كتب وسام حمدي
مرّت سلطة الرئيس قيس سعيد إلى السرعة القصوى في محاربة اتحاد الشغل وقياداته وقواعده إلى درجة أن أنصارها باتوا يروجون فكرة أن كل من يتعامل مع المنظمة العمالية أو يتضامن معها هو متهم إلى أن تثبت إدانته.
إزاء هذه التحولات المتسارعة، ينتفض النقابيون السبت في معقلهم التاريخي بطحاء محمّد علي، لا فقط للدفاع عن تاريخ نقابي متمرد منذ نشأته ومتجذر في البلاد أو فقط للتنديد بما يتعرض له جزء هام من النقابيين للتنكيل، بل للإفصاح بأكثر وضوح وأكثر من أي مرة بموقف المنظمة الذي سيكون قويا وفي حجم اللحظة التاريخية ورافض لتوجه السلطة نحو حكم فردي عنوانه الأبرز "البدء في ضرب الحريات مهما كان مأتاها ومصدرها".
قُبيل أن تبلغ الحرب ذروتها بين قيس سعيد واتحاد الشغل، تمسّكت المنظمة العمالية منذ 25 جويلية 2021 بالتعامل مع السلطة السياسية بمنطق الندية المراهن على الحوار في محاولة لتليين المواقف وكسر جمود الرئيس وسحبه إلى مرّبع التفاعل مع الآخر وتحديدا مع الأجسام الوسيطة لبناء تصورات وبرامج مشتركة هدفها أولا إنقاذ تونس من الإفلاس لكن ليس عبر الانخراط في أجندات الجهات المالية المانحة وعلى رأسها صندوق النقد الدولي.
فَهم الرئيس في الأشهر القليلة الماضية، أن مسارعة قيادات اتحاد الشغل لبلورة مبادرة مشتركة -هدفها التجميع لا التفريق- مع منظمات أخرى كالرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وعمادة المحامين والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية ، تدل بالضرورة على حالة الوهن التي يمر بها الاتحاد وأن الفرصة قد أتت أخيرا لضرب أهم فاعل قد يكون معرقلا أو حاجزا أمام استكمال سعيد مشروعه السياسي القائم على الاستفراد بالسلطة والتحكم بمصير البلد كما لو كان مزرعته الخاصة.
جزء هام من فهم الرئيس لتحركات الاتحاد الهادئة والناعمة، كان في محلّه فلا أحدا يمكنه أن ينكر أن الأزمة السياسية قد ألقت فعلا بظلالها على منظمة حشّاد، إذ انقسمت صفوفه فعلا في ما يتعلّق بالموقف من قيادة سعيّد للبلاد وهذا منطقي وعادي وتمرس عليه الاتحاد منذ نشأته، كونه يتكوّن أساسا من روافد سياسية مختلفة التوجهات والأيديولوجيات والمنطلقات في التعامل مع السلطة.
لكن ما لم يفهمه قيس سعيّد في هذه النقطة الأخيرة، بحكم حداثته بعالم السياسة ومعامعها بصفة خاصة وبالشأن العام بصفة عامة، أن عقيدة النقابيين مهما اختلفوا تُبنى دائما وأبدا على أسس واضحة لا تزيغ مطلقا عن عنوانها الأساس" قد نختلف مع قيادة الاتحاد، لكن لا يمكن أن نختلف على الاتحاد".
بالتأكيد سيختبر التونسيون، السبت من جديد في التجمع العمالي ببطحاء محمّد علي مدى صحة مقولة ظلت راسخة في الأذهان خلال الاستعمار وبعد الاستقلال وطيلة عقود رافقت بناء الدولة الوطنية شعارها الأبرز " عاش الاتحاد أكبر قوة في البلاد".
لكن في كل هذا ستكون المعركة الجديدة – القديمة بين الاتحاد والسلطة أيضا، منطلقا أساسيا وهاما تحّدد فيه هوية الخصم وملامح أهدافه ومدى قدرته على الصمود أمام ثورة النقابيين. فالتاريخ وحده خير دليل على أنه من الحتمي أن يكون لخصم الاتحاد ماض وحاضر يتسقان مع نزعته للفتك بقلعة فرحات حشّاد والحبيب عاشور وأحمد التليلي وغيرهم.
