إعداد : تبر النعيمي
تحوّلت قاعة الجلوس بمنزل الشابة نسرين دالي ( فنانة و كاتبة ) الكائن وسط العاصمة إلى "مخزن" حيث تراكمت التجهيزات والآلات والأشياء التي كانت تؤثث مركزها الثقافي "أفروماد" بحي التضامن قبل أن تضطر إلى إغلاقه منذ أكثر من سنة.
رافقتها إلى الغرفة التي قالت إنها لم تستطع أن تدخلها من قبل وتركت مهمة تنظيفها لأمها، أما تنظيمها فبدا مهمة صعبة نظرا لصغر مساحتها مقارنة بحجم ما احتوته.
وأضافت بألم وهي تشير إلى محتويات الغرفة "يصعب علي التخلص منها وهل باستطاعة أحد أن يتخلص من أبنائه ؟!!"
كان حلم نسرين (34 سنة) بعث فضاء ثقافي يجتمع فيه الناس للخلق والإبداع "لا يهم إن كانت مسرحية أو كتابا أو أغنية أو لوحة فنية .. يكفي أن تكون لحظة فرح في فضاء آمن للحياة ".
سعت إلى تحقيق هذا الحلم والتزمت بكراس شروط إحداث واستغلال مركز ثقافي خاص صادر في 11 جانفي 2016، ويتضمن أربعة أبواب ثلاثة منها تحوي 20 فصلا يتعلق جلها بشروط ومقاييس بعث المركز وطريقة تسييره والمتابعة والعقوبات، ليختمه الباب الرابع تحت عنوان " الامتيازات المخولة للمستثمرين في مجال إحداث واستغلال المراكز الثقافية الخاصة" ويقر في فصله الواحد و العشرين والوحيد أنه "ينتفع باعثو المشاريع المنجزة في مجال المراكز الثقافية الخاصة بالامتيازات المخولة لهذه المشاريع و المنصوص عليها بمجلة تشجيع الاستثمارات وجميع النصوص المنقحة و المتممة لها".
كراس شروط يغري الفنانين و المبدعين بالاستثمار في القطاع الثقافي ويشترط في فصله الثامن أنه "على الباعث الإدلاء بنسخة مطابقة للأصل من الشهائد العلمية في الاختصاصات الثقافية وبملف يتضمن الوثائق والمؤيدات المثبتة لخبرة الباعث في المجال الثقافي بالنسبة إلى الباعثين من غير حاملي الشهائد العلمية في الاختصاصات الثقافية".
ويتمتع الباعث بامتيازات جبائية تقول نسرين إنها تتمثل في دفع 5 بالمائة اداءات عوض 15 بالمائة عند تسجيل العقود في القباضة المالية.
أما هي فبعثت مركزها الثقافي "أفروماد "في حي التضامن بولاية أريانة بما ادخرته من أموال وما اضطرت إلى التداين لأجل تحصيله".
وتواصلت رحلة المعاناة منذ بداية نشاطه لتنتهي إلى إحباط فما كانت تسمع عنه من دعم ثقافي في وسائل الإعلام لم تجد له أثرا على أرض الواقع حسب قولها !!
طلب الدعم .. رحلة مضنية
ووصفت ساخرة رحلتها مع طلب الدعم ب"المضحكة" "أقدم مطلبا إلى إدارة فترسلني إلى إدارة أخرى، و عند الموافقة النادرة بعد جهود مضنية تدوم أشهرا تنتظر فترة حتى تحصل على الدعم المالي، حينها يكون قد فات الأوان ومرت مناسبة تنظيم النشاط الثقافي الذي طلبت من أجله الدعم"!!
وفتحت نسرين مركزها في شهر ديسمبر من سنة 2016 و ظل ينشط إلى نوفمبر 2020، وتحصلت على أول دعم من وزارة الشؤون الثقافية في 2018 وتقول إنه يتم الاستجابة إلى مطلب على عشرة مطالب، أما المندوبية الجهوية للشؤون الثقافية بالجهة فإن دعمها يكون في شكل نشاط ثقافي في إطار مشروع ثقافي وهذا ما يصعب تحقيقه أيضا.
