هل جرّبت يوما أن تسقط كل اوراق التوت عن الوطن؟ هل خبرت معنى أن تتجول في ثناياه وهو عار؟ هل خمّنت يوما أن تربّت بكفّك على أركانه المنسية؟ هل فكرت في أن تمرر أناملك على ندوبه وجراحه وتواسي الأحلام الموؤودة؟ هل حاولت أن تشرّع أبواب البؤس وتغرز أظافرك في ثقوب لا تلتئم؟
حقيقة، قد يربكك مجرد تخيل الأمر وترهبك المحاولة ولكن الكاتب محمد بوكوم فعلها وخلق من البؤس الذي يسكن كل التفاصيل في تونس جمالية تجعلك منتشيا وان تعانقه.
تونس عارية، كما لم ترها من قبل ، تقف في مواجهتها وأنت تقتفي أثر حكاية بوكوم في روايته "ديستوبيا 13"، التي تنتمي إلى أدب المدينة الفاسدة، رواية حركت المياه الراكدة وشدّت إليها وإلى كاتبها الأنظار إذ توشّحت بالإصرار والمقاومة.
وليس اعتباطيا، أن تتصدّر الرواية مبيعات الكتب على موقع "أمازون" العالمي للتسوّق الإلكتروني وتشعل شرارة ثورة في عالم النشر والتوزيع وتسقي حلم كل كاتب انصاعت له الكلمات والأفكار فيما أبت دور النشر والتوزيع واستكبرت.
في "ديستوبيا 13" بوح جماعي لذوات متألمة، وامتداد لوجع وطن نخره سوس الفساد وزينت الخيبات ثناياه، تلوينات من البؤس تجرأ بوكوم على إهدائها لقرائه على جرعات، أو ربما دفعة واحدة جزأتها لذّة أسلوبه.
وأنت تفتح ذراعيك لتحضن البؤس الذي أنبأك به الكاتب، يطالعك الجانب الصحفي فيه إذ يخط ملامح الفكرة ببساطة وسلاسة ودون تعقيدات لا جدوى منها، وعلى قصصه القصيرة يوزع البؤس بلا ميزان.
لكل قصة عنوانها المستقل وبؤسها الخاص الذي يميزها عن بعضها البعض ولكنه يدفعها إلى الالتحام في نقطة ما، ففي البدء يتسرب إليك البؤس قطرة قطرة قبل أن يتكوم في ركن واحد، وتمضي الأفكار على إيقاع خيط ناظم قبل أن تتبعثر وتتهاوى على أعتاب المدينة الفاسدة.
من فاتحة الرواية إلى خاتمتها، يبدو بوكوم ماسكا بزمام الحبكة بارعا في إقحام القارئ في تفاصيلها مجيدا لتوزيع الأدوار ورسم الملامح وصياغة الخلفيات ومتمكنا من التأرجح بين الأزمنة والأمكنة، فلا مكان للملل والرتابة في "ديستوبيا 13".
خلفية الكاتب السينمائية حاضرة أيضا في الرواية في قدرته على تصوير الأحداث والاعتناء بالتفاصيل التي تبعث في الشخصية روحا فتحترق بدموعها وتجزع لدمها النازف وتصغي لأنفاسها المضطربة وتلاحق صرخاتها المكتومة.
وفي الحوار، أظهر خالق الشخصيات تمكنه من مفاصل الشخصيات عبر استنطاقها بطريقة تعكس صراعاتها الداخلية والخارجية وتتلاءم مع بيئتها، تماما كما السرد والوصف التقنيات التي أجاد محمد بوكوم تحريك خيوطها في اتجاه يجعلك مأخوذا بتفاصيل الحكاية التي تعزف على أوتار عاطفتك حينا وعقلك حينا آخر.
شخصيات كثيرة برع في تشكيل ملامحها ونسج حكاياتها ورسم تحركاتها ليصور مشهدية من فترة في تاريخ تونس لفها السواد، فترة تمتد من قبيل الثورة إلى اليوم، هي فترة الانتقال الديمقراطي التي استشرى فيها الفساد بتمظهرات مختلفة وتداعت فيها الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وعم البؤس.
