بقلم أ.د عادل بن يوسف، (أستاذ التاريخ المعاصر والزمن الراهن بكليّة الحقوق والعلوم السياسيّة بسوسة)
في أسباب اندلاع الكفاح المسلّح: ظرفية سياسية صعبة وتنكّر فرنسا لوعودها:
لا يمكن في اعتقادنا الحديث عن أسباب اندلاع الكفاح المسلّح دون العودة إلى ظرفية ما قبل 1952 وتحديدا الفترة الممتدة بين 1946 و 1952:
على إثر الإفراج عن زعماء الحزب المعتقلين منذ أحداث 9 أفريل 1938 والمضاعفات الكارثية للحرب العالمية الثانية على الاقتصاد والمجتمع التونسيَيْنِ، استأنف النشاط الوطني في تونس بقوّة غداة هذه الحرب الكونية على ضوء الأوضاع الداخلية وعديد الأحداث الإقليمية والدولية الجديدة. وقد أفضت جهود الوطنيّين إلى عقد مؤتمر ليلة القدر [1] بالمدينة العتيقة يوم 23 أوت 1946 وضمّ كافة التنظيمات السياسية والنقابيّة والفصائل الفكريّة والهيئات المهنيّة الوطنيّة – بما فيها الحزب الدستوري القديم – ورُفع لأول مرّة وبوضوح مطلب استقلال تونس عن فرنسا.
وأثناء الندوة الصحفيّة التي عقدها يوم 20 أوت 1947، صرّح الأمين العام للحزب الحرّ الدستوري الجديد، الأستاذ صالح بن يوسف بأنّه سيتمّ العمل على دفع الإدارة الاستعمارية إلى قبول الحوار مع قيادة الحركة الوطنية عن طريق الضغط الشعبي والدولي. وأمام تواصل رفضها للحوار، سيتمّ الإعلان عن مطلب الاستقلال بصفة آنيّة والدخول في صراع غير متكافئ مع السلطات الاستعمارية.
ومنذ عودته من المشرق يوم 8 سبتمبر 1949، أكّد رئيس الحزب، الحبيب بورڤيبة مرّة أخرى أنّ المطالبة بالحكم الذاتي عن طريق بعث السلطة التنفيذية التونسية المؤتمنة على السيادة التونسية وتشكيل حكومة تونسية صرفة مسؤولة عن الأمن العام، يرأسها وزير أكبر يتولّى رئاسة مجلس الوزراء بصورة فعليّة وبعث مجلس وطني منتخب بالاقتراع العام، تكون من أولى مهامه إعداد دستور ديمقراطي يضبط العلاقات بين تونس وفرنسا على أساس احترام السيادة التونسية ومصالح فرنسا المشروعة، هي مرحلة على درب بالظفر بالاستقلال. وهو برنامج النقاط السّبع الذي طرحه الزعيم الحبيب بورڤيبة يوم 14 أفريل 1950 بباريس.
لكن في تصريح له، حذّر بورڤيبة الصّحافة الفرنسيّة من خطورة المرحلة ودقّتها بقوله: ” حذار، إنّ زمجرة الغضب بدأت تصعد. فقد بلغ استياء التونسيّين حدّ السّخط. وإذا ما تواصل الرّفض الفرنسي لهذه الإصلاحات الضرورية والعاجلة (…)، فإنّ ردّنا سيكون بشنّ أعمال شغب (…)”[2].
كما عمل الحزب على مواصلة مساعيه بتدويل القضية التونسية وكسب أنصار في صفّ القوى التحرّرية والمناهضة للاستعمار مع المراهنة على التحالف مع المعسكر الغربي في إطار الحرب الباردة وذلك عن طريق توظيف ورقة الضغط الأمريكي على السياسة الاستعمارية الفرنسية. وفي نفس الوقت مواصلة التعبئة الداخلية وذلك بتمتين أركان الجبهة الوطنية المناهضة للاستعمار: مبادرة تشكيل ” لجنة العمل من أجل الضمانات الدستورية والتمثيل الشعبي” يوم 12 ماي 1951، وإعداد التشكيلات الحزبية (الشُّعَبُ والجامعات الدستورية) لما ستؤول إليه نتائج حكومة محمّد شنيق التفاوضية.
وما إن فشلت الحكومة التفاوضية في إجبار السلطات الفرنسية على الإيفاء بوعدها المتمثّل في إنجاز الإصلاحات المرجوّة، ألا وهي تحقيق الاستقلال الداخلي المنشود، حتى بادر في 31 أكتوبر 1951، بتوجيه المذكّرة الرسمية التونسية إلى فرنسا بخصوص تحقيق الاستقلال الداخلي لتونس. غير أنّ فرنسا التي جاء ردّها في مذكّرة وزير خارجيتها “روبار شومان” Robert Schuman” إلى رئيس الحكومة محمّد شنيق في 15 ديسمبر 1951، قد أعلنت تمسّكها بمبدأ السيادة المزدوجة وأنّ ” الرّابطة بين تونس وفرنسا أبديّة “[3].
وفي مساء نفس اليوم، انعقدت بباريس لجنة لدراسة المذكّرة وانتهت إلى التعبير أنّ فرنسا خيّبت الآمال برفضها المطالب التونسية. وقد عبّر عن ذلك بورڤيبة بتصريح للصحافة الفرنسية جاء فيه : “… وقد طُويت صفحة من صفحات تونس وفُتحت أخرى، فإنّ جواب شومان فتح عهد تعسّف ومقاومة بما فيه من دموع وأحزان وضغائن…”[4]. وكانت تصريحات المسؤولين الاشتراكيّين عقب مذكّرة الرّفض تلك مساندة لقادة الحزب الدستوري.
فقد صرّح “أندري بودي “André Budet” قائلا: “إنّ ما يخدش كرامة التونسيّين أنهم ولأول مرّة يكتشفون أنّ سيادتهم أصبحت محلّ شكّ، والأخطر من ذلك أنّ قطع المفاوضات حسب المذكّرة، جاء نتيجة تسليط ضغوط من التجمّع الفرنسي بتونس”[5]. أمّا “أندري فليب” André Philippe”، فقد صرّح قائلا: ” إنّ التراجع في الوعود التي قدمتها فرنسا يمكن أن يكون له انعكاسات خطيرة جدا داخل البلاد وعلى المستوى الدولي “[6].
وإثر عودته من باريس كثّف الزعيم الحبيب بورڤيبة اتصالاته بالقاعدة الشعبية في كامل أنحاء الإيّالة عبر اجتماعات وخطب دعائية جماهيرية…، في كل من المنستير (8 جانفي 1952) وتونس العاصمة (11 جانفي 1952) و بنزرت (13 جانفي 1952)، شرح فيها ومحتوى المذكّرة وسبب فشل الحوار مع فرنسا مهيّئًا الشعب التونسي للكفاح المسلّح بقوله : ” إنّ الوقت قد حان لخوض المعركة الحاسمة “!
ولمجابهة المدّ التحرّري وكسر إرادة الوطنيّين وتلبية لرغبة الاستعماريّين في تونس، قامت السلطات الفرنسية في 9 جانفي 1952 بتعويض المقيم العام “لوي برليي”Louis Perillier” بالعسكري المتصلّب “جان دي هوت كلوك” Jean De Haute Cloque” الذي حلّ يوم 13 جانفي على متن بارجة حربيّة تصحبها طائرات مقاتلة إيذانا باستخدام القوّة وترهيب التونسيّين وتشديد الخناق على الوطنيّين (انظر الصورة المرافقة).
وفي يوم 16 جانفي 1952، أصدر مرسوما يحجّر كل الاجتماعات العامة والتظاهر ومنع الحزب الحرّ الدستوري الجديد من عقد مؤتمره الرابع. لكن إصرار الوطنيّين على تحدي فرنسا وبلوغ هدفهم، كلفهم ذلك ما كلفهم قد فاق إرادة المقيم العام الفرنسي.
18 جانفي 1952 “تاريخ مفصليّ في الوعي الوطنيّ التونسي” بإعلان المعركة التحريرية والكفاح المسلّح:
كان الردّ الرسمي للحزب الحرّ الدستوري الجديد ومناضليه على سياسة التسويف والمماطلة الفرنسية بعقد مؤتمر سرّي بنهج ڨرمطّو (سيدي محرز) يوم 18 جانفي 1952، برئاسة الزعيم الهادي شاكر. وقد جاء في اللاّئحة المُصادق عليها بالإجماع في أعقاب المؤتمر ما يلي: “(…) ويؤكّد المؤتمر أنّه لا يمكن التعاون المثمر بين البلديْن (تونس وفرنسا) في الميادين الثقافية والاقتصادية والدّفاع إلاّ بانتهاء الحماية واستقلال البلاد التونسية وإبرام معاهدة ودّ وتحالف على قَدَمِ المساواة (…)”[7].
