرة لمختار الرحيل.
"زفيرة"، هي الزوجة الثانية لملك الجزائر سليم التوميوهي منطقة مليانة، اقتلعت روحها من جذورها وهبت قلبها لزوج عبثت الأقدار بمصيره حتى صارت وحيدة تقاوم العادات والتقاليد والغزو الجديد.
بداية ملحمية للفيلم بأسلوب مشوق للأفلام التاريخية، نسق غير خطي للأحداث لا مكان فيه للملل، معارك حامية الوطيس، خناجر وسيوف ورؤوس ملقاة على الشاطئ، قصور وحفلات وغناء وأزياء قادمة من عمق التاريخ، بعض من تفاصيل الفيلم.
هذا الفيلم الذي أعاد النقاش بخصوص حقبة تاريخية مازالت تفاصيل كثيرة مجهولة عنها، حتى أن شخصية "زفيرة" تتأرجح بين الواقع والخيال ليضفي الغموض الذي يلف هذه الشخصية تاريخيا ويعطي بعدا آخر للأحداث.
عبر سيناريو ينهل من التاريخ لكنه أيضا يركن إلى الخيال ليشد الأنظار بمشاهد خارجية مبهرة تستمد جمالياتها من مواقع التصوير الأخّاذ ومن الديكورات الداخلية المعمّدة بسحر الماضي.
كل التفاصيل في الفيلم من أزياء وديكورات وشخصيات مرسومة انطلاقا من معطيات تاريخية، وإن كانت شحيحة، اطلع عليها فريق العمل وحاول أن يصنع منها ملامح فيلم نوعي يحلق بتاريخ الجزائر خارج حدودها.
وعن المراوحة بين التاريخ والأسطورة في الفيلم، يقول المخرج "داميان أونوري"، في حديثه مع رياليتي أون لاين، إن الفيلم يروي أحداثا تاريخية تتعلق بحصار الجزائر من قبل الإسبان واستعانته بالإخوان بربروس.
في سياق متصل يشير إلى الاختلاف في الروايات التاريخية المتوفرة بشأن شخصية "زفيرة" وعما إذا ما كانت فعلا موجودة أم أنها أسطورة ولكن ما يشاع عنها أنها امرأة جميلة وقوية وتهتم بلبسها حتى أن تطوير السروال الجزائري نسب إليها في بعض الروايات.
وعن هذه الشخصية الجدلية التي تتمحور حولها أحداث الفيلم والتي تتحكم في نسق تطور الأحداث، الفترة التي تدور فيها القصة لم يكتب عنها المؤرخون كثيرا باستثناء بعض المؤرخين الفرنسيين وبعض الأتراك على اعتبار أنها سبقت الحماية العثمانية لذلك بقيت مجهولة.
في منزلة بين الواقع والخيال يضع المخرج الفيلم إذ يقول إن بعضا من جمالية الفيلم يكمن في هذا الغموض الذي يحاوط الشخصية ويرحل بالمشاهد داخل متاهة تساؤل عن مدى واقعيتها والأحداث التي تستدرها.
فضاء تظافرت فيه العناصر الفنية لتحكي سمات حقبة زمنية مفعمة بالحركة والحياة والفن والثورة والمقاومة والصمود، ديكورات وأزياء واكسسوارات وألوان، عناصر كانت جزءا من سحر بصري خلقته عين مدير التصوير شادي شعبان.
سحر أماكن التصوير الخارجية يأخذ الأعين والقلوب ويحيل إلى سلاسة ورقة في انتقال حركة الكاميرا التي تستنطق الجمال وتلاحق التفاصيل التي تصنع الفرق في مشاهد الفيلم سواء الهادئة منها أو الثائرة.
الموسيقى التصويرية وتصحيح الألوان والمؤثرات البصرية، عناصر جعلت من الفيلم لوحة فنية أضفى عليها المونتاج لمسة سحرية عبر المراوحة بين مواقف متناقضة تكسر الرتابة وتسقي التشويق، مونتاج يحاكي تطريز الجدات لا فجوة بين غرزه.
وفيما يتعلق بالديكورات والازياء التي تعكس انتاجا ضخما، يقول المخرج "داميان أونوري" إن التصوير جرى في الجزائر العاصمة وتلمسان حيث يحاكي المكان الفترة الزمنية لأحداث الفيلم وإن الأزياء من تصميم "جون مارك ميرتي" المولود في الجزائر والمختص في هذه الفترة.
في السياق ذاته، يشير إلى أنه تم الرجوع إلى بعض الكتب التاريخية المتوفرة والتي أتت على ذكر تفاصيل الأزياء تاريخيا إلى جانب الاعتماد على اللوحات الزيتية التي باحت ببعض أسرار تلك الفترة.
أما في ما يخص الدعم لتحقيق هذا الإنتاج السينمائي غير المسبوق عن فترة تاريخية، يشير إلى دعم وزارة الثقافة الجزائرية وصندوق البحر الأحمر ومركز السينما الفرنسي بالإضافة إلى دعم من قطر وتايوان.
إلى جانب السيناريو والإخراج واختيار الممثلين، كان تجسيد الشخصيات في الفيلم مقنعا وصادقا إذ بدا وكأن الممثلين والممثلات أبناء وبنات ذلك العصر وكأن الزمن توقف ليحتويهم في أحداث حقبة ولّت.
وفي أداء الشخصيات يكمن جانب مهم هو جانب اللهجة إذ تتحدث الشخصيات لهجات مختلفة متأتية من العربية والإسلامية والبرتغال والإيطالية والأمازيغية، لم تكن لتظهر بذلك الصدق لولا مجهودات طارق بوعرعارة.
وفي حديثه عن هذا الزخم من اللهجات وكيفية ترجمة النصوص، يقول بوعرعارة في حديثه مع رياليتي أون لاين إن الحوارات كانت تكتب باللغة الفرنسية بعد أن تتم كتابتها استنادا إلى الأغاني والأشعار القديمة، مشيرا إلى أن الممثلين كانوا يحفظون النص ليتم فيما بعد تدقيق النطق إلى حين الوصول إلى الصيغة النهائية في الفيلم.