احتمالات كثيرة للحياة تجلت على ركح مسرح الهواء الطلق بجربة، فسحة تحاكي البرزخ تراءت في عرض افتتاح الدورة الثامنة عشر للقمة الفرنكفونية، عرض يديره فنيا المبدع أمين بوحافة بمشاركة الاوركستر السمفوني التونسي بقيادة المايسترو محمد بوسلامة.
أصوات مختلفة يتماهى فيها الشجن بالابتهاج تعالت في ثنايا المسرح أمام الوفود الرسمية المشاركة في القمة ورئيس الجمهورية ورئيسة الحكومة وعدد من أعضائها وإطارات الوزارات في حفل فني تبدو فيه بصمة العازف عماد العليبي الذي لا يدير ظهره لجذوره ويحمل الموسيقى المغاريبية والافريقية في قلبه وينثرها لتعانق موسيقات العالم.
هي الموسيقى في تجلياتها المختلفة قبل البدء وبعد المنتهى، هي تلك السيرورة التي لا تعترف بحدود ولا فناء تبدّت في تفاصيل العرض الذي جمع مغنين وعازفين من جنسيات مختلفة التقوا على أرض جربة ليغنوا للحب والسلام ولإفريقيا الأم.
الموسيقى " المنقذ" و"الأسمى" في نظر نيتشه وأرسطو، أنقذت الحضور من سطوة الواقع ووجع الأحداث اليومية وسمت بهم إلى عالم لا صوت يعلو فيه على صوت الموسيقى ولا صور فيه إلا تلك التي تشكلها الألحان المنسابة دون قيد.
ليس ذلك فحسب، وإنما برهنت مرة أخرى على قدرة الفنانين التونسيين على الخلق والإبداع وعلى كسر القيود وتجاوز الحدود عبر الموسيقى التي روت حكايات كثيرة عن الأوطان وعن الإنسان، عن الحرية وعن الحب، عن الحياة بتلويناتها اللامتناهية.
بعد أشغال اليوم الأول من القمة وبعد ماراثون من النقاشات، سكتت السياسة عن الكلام ونطق لسان حال الموسيقى ليرواد هاجس الانعتاق من العالم المادي وحدوده وقيوده.
وحينما دقت فرقة "سطا جمعة" الطبول واستنطقت "الزكرة"، تردد في أرجاء المسرح صدى الموسيقى الجربية وظهرت في الشاشة صور تستحضر الموروث الجربي بطريقة تجريدية تراود الخيال.
من الجزيرة تشكلت الملامح الأولى للعرض قبل أن يمد فروعه في زوايا كثيرة من العالم عبر النوتات، ليحاكي صورة القرية الفرنكفونية التي جمعت دولا كثيرة حلّت بلمحات عن تاريخها وموروثها.
في الأثناء تعلن الآلات الموسيقية الأخرى عن رحلة التماهي مع هواجس الإنسان فتشعر بأن النوتات ترويك وتحكي تفاصيل كنت قد تناسيتها لكنها حضرت في أصوات الكمان والتشلو والكلارينات والاكورديون والناي والبيانو.
ولنغمات البيانو في العرض سحر خاص إذ تشعر أنها تغازل أنامل أمين بوحافة وتحاكي مشاعره في صعودها وانحنائها دائما في اتجاه الأعلى، هناك حيث ينتفي الزمان والمكان وتتحرر الروح من المادّيّ.
موسيقى ترشح عاطفة وشجنا وسحرا، حالة من الوجد يترجمها أمين بوحافة إلى ألحان ونغمات تلامس شغاف القلب وتثير في العقل الأسئلة، ويتلقفها عازفو الاوركستر السمفوني التونسي بقيادة المايسترو محمد بوسلامة ليعيدوا خلقها على طريقتهم.
الموسيقى على الركح تجعلك تتجاوز الواقع بحواجزه وقيوده وتنساق وراء أصوات الفنانين محمد علي شبيل وآية دغنوج ولينا شماميان و"أنجليك كيدجو" التي روت حكايات عن تونس وسوريا وأرمينيا والبينين، عن إفريقيا والعالم كله.