في قلب هذه المعركة، تدور المناكفات بين السلطة والاتحاد في أجواء شبيهة تماما بما حدث في 26 جانفي 1978، خاصة من حيث الاتهامات التي توجهها السلطة عبر أنصارها سرا وعلنا لقيادات الاتحاد والبعض من قواعده.
لكن رغم تشابه الأوضاع بين الحقبتين، توجد في الحقيقة فوارق عميقة في ما يتعلق برأس السلطة، فقيس سعيّد ليس الحبيب بورقيبة الذي كان أكثر احتكاكا ومعرفة بالنقابيين منذ ما قبل الاستقلال خاصة في مستوى تكتيكاتهم أو عقيدتهم النقابية التي كانت دائما تساوي حب الوطن بحب الاتحاد.
هذه العقيدة الأخيرة المرسخة في الدوائر النقابية منذ الرعيل الأول والغائبة راهنا عن حسابات الرئيس، ستوقظ السلطة حتما عاجلا أم آجلا من حلم استسهال اتحاد الشغل واعتقادها شبه النهائي أن وقت تفكيكه من الداخل قد حان أو أن المعركة قد باتت محسومة وأنه لا يفصل الرئيس عن الانتصار بالضربة القاضية عن أهم فاعل اجتماعي سوى بعض الوقت.
وأثناء قراءة تاريخ خصم الاتحاد الجديد بالجرد والنبش في حاضره وماضيه، لا يجد المتابع في أي المحطات التاريخية للبلاد أي دور أو تحرك للرئيس قيس سعيّد في فلك اتحاد الشغل سواء كان ذلك بالمساندة أو الرفض له كي يفهم الناس كيف سيتصرف لمجابهة تصعيد الاتحاد. فكل ما يعرفه الجميع إلى حد الآن سوى حقيقة ثابتة وحيدة وهي أن قيس سعيد لا يعترف إلا بتسليط سكين القوة الصلبة أو تعبيد طرق السجون أمام كل من يعارضه. فإلى أين ستؤول الأمور؟
ولا يختلف تعامل قيس سعيد مع اتحاد الشغل أبدا عن سياسات سابقة انتهجها قبله زين العابدين بن علي أو حركة النهضة.
إن القاسم المشترك بين هذا الثلاثي الذي تعاقب على حكم البلاد يكمن أساسا في عدم ممارسة جميعهم العمل النقابي على أرض الميدان أو عدم الإيمان به أصلا كفكرة تدافع عن الفئات المقموعة والكادحة.
ولكل هذه التشابهات، فإن الهدف المشترك بين هذا الثالوث -مع اختلاف الأسلحة طبعا- لم يخرج أبدا في مقاصده المعلنة من بوتقة اللعب الدائم على محاولة تفكيك المنظمة داخليا وشق صفوفها أو الالتجاء في النهاية إلى قمعها وضربها وتشويهها كنتيجة لإدراك تام بأنها الجهة الوحيدة الوازنة التي يمكنها أن تعيد في أي وقت تغيير موازين القوى.
ولفهم كيف تفكّر وتنظر السلطة الحالية بصفة دقيقة إلى الاتحاد العام التونسي للشغل، يكفي هنا فقط إلقاء نظرة أو متابعة بسيطة لمفسّريها وأنصارها الذين يكرسون كل وقتهم وجهدهم شأنهم شأن أنصار حركة النهضة سابقا لتشويه الاتحاد وتحميله مسؤولية ما يحصل في البلاد تماما كما لو أنه هو من حكم البلاد سابقا أو من يدير خيوط اللعبة السياسية راهنا.
والأغرب في كل هذه الحرب، أن مفسري الرئيس يحاولون أيضا الآن إعادة إحياء تلك الرواية الممجوجة "الاتحاد يمارس الفعل السياسي" وكأن ذلك شيء جديد أو أن الاتحاد كان يكتفي في عهد الاستعمار أو خلال ثورة 2011 وبعدها بالاختباء في قلعته وبإصدار بيانات تقنية نقابية أو أنه لم يشارك سابقا في هندسة فعل سياسي ميداني تحرري من المستعمر أو متمرد على السلطة فقد فيه الكثير من الشهداء.