وفي نفس اليوم قامت السلطات الفرنسية بإيقاف حوالي 150 وطنيّا من الدستوريّين والشيوعيّين والنقابيّين، كان من أبرزهم الحبيب بورڤيبة والمنجي سليم (اللّذان أُبعِدا إلى طبرقة) والهادي شاكر… ومحمّد النّافع وموريس نزّار (عن الحزب الشيوعي التونسي)… الخ. كما تمّ إبعاد مدير الحزب الدستوري الحبيب بورقيبة إلى رمادة في 26 مارس 1952 ثمّ إلى جزيرة جالطة (التي مكث بها بين 20 ماي 1952 و 21 ماي 1953) ومنها إلى جزيرة لاغروا “L’île de Groix ” وأخيرا إلى “قصر لا فارتي “Château de La Ferté” بضاحية “آميّي “Amilly” قرب باريس في 21 جويلية 1954.
وعموما كان فشل سياسة الحوار بين تونس وفرنسا منعرجا هاما دفع الحزب الحرّ الدستوري الجديد إلى تجنيد قواعده وإعطاء إشارة انطلاق النضال الوطني ضد المستعمر الفرنسي ورموزه وذلك بتكثيف النشاط الوطني المعادي لفرنسا، سواء بالنسبة للمدنيّين الذين أعلنوا حركة العصيان بكامل أنحاء المملكة عبر العمل السياسي السري، أو بانطلاق الكفاح المسلّح في الجبال والمرتفعات بالنسبة للثوّار ببنادق صيد وبنادق عسكرية ألمانية تعود لفترة الحرب العالمية قديمة ومعدات يدوية تقليدية: متفجرات معدة للصيد البحري ومقاطع الحجارة… وز. فكان على حد قول عديد المؤرخين الفرنسيّين “تاريخا مفصليّا في تاريخ الوعي الوطنيّ التونسي”. فكيف تعاملت السلطات الفرنسية مع هذا المعطى الجديد؟
سياسة القمع والتنكيل الفرنسي: جريمة دولة !
للتذكير بدأت السلطات الفرنسية باستخدام القوّة وإطلاق النار على المتظاهرين قبل 18 جانفي. ففي يوم 17 جانفي 1952 سقط 03 شهداء بمنزل بورقيبة و 50 جريحا. وفي اليوم الموالي سقط بالعاصمة 05 شهداء وعدد هام من الجرحى. وفي يوم 19 جانفي سقط 06 شهداء بمدينة ماطر و03 شهداء بنابل. وفي سوم 20 جانفي 08 شهداء بتونس العاصمة[8].
وليس من السهل الإتيان على مختلف مراحل وأطوار المعركة التحريرية بكامل أنحاء المملكة بسبب امتداد ها على أكثر من سنتين ونصف (بين 18 جانفي 1952 و 31 جويلية 1954 (تاريخ الخطاب التاريخي لرئيس الحكومة الفرنسية “بيار منداس فرانس” Pierre – Mendes France” بقصر قرطاج أمام ملك البلاد محمّد الأمين باي أعلن فيه عن اعتراف فرنسا رسميا بالاستقلال الداخلي لتونس) وحتى بعد هذا الخطاب بأشهر قليلة (معركة برقو بين 8 و 13 نوفمبر 1954)، بل لكونها جمعت بين الكفاح المسلّح والعمل السياسي السري والمعلن، من جهة إضافة إلى سياسة الكرّ والفرّ بين السلطات الفرنسية بين رموز المقاومة المسلّحة والعمل السياسي السرّي بكامل أنحاء البلاد: بالأرياف والقرى والمدن من جهة أخرى من جهة أخرى. لذلك سنكتفي بالتطرّق إلى بعض المحطّات الرئيسية منها ثمّ حصيلتها النهائية.
وحسب الوثائق المتخصّصة في تاريخ الحركة الوطنية والشهادات الشفوية لعديد المناضلين والمقاومبن والمذكرات والسير الذاتية، وجدت هذه حملة القمع الرسمية الفرنسية مساندة من غلاة الاستعمار الذين تنظموا في شكل مجموعات متطرفة تكونت من المعمرين وقدماء المحاربين ومن البوليس، فأسّسوا لهذا الغرض منظمة “اليد الحمراء” المعروفة بتورطها في عمليات التمشيط و المداهمة والترويع والاعتداء والتعذيب والتنكيل والتصفية العلنية في الساحات العامة دون محاكمات والتخطيط لاغتيال عشرات الوطنيّين نذكر في مقدمتهم شهداء الوطن: الشهيد فرحات حشاد في 05 ديسمبر 1952 بعد تولّيه مسؤولية قيادة المقاومة التونسية بعد اعتقال زعماء الحزب وسجنهم ونفيهم خارج البلاد، فتعالت الأصوات واشتدت التحركات الشعبية والإضرابات… وقد سبّب ذلك ارتباكا للمستعمر الذي أيقن أنّ الزعيم النقابي الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل وراء كل ذلك، فتمّ اتخاذ القرار بوجوب التخلص منه فكانت جريمة دولة بأتمّ معنى الكلمة. وقد تلته عمليات اغتيال أعدها ونفذها تنظيم “اليد الحمراء” السرّي طالت كل من: المناضل الهادي شاكر بنابل في 13 سبتمبر 1953 و المناضِلَيْن علي والطاهر حفّوز بنصر الله في 24 ماي 1954 والمناضل الدكتور عبد الرحمان مامي بالمرسى في 13 جويلية 1954… والقائمة تطول.
مشاركة مكثّفة للشباب:
لم يكن الشباب التونسي من تلاميذ بمختلف المدارس والمؤسّسات التربوية الابتدائية والمعاهد الثانوية وطلبة بجامع الزيتونة و بالجامعات الأجنبية (بفرنسا وبالمشرق العربي: بمصر وسوريا والعراق) والمنضوين في جمعيات الكشافة التونسية والشبيبة المدرسية (تأسّست سنة 1932) والشبيبة الدستورية (تأسّست سنة 1936) والاتحاد العام لطلبة تونس (تأسّس سرا في جانفي 1952 ورسميا بباريس في 23 جويلية 1953 ولم تعترف به السلطات الفرنسية رسميا إلا في سنة 1955) في معزل عن الأحداث التي شهدتها البلاد بين 1952 و 1954. ففي الوسط المدرسي أحصينا 56 تحركا بين 20 جانفي و 15 مارس 1954 في شكل إضراب عن الدروس ورفع شعارات معادية لفرنسا وحالات هيجان ورفع شعارات مساندة للحزب ومعادية لفرنسا إتلاف تجهيزات مدرسية واجتماعات داخل المؤسسات التربوية ومشاركة في مظاهرات خارجها… وقد اضطرّت السلطات الفرنسية إلى اقتحام عديد المؤسسات التربوية وإيقاف المئات من التلاميذ والطلبة بالعاصمة وداخل البلاد (بتونس الكبرى وسوسة والمنستير وصفاقس وباجة وماطر وبنزرت…) وطرد البعض منهم بقرارات من مجالس الأقسام وإحالة البعض الآخر على المحاكم المدنية الفرنسية بجل المدن والعسكرية المنتصبة للغرض في كل من تونس وسوسة وصفاقس. وقد أصدرت هذه الأخيرة أحكاما تراوحت بين السجن لمدة 15 يوما وخطايا مالية تراوحت بين 500 و 10.000 فرنكا وببين إخلاء السبيل والسجن لمدة سنتين[9].
