الثلاثاء الثاني عشر من شهر نوفمبر سنة أربعة عشر وألفين.. تاريخ سيظل وشما يزين خانات ذكرياتي ففيه صار حلم الطفولة حقيقة.. صوت القاهرة يناديني وأيادبها تمتد لتحضنني..
لهفة طفل يحضن ملابس العيد اعترتني قبل سويعات من السفر وقطعت طريق النوم إلى جفوني، حالة نفسية وعافية غير مسبوقة تملكتني وأنا أنهي تجهيز الحقائب.
قليلة هي المرات التي غادرت فيها تونس لكن هذه المرة مختلفة فللقاهرة مكانة في قلبي تعاظمت على وقع الروايات والأفلام والمسلسلات حتى صرتُ شخصية خيالية تجوب تفاصيلها.
في الطريق من منزلي إلى المطار بدأت الشخصية الخيالية تذوي شيئا فشيئا تاركة تفاصيلها لي وحدي أنا الحقيقية وعلى وقع تلاشيها كنت أقطع الطريق على عبرات تلألأت في عيني منذ أن حملت حقائبي إلى الخارج.
ضعيفة أنا جدا أمام عيون “دادا” و”ماما” وأختي، أكره لحظات الرحيل وإن كانت وقتية وعابرة، شيء ما يتمزق بداخلي على أعتاب المطار وتتقلص رئتي على وقعه وأختنق..
في الواقع كل أسباب الرحيل متوفرة، مهنة الصحافة صارت قاتلة، الوضعية الاجتماعية والاقتصادية تنحدر نحو القاع، حالة غير مسبوقة من الركود والتكلس، أغلب من حولي أسقطوا أقنعتهم على دفعات..
لكن لا رغبة لي في الرحيل… صوت “دادا ” ودعواتها أقوى من كل البؤس الذي يحاوطني ووجه “تونس” الذي أراه بقلبي أجمل من أن أدير له ظهري.
فوضى مشاعر اجتحاتني في المطار ولكنها تلاشت حينما ارتسمت على شاشة مواعيد الرحلات عبارة “القاهرة ” وابتسمتُ منتصرة لحلم الطفلة التي أحبت السينما فأحبت من خلالها القاهرة..
وهاهي السينما اليوم تبادل الطفلة داخلي الحب الذي تجسد في دعوة لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، هذه الدعوة التي تأجلت لتأتي بطعم الشهد.
لكن لا شهد دون حنظل، في بوابة التفتيش استحضرت النساء الفلسطينيات وطقوس تفتيشهن من الاحتلال على الحواجز، حينما كانت تفتشني شرطية كانت في منتهى اللطافة ولم تغادر ابتسامتها وجهها.
كنت أرتدي ملابس موشحة بأكسسوارات حديدية يبدو لم ترق للجهاز الآلي فكان لا بد من التفتيش الذاتي الذي حملني إلى التفكير في الفلسطينيات..
حينها همست لزميلتي بما اعتراني وكيف أنني انزعجت لمجرد التفكير في كل فلسطينية فتشها العدو رغم أن من فتشتني تونسية مثلي ولم تؤت أي تصرف مزعج..
وغادرنا البوابة باتجاه الطائرة ولم تغادرنا فكرة تفتيش العدو للفلسطينيين وتناثرت حكايات كثيرة في الأثناء وسقطت أوراق التوت على وقع الأحاديث وأقلعت الطائرة…
للمرة الأولى لم أفكر في فوبيا الأماكن المغلقة وشعرت أن الطائرة رحبة جدا وازدادت رحابة حينما أبلغنا قائد الرحلة أننا نطير على مقربة من الأهرامات وبإمكاننا رؤيتها…
كل الصور والتمثلات التي رسمتها عن القاهرة بدأت تتشكل أمامي حقيقة لا غبار عليها ومنذ أن حطت الطائرة وصولا إلى الفندق كنت أملأ ذاكرتي بتفاصيل الشوارع والمباني والمآذن…
لكل شيء في القاهرة روح، كل التفاصيل نابضة بالحياة ناطقة بحكايات لا حصر لها، في كل الزوايا والاركان سحر ما يجعلها مألوفة، لا مجال للشعور بالغربة فيها…
أحد عشر يوما قضيتها في القاهرة خزنت فيها النظرات والابتسامات والآمال والأحلام وتركت في كل شبر مررت به محبة وشغفا بهذه المدينة الآسرة التي كلما أوغلت في اكتشافها تغريك بالمزيد.