علاوة على كل هذا، وفي هذا الوقت الذي تكرس فيه بعض الوجوه ممن يسمون بـ"نخبة" محسوبة على الرئيس وتلتحف بعباءة ما يعرف بـ"المساندة النقدية" وتحاول ترويج الوهم للناس بأنها الضد الأول لحركة النهضة وتتهم كل من يخالف قيس سعيد بالخيانة، يُطرح السؤال التالي : ماهو المطلوب من اتحاد الشغل وقد بات البلد أشبه بمعتقل تُقمع فيه كل الأصوات المعارضة وحرية التعبير والحريات النقابية؟
لقد بات على هؤلاء قبل أن يفوت الأوان، أن يدركوا جيدا أن مفهوم العمل النقابي منذ نشأته لم يغالط الناس بل كان واضحا عند تحديد مربع تحركاته، فالنقابات العمالية تهدف في جوهرها دائما إلى جانب افتكاك حقوق العمال لتعزيز القرار الديمقراطي والمشاركة في مواجهة تغول السلطة التنفيذية على بقية السلطات.
والاتحاد العام التونسي للشغل شأنه شأن بقية التنظيمات النقابية أو السياسية، ليس مقدسا ولن يكون كذلك، وليس معصوما من الخطأ. لذلك وبحديثنا عن تاريخه أو واجبه في الدفاع عن الديمقراطية، ندرك جيّدا أن أنصار الرئيس سيسحبون من الرفوف سردية الفصل 20 وحكاية المؤتمر الاستثنائي.
لكن قبل أن يغوصوا في ذلك من جديد، فليعملوا أن "قضاء الرئيس" قد أنصف القيادة الحالية بإبطال المؤتمر الاستثنائي الذي قاده نقابيون دخلوا الآن بلاط السلطة ومنهم من أصبح وزيرا، لذلك لن تنفع الآن المزايدة بهذا الملف في هذه المعركة لأن في مجرد الحديث عنها أصلا من الأنصار تشكيك في قضاء قيس سعيد.
أما في ما يتعلق بذلك الحديث المتواتر بالهمس تارة والعلن تارة أخرى عن وجود ملفات فساد تكبل تحركات المركزية النقابية، فليس بين أيدي المتابع سوى حجة قوية واحدة يستند عليها وتكمن في تحدي نور الدين الطبوبي الدائم للسلطة ولأي كان بتأكيده في أكثر من مرة وعلى الملأ على وجوب توجه كل من لديه ملف يدين المنظمة بالتوجه إلى القضاء. فماذا تنتظر السلطة وقضاءها إن وجدت هذه الملفات فعلا؟
كل هذه التفصيلات في العلاقة التاريخية والراهنة بين اتحاد الشغل والسلطة، تشي بكل تأكيد أن الطبوبي وإن تختلف معه، تسانده أو ترفضه، سيُعيد السبت إحياء لمحات وشذرات من التاريخ، إذ سيقف الرجل في شرفة الاتحاد ببطحاء محمد علي وسيلوح بيديه تماما كالحبيب عاشور لجماهيره صادحا بموقف أكثر قوة وشراسة للاتحاد من السلطة الحالية.
لكن يبقى السؤال الأهم في كل هذا، كيف ستتفاعل السلطة مستقبلا مع الاتحاد؟ فمن الواضح أن تجمع السبت لن يكون التجمع الحاشد الأخير، فهل ستمضي مثلما ما حصل في 1978 نحو صدام وحشي على شاكلة حكومة الهادي نويرة وتلفيق التهم للنقابيين والزج بهم في السجون أم أنها ستتراجع خطوة إلى الوراء متعظة من التاريخ.
وفي كل هذا، مهما كان ما تفكر به السلطة من آليات لكبح جماح الاتحاد عليها أن تتريث قبل أن تتورط في حرب طويلة الأمد ستكون بالنهاية خاسرة لأن اتحاد الشغل لم يشغل الدولة في كثير من الأحيان بتحقيق انتصارات مدهشة بقدر ما حيّر الناس بنكسات وهزائم خرج منها حيّا، فهو أشبه بطائر السمندل الذي يعشق النار ويتلذذ جحيمها ولكنه لا يحترق ثم يبدأ في الطيران من جديد.