مشاركة متميّزة للمرأة التونسية:
لم تكن المرأة التونسية غائبة عن المعركة التحريرية. أمّا أشكال هذا الحضور فكانت عديدة أولها أنهنّ كنّ زوجات أو أخوات أو بنات أو قريبات المقاومين فقمن بدعم المقاومة لوجستيا وذلك بتحويل الأسلحة وخاصة توفير المؤونة واللباس ونقل التعليمات إلى المقاومين في الجبال، من قادة الحزب على الصعيدين المركزي أو الجهوي المعلومات والمعلومات الاستخباراتية: الإعلام بتنقلات الجيش والجندرمة الفرنسيَيْنِ بالجهات – إخفاء أسلحة ومتفجّرات في منازلهنّ ثمّ حملها إلى المقاومين في الشعاب والجبال أو المخابئ… والأمثلة على هذا الدعم عديدة نذكر في مقدمتها: خضراء الزيديّة (صعدت إلى الجبل مع زوجها) ومبروكة بنت محمد (زوجة المقاوم حسن الغيلوفي: أصيلة جهة الحامة كانت تقوم باستقبال المقاومين وإيوائهم وحفظ أسرارهم… وقد تعرّضت للتهديد من القوات الاستعمارية) و حسينيّة رمضان عميّد (حملت السلاح مع الأزهر الشرايطي بجهة قفصة وفجّرت جسرا على وادي المالح بين قفصة وزانوش وشاركت في معركة سيدي عيش 2 وتحصّلت على “بطاقة دولاتور”) و محجوبة الموساوي (مقاومة وصحفيّة جزائرية في مجموعة الشرايطي، كانت تجمع المعلومات للمقاومين) و ريم المسّية (زوجة مناضل من المكناسي، تكفلت بمتوين المقاومين بالجهة وتخييط الأزياء لهم و محبوبة حرم عبد الحفيظ الحاجّي (ابنة المقاوم حسين الحاجّي، من أولاد الحاج سيدي عيش، موّلت المقاومة) و دُولة بنت محمد الصالح عميّد (مُخبرة نقلت الأخبار تحت غطاء تاجرة متجوّلة) و تونس حرم العربي الرّاهم السلاّمي (مموّلة “للثورة” مع زوجها، من أولاد سلاّم، بكاف دربي بمعتمدية قفصة الشمالية) و محبوبة الحاج شكري (زوجة عبد الحفيظ الحاجّي من سيدي عيش، موّلت المقاومة) و عسريّة حرم أحمد اليحياوي (من سقي المظيلة، موّلت وآوت وعالجت المقاومين) و الحاجّة زهرة نصيب دُولة (من قصر قفصة، امرأة ثرية موّلت الثوّار بالمال) و الطاوس الشرايطي (حرم الأزهر الشرايطي وابنة عمّه دعّمت زوجها وجُرحت في إحدى المعارك معه) و محبوبة الفيلي (من جبل السلّوم بالقصرين. لقِّبت بـ “الزعيمة”)… وغيرهنّ كثيرات.
أمّا المقاومات اللائي صَعِدنَ إلى الجبال فلم نسجّل سوى ثلاث نساء، اثنتان منهنّ تحصّلتا على “بطاقة الأمان” التي يسميها المقاومون “بطاقة دي لاتور” (نسبة إلى المقيم العام الجنرال “بواييي دولاتور” “Boyer de Latour”): حسنيّة رمضان عميّد من مجموعة الأزهر الشرايطي بجهة قفصة وكذلك رفيقتها الجزائرية مسعودة موساوي المعروفة باسم محجوبة منصور بنفس المجموعة (من مواليد مدينة جيجل بالجزائر سنة 1920، التي قدمت مع عائلتها إلى تونس واستقرّت برادس. وعند اندلاع المقاومة المسلحة التحقت بمجموعة الأزهر الشرايطي وكان دورها إعلاميا بالأساس. وباندلاع حرب التحرير الجزائرية التحقت بالثورة واستشهدت في جبال الأوراس سنة 1957 وهي حاملة للسلاح)[10].
كما شاركت المرأة في المدن والأرياف في المعركة التحريرية. ففي 15 جانفي 1952، حيث خرجت أول مظاهرة نسائية بمدينة باجة معقل الاستعمار الفرنسي وتبعتها مظاهرات في كل من سوسة وصفاقس والمنستير ونابل وغيرها من المدن…
وعندما عمّت الثورة كامل البلاد وتعرّض المناضلون إلى مختلف آليات القمع الاستعماري، أدركت النساء من مختلف الانتماءات ضرورة رصّ الصفوف والتوحّد. ففي 15 فيفري 1952 نظمت نساء العاصمة مظاهرة أمام الإقامة العامّة وقمن بقذف أربع قنابل في اتجاه قوات الأمن التي ردّت بإطلاق الرّصاص في اتجاه المتظاهرات[11].
ونتيجة لكل هذه التحركات النسائية لم تتردّد السلطات الفرنسية في القيام بسلسلة من الإيقافات وعمليات الإبعاد الجماعي في صفوف النساء – كما هو الحال للذكور – وذلك بمعتقلات رمادة وتطاوين وزعرور (قرب بنزرت) وجلاّل (قرب بن قردان) والإقامة الجبرية في كل من طبرقة وعنابة وجزيرة جربة… ومن بين المناضلات اللائي شملتهنّ هذه الإجراءات القمعية نذكر كل من: شاذلية بوزقرّو وبشيرة بن مراد و زينب الميلادي و أسماء بلخوجة و آسيا غلاّب و مجيدة بوليلة وشريفة المسعدي و أسماء الرباعي و خديجة طّبال و زكيّة الفوراتي… كما سقطت بعض المناضلات برصاص العدو فيما تُوفيَّ البعض الآخر تحت التعذيب، نذكر في مقدمتهنّ أمينة بن صالح و مجيدة بوليلة[12].
وفي طبلبة استشهدت امرأتان رغم كونهنّ لم يشاركن مباشرة في التخطيط لأحداث 23 جانفي 1952 وإنّما صعدن فوق السطوح لتشجيع المقاومين بالزغاريد. فقد خرجت بعضهنّ إلى الشارع ومنهن الشهيدة آمنة براهم التي افتكّت البندقية من يد أخيها وأطلقت النار، فتلقت رصاصة قاتلة رصاصة أردتها شهيدة على عين المكان… أمّا محبوبة سوسيّة فقد أطلّت من بيتها تزغرد وتشجّع المقاومين فتلقت هي الأخرى رصاصة قاتلة…
محطات نضالية في البال:
نظرا لكثرة المحطات النضالية سنقتصر على المعارك الشهيرة منها، لا سيّما تلك التي جدّت بداخل البلاد بين 1952 و 1953.
* أحداث 15 و 18 جانفي ببنزرت وماطر:
شنّت بنزرت يوم 15 جانفي إضرابا عاما امتد يوم 16 إلى ماطر استؤنف يوم 17. وقد قابلته الشرطة بإطلاق الرصاص مم أدى إلى جرح حوالي 130 متظاهرا.
* مظاهرتا 15 جانفي و 04 فيفري يباجة:
انتظمت يوم 15 جانفي 1952 مظاهرة نسائية بباجة تمّ إيقاف العديد من المناضلات المتظاهرات نذكر من بينهنّ وسيلة من عمّار و شاذلية و سعيدة بوزقرّو… و باندلاع شرارة الكفاح التحريري المسلح في 18 جانفي تمّ ايقاف عديد المتظاهرين في مخافر الجندرمة الفرنسية بمدينة باجة وتعذيبهم بشدة ممّا أدى إلى وفاة أحدهم، المناضل الشاب صالح الأصفر يوم 02 فيفري نتيجة الصدمات الكهربائية التي ظلت آثارها بادية على جثمانه و لا سيما في مستوى الوجه .وفي يوم 04 فيفري اندلعت مظاهرة شارك فيها حوالي 2000 شخص. وحصلت الصدامات أولا بدار القايد احميدة الزواري حينئذ بساحة البرادعية حيث اعتصم المتظاهرون بجثمان الشهيد و طالبوا بفتح تحقيق في ظروف وفاته لاقتناعهم بأنّ صالح الأصفر قُتل تحت التعذيب. وفي الأثناء تجمهر المتظاهرون أمام مقر المراقبة المدنية و حاولوا اقتحامها بعد مشادات مع قوات الأمن و رشق بالحجارة.
وإثر صلاة المغرب أي حوالي السادسة إلا الربع مساء انتقلت المسيرة إلى المستشفى حيث نقل الجثمان للتشريح بعد أن أصرّ الأهالي على أن لا يجري التشريح إلا طبيبان خارجان عن دائرة باجة ترسلهما وزارة الصحة و هو ما حصل بالفعل. وسيطر المتظاهرون على فضاء المستشفى و حاصروا مختلف الوحدات الصحية مما أسفر عن تدافع بينهم و بين البوليس الفرنسي الذي وقع تعزيزه بفصيل من الجنود السينيغاليّين و فريق من الصبايحية رشقا بالحجارة من جهة المتظاهرين ردت عليه قوات الاحتلال بإطلاق الرصاص ممّا أدى إلى تشتيتهم و حصرهم داخل المدينة العتيقة[13].