بين الأفلام والحوارات واللقاءات في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، وبين الجولات التي ينظمها المهرجان إلى الأهرامات والمتحف الكبير تراوح الاكتشافات في القاهرة بين الملموس والمحسوس، بين الماضي والحاضر، وبين الخيال والحقيقة.
ويبقى للقاء للنيل على شفا عناقه مع القمر أو الشمس سحر خالص خاص به، يا لقدرة هذا النيل على احتواء فوضى الأفكار والمشاعر، على استيعاب قصصنا غير المكتملة، على مواساتنا، على تقبل بوحنا دون ملل.
وللحظات التيه في القاهرة خانة محددة في الذاكرة فهي معمدة بالقصص ومشحونة بالاكتشافات وفيها تصافح وجوها مختلفة وتخبر الطباع..
وبعض هذه اللحظات قد يبدو سورياليا كأن تتوه ورفيقتك ليلا وتنطفئ هواتفكم وحينما تبحث عن إشارة واحدة تشعرك بالأمان تتفطن ألى أنك قبالة سفارة الجمهورية التونسية بجمهورية مصر العربية.
قد يبدو الأمر صدفة ولكن ذلك الحيز الصغير كان بحجم الوطن، بحجم الأمان، وعلى بابه اتضح طريقنا كما زادت قناعتي أنني لستُ شجاعة بما يكفي لأغادر تونس وإن توفرت كل المغريات.
كثيرة هي المواقف التي لا تسقط من ثقوب الذاكرة في نهارات القاهرة ولياليها ومتفردة هي الأحاسيس التي تعتريك عند تاريخها وأثارها وعظيم شعور الحياة الذي يدب داخلك.
خان الخليلي وتفاصيله وشارع المعز ومسجد الحسين وقصر البارون والمتحف الكبير والأهرامات والقاهرة القادمة وغيرها، أماكن كثيرة تترك فيك أثرا كثيرا وتحررك من الواقع وماديته…
أفلام ونقاشات، وجوه أصوات، حكايات عن الإنسان، عن الفن، عن الحروب، عن اللجوء، سيل من الأفكار يجتاحك وأنت تلاحق الأحداث الروائية والوثائقيات على شاشات دار الأوبرا المصرية وسينما الزمالك..
وقبل الاختتام يطل صديقي المرض، لم يوجعني كثيرا هذه المرة ولكنه حد من حركتي بعض الشيء وكان للنيل أثر البسلم على الوجع.. حدثته كثيرا على ضوء القمر وربتت نسماته على قلبي…
فجرا غادرت الفندق في اتجاه مطار القاهرة وواصلت شحن ذاكرتي بالتفاصيل، وفي الطائرة انغمست في متابعة فيلم “أنا لحبيبي” حيث الأدب والمسرح والسينما وصوت فيروز يوشح قصة حب انتهت بموت البطل..
كادت الطائرة أن تحط في مطار تونس قرطاج واقلعت مجددا دون تفسير، بعد مرور دقائق صدح صوت قائد الرحلة بالقول إن اتجاه الرياح غير ملائم للهبوط وأما أنا فكنت أبكي “شادي”..
شكرا للقدر الذي جعلني أنغمس مع قصة حب تشبهنني وإلا انتابتني نوبة هلع لا أحد يعلم عواقبها خاصة وأنني أختزن سيولا من الضيق في صدري..
في المطار حصل الكثير واستمعت لحكايات كثيرة واستبطنتها وابتسمت مطولا لأنني كائن يغري الآخرين بالبوح ورفرف قلبي الذي غادر القاهرة لكنها لم تغادره…