وتضيف أن لها الحق في الدعم من المرافق العمومية (البلدية، الولاية مندوبية الثقافة وسلطة الإشراف) . وقد حاولت أن تبعث مركزا ثقافيا بلديا بالشراكة مع بلدية أريانة وبعد لقاءات ومشاورات منذ سنة 2017 لم يتحقق شيء!!
كما أنها توجهت إلى ثلاث بلديات (حي التضامن ، المنيهلة و أريانة) ولم تتلق أي دعم منها، وتؤكد أن البلديات تبرر هذا الرفض بأن الناس بحاجة إلى مساعدات اجتماعية وليس إلى الثقافة!!
وحين تحصل على دعم "بشكل مذل" ، كما تصفه، من وزارة الشؤون الثقافية فإنه يمنع عليها استغلاله لتغطية نفقات تسيير المركز (كراء، مصاريف..) ويجب أن يوجه إلى الأنشطة الثقافية و تقدم أدلة على ذلك والمتمثلة في العقود التي تمضيها مع الفنانين والمنشطين والمدرسين الذين يتعاملون معها .
وكان مركز "أفروماد" يحقق بعض المداخيل عبر تأمين حصص تربوية وفنية بمقابل موجهة لتكوين الأطفال في مجالات مثل الموسيقى والرقص والمسرح حتى تتمكن من تغطية بعض المصاريف.
لكن وحين ظهرت الكورونا وفرض الحجر الصحي على الجميع توقفت أنشطة المركز وظلت المصاريف (الكراء، فواتير ،يد عاملة …) دون مداخيل وتراكمت الديون ما أثقل كاهلها و اضطرها إلى إغلاق مركزها الثقافي !!
" و في الحي الشعبي الذي عانى دائما التهميش كان مركز "أفروماد" يستقطب عشرات الأطفال والشباب من كل الفئات ( تلاميذ، منقطعون عن الدراسة، مركز مندمج للطفولة، طلبة، معطلون..) في ورشات تربوية و تثقيفية و فنية و أنتجوا أعمالا إبداعية. أما اليوم فقد عادوا إلى حياتهم التي يهددها الشارع " تقول نسرين التي ماتزال تتذكر بكاءهم يوم غلق المركز الذي تحولت ساحته إلى رحبة لبيع الأغنام!!
الغلق أو المعاناة .. القدر المحتوم
وفي ولاية أريانة بعثت ستة مراكز ثقافية وفق كراس شروط إحداث و استغلال مركز ثقافي خاص، أغلق اثنان منها فيما تعاني البقية حسب صاحباتها صعوبات مادية نظرا لانعدام الدعم .
أما المركز الثاني الذي أغلق بعد أشهر فقط من فتحه فهو لهادية بن جامع والذي بعثته بحي النصر. التقيتها في مبنى تملكه بالعاصمة حيث وضعت الأثاث والتجهيزات التي كانت بالمركز .
و رغم اعترافها بحالتها المادية الميسورة إلا أنها لم تتمكن من مواصلة النشاط في فضاء ثقافي لم يشهد إقبالا في أحد الأحياء الراقية بأريانة.
وهادية تمارس الرسم والكتابة و شغوفة بالثقافة والفنون منذ صغرها، و ظلت تحلم ببعث فضاء ثقافي واختارت حيا يعج بالمقاهي والمطاعم ليكون ملاذا للأطفال و الشباب خاصة حسب قولها، لكنها اصطدمت بواقع نسف كل آمالها !!
وتقول هادية إن غايتها لم تكن الربح فكان يكفيها أن تسدد المصاريف من أنشطة المركز وتمنت أن تدعمها سلطة الإشراف بعروض لدعم أنشطة المركز، لكن ونتيجة عدم الإقبال وتجاهل السلط اضطرت إلى إغلاق المركز الذي أضحى عبئا ماديا على كاهلها.
وكان من مكونات المركز فضاءات للتربية التشكيلية والموسيقى و الرقص و اليوغا كما حاولت هادية بحكم تكوينها و خبرتها تكوين الأطفال والشباب في مجال التربية على السلام، وكانت تأمل أن ترعى الناشئة.
وإن اضطرت نسرين و هادية إلى إغلاق مركزيهما الثقافيين فإن سنية السويسي (فنانة تشكيلية) ماتزال تكابد المتاعب حتى تحافظ على مركزها الثقافي 421 الذي بعثته بمنطقة رواد و تقول إنها تؤمن بديمقراطية الفن و الثقافة لذلك بعثت قاعة عرض للفنون التشكيلية في حي شعبي وفي سبتمبر 2019 حوّلته إلى مركز ثقافي .