* أحداث 22 جانفي 1952 بسوسة:
تكثّف الاتصالات بين وطنيّي السّاحل ومسؤولي الجامعة الدستورية بسوسة التي كان يرأسها الصّيدليّ جلّول بن شريفة قصد تنظيم مظاهرة شعبيّة يوم 22 جانفي احتجاجا على اعتقال أعضاء الديوان السياسي وفي مقدمتهم الحبيب بورڤيبة . وهي من أهمّ المظاهرات التي هزّت الكيان الفرنسي وسقط خلالها 13 قتيل و عشرات الجرحى واغتيال العقيد “نوربار دوران” Norbert Durand” (1897-1952)، وهو ما تسبّب في فرض حالة الحصار على سكان المدينة نتيجة إيوائهم للمناضلين الذين شاركوا في المظاهرة[14].
وعن هذه الظرفيّة المتأزمة التي تجنّد لها كل المناضلون بجهة السّاحل عامّة وبصفة خاصة مدينة سوسة، مقرّ الجامعة الدستورية بالسّاحل الشمالي، يروي المناضل عبد الحميد دويك ما يلي: “…يوم 18 جانفي دعت الجامعة علي ومحمِّد إدريس ومحمّد وعبد الحميد دويك وعلي الزنزوري… دخلنا الصيدليّة (صيدليّة بن شريفة رئيس الجامعة) وجدنا أعضاء الجامعة فأعلمونا أنّه تقرّر القيام بالمظاهرة وضرورة سيلان الدم ليعلم العالم بالحالة في تونس وإيقاف الرئيس… قُلنا: حاضرين… فقاموا وقبّلونا ثمّ خرجنا… كنّا الثلاثة نمثّل الشبيبة الدستورية والشعب بسوسة… كنا نصيح إما تتركونا نقوم بمظاهرة سلميّة أو نحطّم ونكسّر ولنا القوّة… كنّا تقريبا ألفين أو ثلاثة آلاف شخص متحمّسين. طوّقنا الجند… كنّا نريد استفزازهم أخذونا إلى الجندرمة… وجاء القائد الطيّب السقّا وهم يريدون تهدئتنا ويريدون تجنّب الحوادث، أمّا القائد فأطق سراحنا… وذلك في عشيّة نفس اليوم وقد ألقوا علينا القبض في الحادية عشرة… وفي اجتماع الاتحاد (اتحاد الشّغل) كوّنوا هيئات الشُّعب التي ستخلف تلك التي سيُلقى عليها القبض… السّلطة المتمثّلة في القائد خاطب رئيس الجامعة وطلب منه الكفّ عن الإتيان بالناس من قرى السّاحل… اتّصلنا بعد سراحنا بجلّول (بن شريفة رئيس الجامعة وصيدليّ) واعتبرنا سراحنا انتصارا… من ليلة 22 جانفي 1952 علمنا بالمظاهرة المقرّرة لنفس اليوم…”[15].
وليس بالإمكان التطرّق إلى أطوار هذه المظاهرة الصاخبة وحصيلتها وتداعياتها على مدينة سوسة وجهة السّاحل والحزب عموما بكل التفاصيل لكونها ستكون موضوع مداخلة الأستاذ أحمد خالد، إلاّ أنّه يمكن القول أنّها مثّلت أبرز محطّة نضالية في تاريخ مدينة سوسة وجهة السّاحل عموما لما خلّفته من قتلى وجرحى وإيقافات ومحاكمات وتعطّل للعمل الحزبي بالجهة لفترة طويلة. غير أنّ ذلك لا يعني توقّف العمل الوطني نهائيا. فبعد إلقاء القبض على قادة الجامعة الدستورية بالسّاحل الشّمالي وإيداعهم السّجن سيتواصل العمل في السرّ وسيتمّ انتخاب جامعة دستورية جديدة ضمّت بعض الوجوه الوطنيّة البارزة في جهة السّاحل وفي مقدمتها الدكتور عبد المجيد رزڨ الله وعبد الله فرحات والأستاذ أحمد نور الدين…، الذي تولّى مهمّة التنسيق بين قادة الحزب غير الموقوفين وقادة المجموعات المسلّحة النشيطة بالجهة[16].
وحسب الأرقام الرّسمية ليوم 23 جانفي 1952 ووفقا للتقرير العام لقاضي التحقيق المتعهّد بالقضيّة رقم: 252 بتاريخ 29 أكتوبر 1952 بتونس، سقط عشرات الجرحى و 12 شهيدا تونسيّا هم على التوالي: رمضان بن الحاج مبروك (من سيدي عامر)، محمّد بالحاج علي الهاني (من الساحلين)، محمّد بن نصر بن مسعود وحمّادي بن نصر الله (من المنستير) ، محمّد بن محمّد العيّادي، حسن بن محمّد قريسة، – بلقاسم بن أحمد خلف الله، محمّد الحبيب بن سالم (من الوردانين)، ناجي بن أحمد شرّادة (من زرمدين) ميلاد بن حسن الإمام (من المكنين)، الزّائر بن محمّد اللّطيّف (من سيدي بنّور) و محمّد بن إبراهيم عتب (من قصيبة المديوني). كما قامت السلطات الفرنسية بإيقاف 41 متهما نذكر في مقدمتهم الصيدلاني المناضل جلّول بن شريفة (رئيس الجامعة الدستورية بالساحل)…، وُجّهت لهم جميعا تهما مختلفة من أهمّها: القتل المتعمّد والتمرّد والعصيان والمشاركة في مظاهرة مسلّحة…
* أحداث 23 جانفي 1952 بالمكنين وقصر هلال وطبلبة:
كان لأحداث مدينة سوسة امتدادا بكافّة أنحاء جهة السّاحل. ففي اليوم الموالي صباحا تجمهرت بمدينة المكنين حشود من البلدة والقرى المجاورة لها وهجموا على مركز الشّرطة وقتلوا ضابطا وعونَيْنِ فرنسيَيْنِ. ثمّ تحوّل الثّائرون إلى ثكنة الجندرمة خارج البلدة في اتجاه طبلبة ورموها بالرّصاص، فأصيب أحد الأعوان المحتمين بها. وتواصلت الاشتباكات الدّامية بين الثّائرين المسلّحين وعناصر من الجيش الفرنسيّ والجندرمة طيلة يوم 23 جانفي 1952 بالمكنين وقصر هلال وطبلبة، وألقيت من فوق السّطوح على القوّات الفرنسيّة التي جاءت بتعزيزات إضافية ومصفّحات قنابل يدوية محليّة الصّنع، كان يستخدمها صيّادو الأسماك، فسقط العديد من القتلى والجرحى من الجانبين.
أسفرت أحداث طبلبة الدامية عن استشهاد 8 مناضلين وهم على التوالي: محبوبة سوسية، آمنة براهم، عامر بن عبد السلام بيّوض، عثمان بن أحمد بالسويسية، عمر بيّوض، محمّد المستيري، أحمد التركي و شبيل بن محمّد حسن نويرة. يضاف إلى ذلك مقتل عدد من الجنود الفرنسيّين[17].
وفي نفس اليوم أقدمت قوات الجيش والجندرمة الفرنسية على القيام إلقاء القبض على عدد من الوطنيين وإيداعهم السجون ثم محاكمتهم. وقد أصدرت المحكمة العسكرية المنتصبة بثكنة ” فوشى “Fouchet” بباردو أحكاما بالسجن وأخرى بالإعدام حضوريا و غيابيا على من لم يتمّ اعتقالهم فيما استُبدل الحكم بالإعدام للبعض الآخر بالأشغال الشاقة المؤبدة. وفي يوم 27 مارس 1954 تمّ تنفيذ حكم الإعدام في 03 شبّان منهم وهم على التوالي: محمّد حميدة ومحمّد ركوب وعبد الحميد الغضّاب[18]. وقد رفضوا جميعا تعصيب أعينهم لحظة الإعدام. كما ألقى الشهيد محمّد حميدة خطابا قبيل تنفيذ حكم الإعدام فيه بدقائق نورد مقتطفا منه: “(…) إنني لا اهتم بالحياة مثلما أهتم بمصير بلادي، و لا أهاب الموت و أنا مؤمن إيمانا راسخا بان لا بد أن تتحرر البلاد من قيودها، و ليس بإمكان أيّ كان مهما عظمت غطرسته أن يوقف سير الأمّة التونسية نحو الحرية و الاستقلال “[19] !
