فيما تشكل الطبيعة جماليات لامتناهية، يعشش القبح في ثنايا الجدران ويسري إلى الحياة اليومية ليترك أمائره على وجه طفل لم يعرف ربيع العمر.
تونس بكل زينتها، تتراءى لك من بين تفاصيل المشاهد التي يصورها فيلم "روبة عيشة" للمخرج محمد سعيد، وتتبدى الصور جميلة آخاذة، فيما يعاني الطفل صابر على الضفة الأخرى ليقتني قوت يومه.
من ثنائيات القبح والجمال، والحياة والموت، والعدل والظلم ينسج المخرج ملامح فيلم مغرق في الشاعرية وموغل في الوجع بطرح بسيط محمّل بتساؤلات فلسفية وجودية عميقة.
"صابر" الطفل الذي لا ينفك يلاحق المليمات كي لا يعود خاوي الوفاض الى والدته التي تصارع المرض والواقع وأشياء كثيرة أخرى يحكي سحوبها ووجومها بعضها.
هذا الطفل، من المفترض أن يكون في قسمه بين أترابه بتعلم ويلعب، ولكن الحياة اختارت ان يكون تلميذه وكان امتحانه صعبا جدا، صعبا حد العجز عن وصفه.
يوم "صابر" يشبه أيام أطفال كثيرين قدرهم الخصاصة والحاجة والتهميش، ولكنه ينسى ما قد مضى حينما يرتمي في حضن أمه المثقل بالأوجاع.
وإن فرط الطفل في طفولته ليعيل أمه، تغالي هي الوجع لكي ترسم على شفاهه ابتسامة تمحو بها آثار التعب والفقر وما لف لفهما.
قصة "صابر" (يحي بوستة) وأمه "عيشة"(فاطمة الفالحي) تنسحب على قصص كثيرة أخرى خلفتها كذبة العدالة الاجتماعية التي تمتد من الحياة والموت، فإن لم تصافحها حياة لن ترميك بنظرة ود عند الموت.
"عيشة" تنازع وتحتضر والمستشفى يلفظ جسدها إلى بيتها حيث تداعت الجدران وتآكل السقف وتسربت العتمة التي لا يحاربها إلا بصيص النور المنساب من قنديل زيتي.
البرد يتسلل بين الفراغات ليرتطم بآهات "عيشة" العامة وتنهيداتها المكتومة ويتدثر الولد وأمه بأنفاس بعضهما البعض ويلعنان الكذب والزيف من حولهما.
لا أحد يلتفت الى الأم وولدها غير "لشهب " (محمد حسين قريع) الذي يقاسمهما الوجع وجور الدولة، وحده الذي عايش نفس الحالة بإمكانه استيعاب صمتهما وغضبهما الساكن.
على عربته التي يجرها حمار، يستأنس "لشهب" بـ"صابر" على امتداد الطريق التي تبدو وكأنها قطعة من الجنة لفرط جمالها، قبل أن يبلغا المنزل الذي يختزل الفاقة.
لا أحد يعرف طبيعة العلاقة التي تجمع، "لشهب" بالعائلة ولكن الأكيد انه الوحيد الذي كان حاضرا في مراسم دفن الام، وهنا قصة أخرى للتهميش والنسيان وغياب العدالة.
فالفيلم ليس إلا صرخة في كل تجليات البؤس، اقتباسا عن مقال بتحدث عن غلاء أسعار القبور وتكاليف دفن الميت، لتكون "عيشة" عينة لما يقاسيه المعذبون في الارض حياة وموتا.
وفي رفض للواقع ولغياب العدالة، يأتي عنوان الفيلم مضادا لأحداثه، فالأمر لا يتعلق أبدا بفستان "عيشة" إنما هو كفنها الذي أوجده طفلها كما عادته دائما.
ربما العنوان أيضا، امتداد لعدم اقتناع شخصية "صابر" الابن برحيل أمه عن هذا العالم، ودفنها خلسة لانعدام ذات اليد.
عملية الدفن، على ما تحمله من إحالات سلبية، كانت في مكان لا يخلو من جمالية، الجمالية ذاتها التي يسرّبها المخرج في كل تفاصيل الفيلم، كأنه يقول ألا يأس مع الحياة وإن تعاظمت تجليات البؤس.
وعلى إيقاع أسلوب إخراج محمل بالاستيتيقا، سعىالمخرج الى بسط وجه تونس الجميلة بطبيعتها الأخاذة، وطرح الواقع الموجع بتفاصيله الباعثة على البكاء، كان أداء الممثلين لافتا.
كعادته، يندفع محمد حسين قريع بكل ما أوتي من عفوية أمام الكاميرا، ويتقمص الشخصية ببساطة ودون تصنع، فاطمة الفالحي، ايضا، كان أداؤها خاليا من التكلف ومفعما بالصدق، والعروسة التي سرت أيضا في أداء الطفل يحي بوستة، فكان التناغم عنوان أداء الثلاثي.
والفيلم المحمل بالرسائل شد إليه الأنظار في عروضه الاولى وقد تحصل على جائزة أحسن دراما في مهرجان نيويورك السينمائي، وجائزة لجنة التحكيم في مهرجان القاهرة الدولي نهاية الشهر الماضي إلى جانب جائزة أحسن فيلم روائي قصير في مهرجان الفيلم القصير في لبنان والجائزة الكبرى للأفلام القصيرة ضمن الدورة العاشرة لمهرجان وجدة للفيلم المغاربي وغيرها من الجوائز.