التجاذبات السياسية والصراعات الهووية، وحالة الخمول التي استشرت في الشعب الذي قال "لا" ذات ثورة، للمخدرات، والسلفية الجهادية والإرهاب، وقوارب الموت، وتجارة السلاح، والقمع البوليسي، والدسائس، بعض من الأوتاد التي شكّلت معالم البؤس في الرواية.
هو البؤس الذي يتراءى في الحي الذي يقطن فيه "وليد" الشخصية التي حملت على عاتقها وزر المدينة الفاسدة، في ذلك الحي بدؤه ومنتهاه وكان الكاتب يصر إلحاحا على تذكيرك بأنك تدور حول نفسك في حلقة مفرغة وأن الوضع يتطلب الكثير والكثير من البؤس حتى يتغير.
تجليات مختلفة للمأساة يصورها الكاتب وهو يراوح بين الظلم والفقر والتهميش والفساد والزيف والقمع والكذب والتعصب والتخلف، وينقلك بسلاسة بين قطرات دم تسربت من بين فخذين فأدت إلى قطيعة بين ابنة ووالدها، وقطرات دم تسربت من رئة فأضافت لبنة اخرى في "صرح" المدينة الفاسدة.
قصص كثيرة ترويها كلمات محمد بوكوم العميقة على بساطتها فهو لا يتعالى على القارئ، من الفقر والبطالة إلى الإرهاب وجرائم الشرف وتنصّل الدولة من مسؤولياتها وصولا إلى سفرات الموت رغبة في النعيم الجاثم على الضفة الأخرى، قصص لأحياء على قيد الموت، قصص إما أن تكون فيها قالب سكّر أو يلتهمك "السيستام".
في تنقلك بين حروف الرواية التي غمسها الكاتب في بؤس تحيط به هالة من الاستيتيقا تتفجر معها الأفكار في ذهنك فتسائل المفاهيم التي يؤويها وتسائل ذاتك وسلوكياتك وتتفكّر في الواقع من حولك، يهتز وجدانك مع تدفق السرد وتتواتر آهاتك وتنهيداتك وكأنها الرياح العاتيات.
على إيقاع البؤس تستفزك عبارات الكاتب وتستثير عبراتك التي ينقطع سيلها على حافة ابتسامة تراوح بين الكبت والانفلات، وتحاصرك الانفعالات والرغبات وتستسلم إلى الحروف وهي تعزف على أوتار البؤس والوجع.
تجد الصور والمشاهد طريقها إلى قلبك مباشرة، لأنّها حبّرت بإحساس مرهف ولغة متينة وسلسلة تدغدغ العاطفة وتلهب فيك نار الغضب والثورة كل حين، تحكي قصص الذوات المرهقة بتمرّدها ولحظات النشوة والانتصار والحلم إذا ما تلاشت على أعتاب الواقع.
من الذاتي إلى الموضوعي تحملك كلمات "دستوبيا 13 وتصور لك معاناة مواطنين لا يحلمون بغير العدل وتتمثل نفسك في تفاصيل من تفاصيل الحكايات التي يرويها وفيما أنن تجول بروحك وفكرك ووجدانك بين المعاني تقفز إليك صور ظلت وشما في الذاكرة.
صورة عمر الذي مات لأنه لا يحسن السباحة و صور شاحنة الموت التي صبغتها دماء نساء السبالة ذات حادث، وصور آلاف العاطلين عن العمل وعن الحلم وصور شهداء بذلوا دماءهم من أجل الشغل والحرية والكرامة، وصور أخرى تتجلى أمامك بين السطور وتعلو أصوات الرفض لتملأ الهوة السحيقة بين المواطنين ودولة استقالت من واجباتها في أكثر من مناسبة.
تتهاطل الأسئلة وتتزاحم داخل رأسك وان تحاول أن تستوعب البؤس الذي يتكاثف من حولك وتعم الفوضى حواسك وأحاسيسك ولا ينتهي المخاض ولا تولد الأجوبة ولكنك تنتشي بمعانقة البؤس.