* تعزيزات عسكرية فرنسية بمدينة الشابة:
تحسبا لتحرّك أهال الشابة المنااؤين للسطات الفرنسية منذ انتصاب الحماية وخاصة في سبتمبر1934، أفرغت في 19 جانفي 1952 طائرة عسكرية أربعة وستين من الجنود المضليّين في سبخة الوهّاب وهو ما عرف عند الأهالي بـ “عسكر جَوَيُّو” بغاية تعزيز حضورها العسكري المتمركز بالبلدة[20]. كما كثّفت السلطات العسكريّة من حملة الاعتقالات التي طالت أغلب المناضلين. وتأكيدا لذلك اعتقل في جانفي 1952 بعض المناضلين وزجّ بهم في السجون والمعتقلات نذكر في مقدمتهم المناضل منصور امبيّة الذي كان “القلب النابض في إلهاب حماس المواطنين ودهونهم لتحدي الاستعمار وتحرير الوطن وإعادة السيادة للشعب”. وقد سجن بصفاقس ثمّ نقل إلى محتشد تبرسق صحبة العديد من مناضلي الشابة بسبب تعاونهم مع المناضل محمود الفريخة (أصيل صفاقس) في جمع السلاح مع ثلّة من المناضلين الآخرين مثل محمّد الزواري وسعيد العذار وأحمد بوليلة[21] كما جاء في شهادة المناضل الهادي شاكر[22]. كما تمّ اعتقال المناضل رشيد بن الطيّب بن منصور وزجّ به في سجن تبرسق ثمّ نقل إلى معتقل زعرور وكذلك المناضل المختار بن الشيخ فرح عيّاد الذي اعتقل بزعرور وكان من أشدّ المحرضين على مقاطعة زيارة المقيم العام الفرنسي “مارسال بيروطون “Marcel Peyrouton” لمدينة الشابة يوم 24 سبتمبر 1934 وقبض عليه في 26 سبتمبر ومكث بسجن صفاقس إلى غاية 11 أكتوبر من نفس السنة ثمّ أودع السجن ثانية في 07 أوت 1943 بإذن من المحكمة العسكرية بصفاقس التي أذنت بنقله إلى محتشد القطار في 16 سبتمبر 1943[23].
*عمليات تمشيط وحشيّة للوطن القبلي: 20 جانفي – 02 فيفري 1952:
بين 20 جانفي و 02 فيفري 1952 تعرّضت شبه جزيرة الوطن القبلي لعمليات “تمشيط” وحشية أذن بها وأشرف عليها قائد أركان الجيش الفرنسي بتونس الجنرال “بيار غرباي” Pierre Garbay” (انظر الصورة المرافقة) اقترف خلالها الجنود الفرنسيون بكل من قليبية والهوارية وحمّام الغزاز … كل أصناف الجرائم من اغتصاب للنساء والفتيات و قتل للأطفال واغتيال للوطنيّين و نهب و تخريب للدور والمساكن الآمنة … من طرف فصائل الجندرمة والجيش الفرنسي المدعوم بطائرات ومضليّين قدموا من الجزائر للغرض.
في الحمّامات سقط يوم 20 جانفي 1952 شهيدان هما: الطيّب بن محمّد بن حميدة العزابي و الهادي التريكي وجُرح الكثير.
وفي مدينة نابل نفّذت قيادة الجامعة الدستورية بالوطن القبلي وشعبة المكان إضرابا عاما بكامل المدنة يوم 18 جانفي 1952 تقرّر على إثره تنظيم مظاهرة يوم 21 جانفي وسط المدينة. وقد اختارت هذه القيادة أن تكون المظاهرة نسائية بعد أن غادر الأعضاء مقرّ الشعبة الدستورية لتنطلق من ساحة الجامع الكبير. وتوجهت المظاهرة بقيادة آسيا غلاّب بوعوينة وعلى جانبي المتظاهرات الرجال إلى إدارة العمل (أي مقرّ القيادة أو دار الباي أمام مقرّ البلدية) حيث قابل القايد وفدا تقدمته آسيا غلاّب التي سلّمت له لائحة احتجاج فحذرهنّ من خطورة التوجه إلى شارع فرنسا نظرا لاستعداد القوات الاستعمارية إلى إطلاق النار. ولما تقدمت المظاهرة نحو هذا الشارع متكونة من الجموع النسائية كانت قوات الجيش مرابطة بساحة فرنسا مما يمنع المرور، ارتفعت الأصوات بالشعارات الوطنية التحريرية وتواصل التقدم فألقيت القنابل المسيلة للدموع على المظاهرة ثم تدخلت قوات الجيش والجندرمة لتطلق النار على المتظاهرين فسقط 05 شهداء وعديد الجرحى وتواصلت الاحتجاجات و حملة الاعتقالات إلى غاية يوم 28 جانفي[24].
وفي يوم 26 مارس 1952 تمّ اعتقال آسيا غلاّب ونفيها إلى محتشد رمادة وقد تركت بنتا رضيعة وابنا لا يتجاوز عمره 3 سنوات حيث وجدت الزعيم الحبيب بورقيبة والسيدة شاذلية بوزقرّو وخديجة الطباّل و مكثت هناك شهرين كاملين (انظر الصورة المرافقة). وقد تجوّلت المناضلة بين سجون قابس وتونس وتبرسق.[25]
وفي مدينة قليبية خلّفت عملية تمشيط المدينة في مناسبتين (يوما 24 و 31 جانفي 1952) 07 شهداء وهم: علي بن حميد فرج الله و محمّد بن محمد المسلماني و محمّد بن محمد حميّد و محمّد بلحاج علية بن سعيد وحمّودة بن علي بوعفيف وصالح بن حمدي الذين استشهدوا يوم 24 جانفي 1952 و الشابّ الكشفي حمادي بن حسين الغربي الذي استشهد في 31 جانفي 1952.
وبالقرية المجاورة، حمّام الغزاز التي دخلها الجيش الفرنسي يوم 25 جانفي 1952 تمّ تدمير ثلاثة مساكن بالديناميت وقتل 03 مواطنين وهم: عبد الله بن حسين بن حسن (فلاّح: 27 سنة) و محي الدين بن بشير بن الحاج رحومة (فلاّح: 41 سنة) و أمّ الخير زوجة البشير بن حسين (أمّ لأربعة أبناء) واغتصاب امرأتين تحت تهديد المسدّس، فيما أجهضت امرأة حامل من الغد (16 سنة) وتمّ التنكيل بعدد من السكان وسرقة أمتعة ومجوهرات البعض الآخر…
و في بني خلاد تمّ يوم 22 جانفي 1952 اعتقال 06 وطنيّين ووضعهم رهن الإيقاف بمركز الجندرمة بقرمبالية. ونتيجة لذلك تمّ يوم 23 جانفي 1952 الاعتراض لسيارة نقيب الجندرمة “فاشي “Vaché” وقتله و جرح ضابط فرنسيّ. فقامت القوات الفرنسية بالثأر بتدمير ثلاثة مساكن وعديد المحلات التجارية وسط المدينة.
وفي تازركة قامت فرق الجنرال “غرباي” يوم 29 جانفي 1952 بقتل 04 رضّع دوسا بالأقدام و رميا على الأرض: فاطمة بنت محمّد ناشي (20 يوما) و صالح بن محمّد بن حسين ناشي (45 يوما) وزهرة بنت بشير غلاّب (05 أشهر) و فضيلة بنت محمّد قاسم (سنة و 08 أشهر)، إضافة إلى ترويع وملاحقة و اغتصاب بعض النساء…
أمّا بالمعمورة التي احتلتها القوات الفرنسية من 29 جانفي إلى 2 فيفري 1952 بقيادة النقيب “كليفر” Cliver”، فقد أطلق العساكر في هذه القرية الكلاب على السكان فهجم كلب على الشاب محمّد بن الحاج عمر مخلوف (19 سنة) ثمّ أخرجه الجنود من بين زملائه المعتقلين و تولّى ثلاث جنود إعدامه فورا أمام السكان. كما قام نفس الجنود بقتل السيّد محمّد الجمّالي ودفن أحد قدماء المشاركين في الحرب العالمية الثانية المعاق (على كرسي متحرّك) السيّد محمود بن محمّد عزّوز حيّا وتدمير ونهب بعض المساكن وحرق مكتبة معتبرة للسيّد محمّد المغربي ومعاقبة بعض الأهالي وإجبار البعض الآخر على تموين الجنود. كما قصد الجنود مقام الولي الصالح سيدي محمّد بن عيسى حيث تقام الصلاة و يعلم القرآن و ذلك لغرض واضح و هو انتهاك حرمته المقدسة، فألقوا القبض على المعلّم و طردوا التلاميذ و حطموا الألواح التي تحمل الآيات القرآنية و نسفوا ضريح الوليّ بالديناميت[26].
