انطفأتْ أنوارُ المسارح الصيفية وتراجعت جحافل البعوض ولملم المصطافون بقاياهم عائدين من حيث أتوا، وضع الأطفالُ الصغار أوزارهم على ظهورهم وأحْنوا هاماتهم للعلم والمعرفة تحت وطأة الكتب الثقيلة والكراريس المدعومة والأحلام الصعبة، الآن وقد دارت عجلة مركبة الخريف الضخمة تشق طريقها بنا نحو سنة أخرى تنسلخ من أعمارنا القصيرة، دقّت طبول موسم جديد، واشتعلت النّار في قلب هذا القطار البخاري العجوز الذي نركبه كلّ عام، فأطلق صفارته ليأخذنا من محطة إلى أخرى. إنها العودة.
كلَّ عام تتساقط أوراق الخريف الصفراء على الأرصفة الحجرية القديمة، وتندفع في شوارع المدينة أصوات الصغار وضحكاتهم البيضاء وأمانيهم الطرية، كلَّ عام تزدحم الطرقاتُ والأزقةُ بأفواج من الحالمين الجدد، أطفالٍ بلغوا سنّ المدارس وانْتُزعوا من طمأنينة البيت الدافئة إلى عالم جديد. كلَّ عام تفتحُ المدرسة أبوابها الحديدية الزرقاء ويعود حارسُها إلى مقعده الخشبي العتيق وتأوي عصافيرُ السّاحة إلى زقزقاتها ليبدأ عام جديد. إنها العودةُ، ومع كلِّ عودة إلى مقاعد العلم المهترئة والسبّورات الخضراء المتشققة والطبشور الملون ذي الرائحة النفاذة تندفع في شرايين الحياة ملايين الأفكار والخواطر والذكريات، وتعجّ في نفوس العابرين أحلام شتى.
كلُّ يوم يمرّ هو ورقـــة أخــرى من كتاب الحياة نــــــقرأها بـــشغف أو بغير مبالاة، وكلّ طفل يمرّ هو حياة بأسرها تكتظ بالتفاصيل الصغيرة، تلك التفاصيل التي تتجمّع عند نقطة الرؤيا فتندلع منها الرغبات الكبيرة والطموحات العارمة، وكلّ مدرّس يعـبُر الشارع في اتجاه الدّرس هو فيض من المعارف والمشاعر والأحاسيس، هو كائنٌ لابدّ منه، كلُّ عودةٍ مدرسيةٍ هي ميلادٌ جديد وبعثٌ وانتصارٌ للحياة في زمنٍ صعب المراس، كلُّ عودةٌ هي حياةٌ أخرى تدبّ في قلب الحياة التي نعيش، فالحياةُ التي نحيا تتغيّر حين تختفي من شوارعها وساحاتها وحافلاتها الميدعاتُ الزرقاء، ويتثاءب أربابُ مكتباتها وهم يلوكون انتظارهم بين أكداس الدواوين القديمة والكتب التي لا يقرأها أحد، فحياة الصيف استراحةُ محاربٍ مكدود بين معركتين، حياة السراويل القصيرة والوجوه العابرة والأجساد الملتهبة.
كلّما كنست رياحُ الخريف الأولى بقايا الصيف وانطلقت القاطرةُ تجرُّ وراءها ملايـــينَ الرَّغبات والهواجس والأحلام والرؤى، أتذكّر أولئك الذين لن يجدوا في هذا القطار مكانا لهم، والذين وصلوا ولم يجدوا أحدا في انتظارهم والذين يلملمون في صمت خيبات الانتظار الطويل وينظرون إلى القطار يمضي والأطفال الصغار يلوحون بأياديهم الصغيرة من شبابيكه العارية، أولئك يجلسون على قارعة الحياة في انتظار فرصة تنتشلهم من الصمت الذي يغرقون فيه شيئا فشيئا، فرصةٍ ينقضُّون عليها ليخرجوا كالمارد المسجون من قمقم الانتظار والصمت والخيبة، أولئك الذين يقــــفون على الحدّ الفاصل بين منطقــــتين: أن تـــكون أولا تكون، أولئك الذين لا تعنيهم العودةُ في شيء لأن الانتظار جعل الأشياء تتشابه والفصول تتشابه والوجوه تتعدّد وتتكرّر في شكل واحد والرغبات تتضاءل وتتراجع، أولئك وحدهم يؤلمهم صفيرُ قطار العودة لأنه يذكرهم بأنهم في يوم ما قد ركبوا قطارا لا يوصلهم إلى الوجهة الصحيحة فأخطأوا الحياة.
كتب عامر بوعزة على صفحته بالفايسبوك