قد تشعر أنّك مغترب في واقع تغلب عليه الصراعات ويكون فيه الاختلاف جريمة تجعلك في مواجهة أحكام جاهزة، ولكن موسيقى أمين بوحفّة والأركستر السمفوني التونسي بقيادة "محمد بوسلامة" تنفض عنك غبار هذا الإحساس وتسافر بك إلى ذاتك متجاوزة كل الحواجز.
موسيقى تتجاوز المألوف، تأخذك إلى ما هو أبعد من التقسيمات الموسيقية والألحان والأصوات، ترفض السائد والنمطي والثابت، هي حالة متحرّكة متحوّلة تبدأ من الإبداع وتنتهي إليه.
أعمال عاطفية، لا تخلو من حس مرهف وتنم عن عشق للموسيقى العربية، هي كتابة فوق الكتابة لحالات فنية، موسيقى تحكي الحياة في أحشاء أجسادنا وخارجها حتى بعد ان تفنى هذه الأجساد، حياة بتفاصيل تختلف من إنسان إلى آخر.
حوارات بين أنماط موسيقية مختلفة، بين ثقافات مختلفة، وبين أصوات مختلفة، بعض من تفاصيل المشهدية في مسرح الهواء الطلق بجربة، إذ خلق أمين بوحافة مزيجا بين الموروث المحلي تحديداً جهة الكاف ممثلا في أغنية "الناقوس تكلم" بصوت آية دغنوج والموروث الإفريقي الذي تجلى في صوت الفنانة "أنجليك كدجو" التي تحمل في خامتها سحر البينين.
من الحوارات التي تشدك إليها شدا الحوار بين آلة الناي إذ ناجاها العازف المتفرد حسين بن ميلود فصارت مرآة لروحه وباحت بما يعتمر روحه وآلة الكلارينات إذ بث فيها العازف الحالم اسكندر بن عبيد ما يختلج صدره فكان بوحها نغمات تؤنس الناي في طريقهما إلى القلوب.
وللسلام غنت لينا شماميان بصوتها الملائكي الذي يحاكي آلة الدودوك في شجنها إذ ما أدنى العازف الأرميني ليفون ميناسيان شفتيه منها ليصيرا كيانا واحدا تغدو الأرواح شفافة جدا على إيقاع أنفاسه.
ومن إرث الشيخ العفريت غنى الفنان محمد علي شبيل " ليام كيف الرياح في البريمة" بتوزيع جديد تماهت فيه الموسيقى الأصلية مع المسحة الاركسترالية للتوزيع الجديد لبوحافة.
وفي خطاب ثلاثي لغته الموسيقى صدح صوت محمد علي شبيل من تونس وصوت لينا شماميان من أرمينيا و"أنجليك كدجو" من البينين كل بلهجة بلده ليصير الركح لوحة صوتية تحاكيها صور تمكنك من نسج عالمك الخاص على وقع النوتات.
انتقال عذب من معزوفة إلى أخرى يقطع تسرب الملل إليك في عرض كان ختامه أغنية بعنوان "هذه إفريقيا" غنتها "أنجليك كدجو" صاحب الروح المرحة على الركح، إذ حاولت كسر رتابة الطابع الرسمي للعرض من خلال تشريك الضيوف في الغناء والتعليق على الرد الذي كان أصواتا تكاد تكون همسات أتت من المدارج في الخلف.
في الأثناء تتساءل ماذا لو تلقف الحضور الرسمي "دعابة" الفنانة التي تتجلى الحرية في صوتها وهي تتحدث عن إفريقيا وعن وحدتها وتراقص الإيقاعات لتعانق السماء برأسها الشامخ وتضرب بأقدامها على الأرض وكأنها تستمد منها الطاقة لتسمو أكثر إلى الأعلى لتعود إليها على إيقاع اهتزازات جسدها التي تحاكي نبضات القلب.
وعلى إيقاع رسالة تذكر بعراقة وتاريخ القارة الافريقية انتهى العرض الذي كان نافذة على عالم جميل رسمته أنامل الفنان أمين بوحفّة الذي خطّ مسيرة ابداعية خارج تونس وشاركه في ذلك الاوركستر السمفوني التونسي والضيوف عزفا وغناء دون نسيان جندي الخفاء العازف عماد العليبي وكل الفريق التقني في العرض.