وبفرية الصّمعة التي دخلها القوّات الفرنسية في 28 و 30 جانفي 1952 تمّ إلقاء القبض على الوطنيّين وتدمير 15 مسكنا وحمل ما خفّ وزنه وغلا ثمنه من الأثاث وأموال…[27]
وخلافا لما كانت تعتقده السلطات الفرنسية، فإنّ ما استخدمته من عنف و ما قامت بع من نهب و تنكيل و تقتيل في صفوف التونسيّين بكامل أنحاء المملكة بغاية بثّ الرعب و الخوف في قلوب التونسيّين وفرض لحالة الحصار بتونس الكبرى وجهتي الوطن القبلي والساحل… لإيقاف الشعور الوطنيّ فيهم وصدّهم عن مواصلة كفاحهم في سبيل حرّيتهم و استقلالهم، فإنهم كانوا في مستوى اللحظة التاريخية ولم تزدهم تلك الطرق والوسائل إلاّ عزيمة على تحدي السلطات الاستعمارية وموصلة الكفاح إلى غاية آخر رمق بدليل تواصل الصمود في عديد المحطات الأخرى لعلّ أبرزها:
فاجعة ليلة 31 أوت 1953 بالمنستير:
ثأرا لمقتل جندرمي فرنسي بالطريق الرابط بين المنستير وقصيبة المديوني أقدمت فرقة الحرس المتجوّل “Garde Mobile” بالمنستير ليلة الاثنين 31 أوت 1953 على قتل 04 وطنيّين والتمثيل بجثثهم. فقد أخرجت الوجه الكشفيّ والرياضي مصطفي بن حسين بن جنات من منزله على الساعة العاشرة ليلا وإعدامه بالرصاص أمام باب السور. كما تمّ اختطاف الشهيد عبد السلام بن البشير تريمش من مخبزة نويرة وأعدمته بالرصاص قبالة رباط سيدي ذويب. وبعده بقليل انتزعت نفس القوات الشهيد أحمد بن عثمان الغندري من منزل ابن عمه وساقته إلى ساحة البلدية وأعدمته كذلك بالرصاص. كما اقتحمت منزل سعيد بن الحاج صالح المرشاوي بسقانص على الساعة الحادية عشرة وساقته إلى حيّ سطح جابر حيث أوثقه بحبل خلف سيّارة عسكرية وجرّته ومثلت به ثم أجهزت عليه بالرصاص[28].
الحكومة التونسية ترفع شكوى بفرنسا إلى منظمة الأمم المتحدة:
منذ تأزم العلاقة بين الحكومة والسلطات الفرنسية رفعت الحكومة التونسية شكوى إلى الأمانة العامة لمنظمة الأمم المتحدة تمّ تقديمها رسميا قدم بعد ظهر يوم الاثنين 14 جانفي 1952 بمبنى بـ “قصر شايّو ” Le Palais de Chaillot” (بإحدى ضواحي باريس) الذي احتضن دورة الأمانة العامة لمنظمة الأمم المتحدة بين نوفمبر 1951 و فيفري 1952. وقد تألف الوفد الوزاري التونسي المؤلف من الأستاذ صالح بن يوسف (وزير العدل) ومحمد بدرة (وزير الشؤون الاجتماعية) وقد سجلت الأمانة اتصالها بالشكوى. وقد أرفِق طلب الشكوى التونسية بملف سميك موثق بالنصّ والصورة لعمليات القمع والتنكيل والاغتيال والاغتصاب والإجهاض غير الإرادي… وقد تولت الدكتورة توحيدة بالشيخ والدكتورة حسيبة غَيْلَبْ تقديم شهادات طبية للنساء ضحايا عمليات الاغتصاب والإجهاض بالوطن القبلي بعد معاينتهنّ بمنازلهنّ أيّاما قليلة بعد تمشيط المنطقة من طرف قوات “وحوش” الجنرال “غرباي”[29] (انظر الصورة المرافقة).
وفي ردّه على انتقادات الصحافة والرأي العام الفرنسي والدولي قال الجنرال “غربياي” مبتسما: “إنّ الاغتصاب والإجهاض من الفلكور التونسي” « Les viols et les avortements font partie du folklore tunisien »[30]، في إشارة استهزاء إلى التقليد المعمول به ليلة الزفاف في بعض الأوساط الريفية والقروية المحافظة الذي يجعل من عذرية المرأة أمرا “مقدسا” !
غير أنّ الطلبة التونسيّين الذين كانوا يدرسون حينئذ بفرنسا قد عقدوا يوم 01 فيفري 1952 اجتماعا لتدارس التطورات الخطيرة بالوطن القبلي بمقرّ الشعبة الدستورية بباريس (115 شارع سان ميشال) و صاغوا على إثره رسالة كُتبت بالدم (دم الطالب حسن غويّل الذي هشّم بلّور نافذة المطعم للغرض) وبعثوا بها إلى إدارة الحزب بتونس ليعربوا فيها عن استعدادهم الزواج بالفتيات اللواتي اغتصبهنّ جنود الجنرال “غرباي” بالوطن القبلي[31] !
حصيلة ثقيلة:
كانت المعركة التحريرية بمختلف محطاتها وحدة صمّاء بأتمّ معنى الكلمة حيث تطوّع في حدود 3 آلاف مقاوم في مختلف جهات البلاد: بجبال الحامّة ومطماطة وقفصة والوسط والساحل وصفاقس وبنزرت وخمير والمنطقة العسكرية بالجنوب حيث تمّت حوالي 134 عملية مقاومة بين 1952 و 1954 أودت بحياة 288 شهيدا علاوة على النضالات في كل المدن والمصانع والضيعات والمعاهد والمدارس… فخلال الثلاثة أشهر الأولى من جانفي إلى مارس 1952 فحسب سقط 86 شهيدا وجرح 247 فردا[32] ليصل إلى قرابة 155 شهيدا و 74 فتيلا من المتعاونين مع الفرنسيّين وجرح 94 منهم في نهاية شهر جويلية 1954[33]. يضاف إلى ذلك آلاف المعتقلين والسجناء الذي زجت بهم السلطات الفرنسية من مختلف الفئات والشرائح العمرية في السجون والمنافي الاستعمارية داخل تونس وخارجها. وقد كان للمرأة أيضا دور هام في هذه المحطة الوطنية.
صمود وتحدي وردّ على الاغتيالات باغتيالات مضادة:
كانت المعركة التحريرية ضد المستعمر الفرنسي بمثابة المحنة في التاريخ المعاصر لتونس لا يعرف قيمتها إلا من عاشها أو عائلات ضحاياها من أرامل وأيتام وأمهات وآباء إخوة وأخوات ضاقوا الشعور باليتم والحرمان ولم يهوّن عليهم في فقدان أقاربهم غير إيمانهم الراسخ بأنّ ذلك كان من أجل تحرّر الوطن من الاستعمار… لقد ضاق الشعب التونسي والوطنيّون خلال هذه المحنة كل أنواع العقوبات من السلطات الفرنسية، بدءا بالإيقاف فالتعذيب والتنكيل، مرورا بالإبعاد والنفي وصولا إلى الاغتيال فالحكم بالسجن والأشغال الشاقة والإعدام وفرض حالات الحصار ومنع التجوّل…الخ.
غير أنّ ردود الفعل من الجانب التونسي كانت الصمود والإصرار على مواصلة المقاومة وتنفيذ عمليات اغتيال مضاد طالت غلاة الاستعمار وقادة التنظيم السري “اليد الحمراء” التي تمّ الرد عليها بتنظيم ت مماثلة على غرار “اليد السوداء” ومجموعات المقاومين بقيادة كل من: محجوب بن علي (بجهة بنزرت) و الساسي والطاهر الأسود (بجهة قابس) و حسن بن عبد العزيز (بالوردانين) و بلقاسم قرف (بالنفيضة) و محمّد الغزال (بمساكن) و القائد العجيمي بن المبروك (بجهة جلاص) … الخ.
وقد طالت اغتيالات هذا التنظيم المسؤولين في الأمن والجندرمة والجيش الفرنسي بتونس على غرار “ريني فينيك “René Fennec” يوم 19 جويلية 1954 بمدينة المنستير[34] و كل من “ليفي جيلاردي “Lévy Gilardi” في جوان 1952 و”بيتش “Bisch” في شهر أوت 1953 بمدينة سوسة[35] والعقيد “ريني- دي بينوا دي لابايون”René De Benoit De la Paillonne” بتونس العاصمة يوم 24 جويلية 1954… و كل المتعاونين مع المستعمر على غرار: الشاذلي القسطلّي يوم 02 ماي 1953 والمحامي الطاهر الصافي[36] يوم 13 جوان 1954 بالعاصمة والأستاذ الطيّب الغشّام خطأ عوضا عن شقيقه امحمِّد (وزير الصحّة بحكومة صلاح الدين البكوش) بالمكنين يوم 15 أفريل 1953… وآخرين[37].
ماذا تبقّى اليوم من أحداث جانفي 1952 وكيف يجب أن ننظر إليه؟
إنّ روح التحرّر و الأسس التي أرساها أجيال الوطنيّين التونسيّين وفي مقدمتهم مخطّطو ثورة 18 جانفي 1952 ورجال الحزب الدستوري والمنظمات الوطنية وفي مقدمتهم الاتحاد العام التونسي للشغل وزعيمه “الشاهد والشهيد” فرحات حشّاد، هي التي يجب أن تبقى وتصمد اليوم في وجه الأخطار الداخلية والخارجية المحدقة بأمن واستقرار البلاد.
لكن الثابت أنّ البلاد لم تتمكّن بعد مرور أكثر من ستين سنة على استقلال البلاد من تضميد جراح الماضي وما اعتراه من خدوش وآلام وضغائن وأحقاد…، ولا من كتابة تاريخ وطنيّ موضوعي بطرق ومواصفات علمية بعيدة عن الحسابات السياسية لأنّ “التاريخ الرسمي” الذي كتب ودُرّس لأجيال التونسيّين منذ الاستقلال كان في غالبه تاريخا ذاتيا نرجسيا وثأريا و مشوّها، بعيدا كل البعد عن المعايير والمقاييس العلميّة الموضوعيّة المعمول بها في جميع دول العالم.
و في اعتقادنا لا بد من التأسيس لكتابة تاريخ موضوعيّ وعلمي ينصف جميع أجيال المناضلين والمقاومين الذين غيّبوا وهمّشوا بعد 1955 بسبب الخلاف بين الزعيمَيْنِ الوطنيَيْنِ صالح بن يوسف والحبيب بورقيبة حول اتفاقيات الاستقلال الداخلي الممضاة في 03 جوان 1955 ومهّد لقيام حرب أهلية مزّقت “الوحدة الوطنية”: اعتقالات وتصفيات ومحاكمات… امتدت إلى صائفة 1961 (تاريخ تصفية الزعيم صالح بن يوسف في مدينة فرنكفورت بألمانيا عن طريق مجموعة تابعة للنظام في 12 أوت 1961).
ولا يتمّ ذلك في اعتقادنا إلاّ بتوفّر جملة من الشروط الموضوعية والذاتية واقتناع بذلك في أعلى مستوى وتحديدا لدى الطبقة السياسية الحاكمة.
ويمكن تلخيص الشروط الموضوعية في الجوانب التالية: وضع جميع الأرشيفات والأرصدة الأرشيفية والوثائق التاريخية والشهادات الشفوية الموثقة في مراكز مختصّة بعد تصنيفها وجردها وتبويبها… من قبل خبراء في علم الأرشيف ومختصّين في التاريخ المعاصر وتاريخ الزمن الراهن وفتحها أمام كل الباحثين والمؤرخين دون استثناء (مهما اختلفت توجهاتهم الأيديولوجية والفكرية وانتماءاتهم السياسية) وذلك بعد استيفاء الشروط المعمول بها دوليا للنفاذ للأرشيفات والتأكد من أنّ عملية فتحها لا تمسّ بسلامة وأمن الدولة والدول المجاورة والصديقة لتونس وكذلك الشخصيات التي لا تزال على قيد الحياة أو أبنائهم وأحفادهم …
أمّا الشروط الذاتية فهي تكمن بالأساس في: الابتعاد عن الشخصنة و “الاستنقاع السياسي” باستقطاب جميع الكفاءات المغيّبة من الحقل السياسي من جهة، وتدبير ثقافة ديمقراطية حزبية من جهة ثانية و خاصّة التأسيس لمشروع كتابة تاريخية موضوعية لكل مكوّنات المجتمع دون استثناء…، لأنّ النخبة السياسية أينما كانت ليست في نهاية المطاف موضوع دراسة وتحليل وكتابة من قبل المؤرّخين والباحثين، بل يجب أن تكون بالأساس مصنعا لإنتاج الأفكار والمشاريع والحلول لمجتمعها.
خاتمة:
اليوم بعد سقوط نظام الاستبداد وتحرّر الأقلام والأفواه والعقول في تونس إثر “ثورة” الحرّية والكرامة في تونس، سجلنا لحسن الحظ عودة “قويّة” للتاريخ منذ الأيّام الأولى لسقوط نظام الاستبداد في 14 جانفي 2011. وقد تجسّمت هذه العودة في حضور غير مألوف للمؤرخين والمناضلين والسياسيّين المغيّبين منذ عقود وذلك في الإذاعات والقنوات التلفزية والمنابر السياسية والفكرية…، بجميع المدن والقرى والأرياف التونسية، إمّا لطرح قضايا وملفات تاريخية أو لإحياء لذكرى أحداث ومحطات وشخصيّات وطنية ومحلية كادت تُنسى كليا…
ورغم أنّ هذه العودة تُعدّ مؤشرا إيجابيا في تونس المتحرّرة، فإنّها لم تخلُ من التوظيف السياسي من قبل أحزاب وشخصيات سياسية داخل نظام الحكم وخارجه طيلة كامل الفترة الانتقالية. وهي في اعتقادنا فترة تستحقّ دراسة مستقلة بذاتها قصد تقييم أشكال حضور التاريخ وعودته على الساحة و التأسيس لإرساء أسس مصالحة فعليّة بين التونسيّين وتاريخهم على أسس علمية سليمة بعد فشل “هيئة الحقيقة والكرامة” في القيام بهذه المهمّة الصعبة المنوطة بعهدتها منذ إحداثها في 2014 بسبب شخصية رئيستها غير التوافقية وعديد النقائص في طرق وآليات عملها… ولا يمكن بلوغ ذلك إلاّ بإنصاف الوطنيّين والمقاومين المغيّبين الذين طبعوا تاريخ المقاومة التونسية ضد الاستعمار بين 1952 و 1954 وذلك بإطلاق أنهج وشوارع وساحات عامة أو “أماكن الذاكرة الجماعية “Les lieux de mémoire collective” ومراكز بحث وقاعات ومدرجات… تحمل أسمائهم وإدراج أسمائهم في كتب التاريخ المدرسي في مختلف مستويات ومراحل التدريس كما تمّ في الجزائر الشقيقة بعد 1962 وتكريم ممّن لا زال منهم على قيد الحياة أو أبنائهم وأحفادهم وذويهم…
وإيمانا منه بأنّ الذاكرة المحلية هي جزء من الذاكرة الوطنية أقام المجلس البلدي بمدينة سوسة خلال الدورة النيابية البلدية 1975/1980، نصبا تذكاريا من إنجاز النحّات الهادي السلمي جسّم هذه المعركة الخالدة من أجل الحريّة والانعتاق من الاستعمار الفرنسي التي لا تزال حاضرة في ذاكرة العديد من سكان الجهة. وأملنا كبير أن تنسج المجالس البلدية الأخرى بالمدن والقرى التي سقط بها شهداء على خطى مدينة سوسة وفي مقدمتها المجلس البلدي بمدينة طبلبة المناضلة نصبا تذكاريا يخلّد شهداء طبلبة الأبرار أو أن يبادر بإقامة “متحف للذاكرة المحلية” يمكن إنجازه بالتعاون مع المعهد الوطني للتراث واللجنة الوطنية للتاريخ العسكري وأطراف أخرى من المجتمع المدني للتوثيق بالصورة والنصّ لأحداث 23 جانفي 1952 الأليمة وإدراجه بالمسلك السياحي والثقافي بجهة الساحل وليس ذلك بعزيز عليه.
كما لا بدّ أن يدرك أفراد الشعب التونسي وخاصة الشباب منه بوجوب الاعتراف بالتضحيات الجليلة التي قدمها هؤلاء الوطنيّون لهذا الوطن العزيز من باب الوعي بنداء الواجب وعدم المتاجرة بدمائهم وتوظيفها لأغراض شخصية بحثا عن تعويضات ومكافآت ومناصب… كما أنهم مدعوّون أكثر من أيّ وقت مضى إلى الالتزام الوطني والمبدئي والأخلاقي بالقضايا ومزيد الالتفاف حول وطنهم “الجريح” و “السليب” منذ 14 جانفي 2011 رغم عديد الإنجازات التي تحقّقت في إطار المسار الثوري والانتقال الديمقراطي بحكم تغلّب المصالح الذاتية والأجندات الضيّقة لفئة ضالّة من ساستنا، حتى تبقى تونس منيعة وأبيّة أبد الدهر، إذ لا معنى للحياة في وطن مَدِينٌ للخارج تحكمه أجندات وقوى أجنبية في إطار ما يُعرف بالاستعمار الجديد “Le néo-colonialisme” الذي توضّحت ملامحه ومخطّطاته وكشّر عن أنيابه بأشكال مختلفة في السنوات الأخيرة ![38]
[1] انعقد هذا المؤتمر ليلة 26 رمضان 1365هـ/ الموافق ليوم الثلاثاء 23 أوت 1946م بمنزل المناضل محمّد بن جراد بنهج الملاّحة بتونس العاصمة بعد إعداد مسبق وجيّد له، استغرق أكثر من شهر. وقد حضرته جلّ القوى السياسية والفكريّة والمهنيّة والجمعيات الوطنية: اللجنة التنفيذية و الديوان السياسي (الحزب الدستور القديم و الجديد)، الاتحاد العام التونسي للشّغل، هيئة أساتذة الجامعة الزيتونيّة، أساتذة التعليم الثانوي، معلّمو التعليم الابتدائي، أساتذة و مديري المدارس القرآنية، المحامون، الأطباء، الصيادلة، الجمعيّة الخلدونيّة، الجمعيّات الكشفيّة والرياضيّة، أرباب الصناعة و التجارة، جمعيّات الفلاحين، الخ… وقد ترأس هذا المؤتمر الشيخ القاضي العروسي الحداد، رئيس الدائرة الجنائية بمحكمة الوزارة سابقا.
[2] محمّد لطفي الشايبي، الحركة الوطنية التونسية ومطلب الاستقلال (1881-1956)، الحلقة 4، جريدة الصّباح بتاريخ 23 أوت 2007.
[3] لمزيد التفاصيل حول هذه الفترة، انظر:
Histoire du mouvement national tunisien, Documents XIV, Le Néo-Destour face à la troisième épreuve : 1952-1956, 2 tomes, T 1 : L’échec de la répression, T 2 : La victoire, Textes réunis et commentés par Mohamed Sayah, Dar el amal, Tunis, juin 1979.
[4] تصريح بورقيبة للصّحافة الفرنسية بباريس يوم 15 ديسمبر 1951. ورد في جريدة “لي نوفال اوبسرفاتور” Le Nouvel Observateur” الصادرة يوم 16 ديسمبر 1951.
[5] عبد الكريم عزيّز، نضال شعب أبيّ، تونس 1881-1956، مركز النشر الجامعي، 2001، ص 394.
[6] المرجع السابق.
[7] Histoire du mouvement national tunisien, Documents XIV, Le Néo-Destour face à la troisième épreuve : 1952-1956, 2 tomes, T 1 : L’échec de la répression, p.58.
[8] Ibid.
[9] عادل بن يوسف، ” مساهمة الوسط المدرسي المعركة التحريرية (1952-1954) “، مجلة روافد، المعهد الأعلى لتاريخ الحركة الوطنية، عدد 8، تونس 2003، ص ص 15-23 وعدد 9، تونس جانفي 2004، ص ص 11-13.
[10] مصادر مختلفة.
[11] Histoire du mouvement national tunisien, Documents XIV, Le Néo-Destour face à la troisième épreuve : 1952-1956, 2 tomes, T 1 : L’échec de la répression, pages différentes.
[12] السجلّ القومي لشهداء الوطن 1881-1956، منشورات الحزب الاشتراكي الدستوري، دار العمل، شركة فنون الرسم والنشر والصّحافة، تونس 1978.
[13] الموقع الالكتروني للأستاذ زهيّر بن يوسف أستاذ التاريخ بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس.
[14] لمزيد التفاصيل حول مظاهرة 22 جانفي 1952 انظر: أحمد خالد، ” معركة 22 جانفي 1952 “، ورد في: شهادات حول دور الجهات في الحركة الوطنية: المنستير، سوسة، المهدية ونابل، سيمنار بمؤسّسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات، جوان 2010، منشورات المؤسّسة، تونس، جانفي 2012.
[15] نفس المرجع، شهادة عبد الحميد دويك، ص 384.
[16] المرجع نفسه، شهادة امحمِّد إدريس، ص 389.
[17] Histoire du mouvement national tunisien, Documents XIV, Le Néo-Destour face à la troisième épreuve : 1952-1956, 2 tomes, T 1 : L’échec de la répression…, p.171.
[18] لمزيد التفاصيل انظر: محمّد الجلاصي، المكنين من قيام الدولة الحسينية إلى الجلاء العسكري، الشركة العامة للطباعة “سوجيم”، تونس 2000.
[19] مصادر وشهادات شفوية مختلفة من أهالي المكنين.
[20] د. محمّد الزاهي، الشابّة حضارة وتاريخ، منشورات دار صامد للنشر والتوزيع، صاقس، 2018، ص 347.
[21] المرجع السابق، نفس الصفحة.
[22] الهادي شاكر، جهاد واستشهاد، تأليف عبد المجيد شاكر، ص ص 61-62.
[23] د. محمّد الزاهي، الشابّة حضارة وتاريخ…، ص ص 348- 349.
[24] Abdelhak Lassoued, Le mouvement national à Nabeul 1936-1956, Mémoire pour l’obtention du diplôme de l’Ecole Pratique des Hautes Etudes (E.P.H.E), Paris, 192, p. 197.
[25] يحي الغول، الوطن القبلي الماضي والحاضر بحوث ودراسات، منشورات وزارة الثقافة، اللجنة الثقافية الجهوية بنابل 1993، ص ص 141–143.
[26] Histoire du mouvement national tunisien, Documents XIV, Le Néo-Destour face à la troisième épreuve : 1952-1956, 2 tomes, T 1 : L’échec de la répression…, pp.131-169.
[27] Ibid.
[28] محمّد الطاهر عقير، المنستير عبر مواقف التجذير والتحرير، المطابع، المندمجة، المنستير 1989.
[29] انظر الكتاب الأبيض الصادر في الغرض وحوار مع الدكتور توحيدة بالشيخ ببيتها بتونس العاصمة سنة 2006.
[30] UGET, Congrès 1953-1977, Tunis, CDN, 1981, vol. 1, p. 55.
[31] انظر تفاصيل ذلك في: عادل بن يوسف، النخبة العصريّة التونسيّة (1880-1956): طلبة الجامعات الفرنسية نموذجا، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بسوسة ودار الميزان للنشر، سوسة مارس 2006، ص 586.
[32] عليّة عميرة الصغيّر، المقاومة الشعبية في تونس في الخمسينات، انتفاضة المدن- الفلاّقة-اليوسفية، مطبعة التسفير الفني – صفاقس. 2004، ص 65.
[33] ورد في طلائع الفكر البورقيبي بتاريخ 19 جانفي 2014.
[34] انظر: عادل بن يوسف، ” النخب التونسية وإشعاعها على الصعيد الوطني خلال الفترة الاستعمارية: نخب مدينة المنستير نموذجا “، المجلة التريخية المغاربية، عدد 127، تونس 2007، ص ص 7-43.
[35] انظر: ” مساهمة في التأريخ لدور مدينة سوسة في الحركة الوطنيّة التونسيّة (من سنة 1881 إلى سنة 1956) “، ورد في: شهادات حول دور الجهات في الحركة الوطنية: المنستير، سوسة، المهدية ونابل، سيمنار بمؤسّسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات، جوان 2010، منشورات المؤسّسة، تونس، جانفي 2012.
[36] Cf. Adel Ben Youssef, « L’Elite francophile en Tunisie sous le Protectorat : le cas de Tahar Essafi (1893 -1954) », papier présenté aux travaux du colloque « Conflits, Violence et Elites dans l’histoire » organisé par la Faculté des Lettres et des Sciences humaines de Sousse, 22, 23 et 24 novembre 2007, éditions FLSHS, Sousse 2010, 43 pages.
[37] Adel Ben Youssef, «Une figure oubliée de Sousse, Maître Tayeb Ghachem (1903-1953) », in Revue d’histoire maghrébine, n° 127, Tunis, 2007, pp. 7-48.
* مداخلة تم القاؤها يوم الأحد 26 جانفي ضمن "ملتقى إحياء الذاكرة" الذي نظمته جمعية علوم وتراث بالقلعة الكبرى بالتعاون مع جمعية الاتحاد الثقافي بسوسة.