وتضيف أنها واجهت صعوبات بعد إحداث المركز خاصة وأن التكوين في الورشات مجاني ولم يكن هدفها الربح وإنما استقطاب الأطفال و الشباب خاصة منهم المنقطعين عن الدراسة والعاطلين عن العمل ، وتأطيرهم فنيا وثقافيا في مجالات المطالعة و الرسم و الموسيقى و المسرح وأضحت تنفق ما تجنيه من بيع لوحاتها على المركز ..
وتقول سنية إنها كانت تستمع إلى المسؤولين وهم يؤكدون دعمهم الثقافة وتشجيعهم الشباب وخاصة منهم باعثي المشاريع الثقافية في المناطق النائية والأحياء الشعبية . لكنها لم تجد من كل هذا شيئا في الواقع !! فقد توجهت بمطالب عديدة لسلطة الإشراف و لم تكن تتلقى أي تبرير للرفض رغم مطالبتها بذلك.
ونتيجة إصرارها تلقت ردا في أواخر شهر ماي المنقضي بأنه " وفقا للتشريع والتراتيب الجاري بها العمل فإن المراكز الثقافية الخاصة لا تنتفع بمنح من قبل الوزارة بعنوان التجهيز والتسيير .. "، وكانت تقدمت بمطلب في ديسمبر 2021 للحصول على منحة مساعدة على التجهيز و التسيير بعد الأزمة الاقتصادية بسبب الكورونا والتي سببت لها صعوبات مادية قد تؤدي إلى الإفلاس والغلق !!
وتطلب سنية من وزارة الثقافة والمندوبية الجهوية للثقافة بأريانة الدعم المادي واللوجستي حتى تتمكن المراكز الثقافية الخاصة من مواصلة أنشطتها فهي تساهم في تثقيف الناشئة وحمايتهم و رعايتهم خاصة في الأحياء المهمشة وتقول إنه لا يوجد قانون يمنع الدعم كما لا يوجد نص يحدد شكل دعم هذه المراكز !!
وتضم رواد 136.840 ألف نسمة و أهم فضاءاتها الثقافية المركز الثقافي 421 و دار ثقافة عمومية ، ولا توجد بولاية أريانة التي يتجاوز عدد متساكنيها 661 ألف ساكن سوى ثلاث دور ثقافة عمومية، بالمنيهلة ورواد و قلعة الأندلس التي أغلقت منذ فترة و سيتم هدمها لبناء واحدة أخرى حسب مصادرنا بولاية أريانة.
التمويل العمومي .. بشروط
تخصص الجماعات المحلية ميزانيات للشأن الثقافي وهذا ما أكدته ليلى العياشي مديرة وحدة الإعلام والمتابعة و العلاقات الخارجية و تنشيط المدينة ببلدية أريانة. "بلدية أريانة تدعم الأنشطة الثقافية و تخصص لها ميزانية ب300 ألف دينار سنويا" مبيّنة أن البلدية تعد برنامجا سنويا للثقافة وتنظم كل شهر تقريبا تظاهرة ثقافية بالتعاون مع شركائها. أما شركاؤنا فهم أساسا الجمعيات الثقافية الموجودة بالمنطقة البلدية، التي ندعم أنشطتها بشكل مادي عبر تقاسم مصاريف النشاط الثقافي أو تمويله كليا في إطار التمويل العمومي للجمعيات حسب الأمر الحكومي لسنة 2013 المتعلق بالتمويل العمومي للجمعيات ".
توضح ليلى التي تضيف أنه لم يسبق أن توجه أي مركز ثقافي خاص إلى البلدية طلبا للدعم ، فيما أنهم يتعاملون كثيرا مع المراكز الثقافية العمومية، مؤكدة استعداد البلدية للتعاون مع المراكز الثقافية الخاصة حيث يتم التأكيد في كل بلاغ عمومي على التعاون مع المتدخلين في المجال الثقافي جميعهم .
وفي أريانة الجديدة ( تتبع ترابيا بلدية أريانة ) بعثت الفنانة منى شطورو ( أستاذة موسيقى) مركزها الثقافي الخاص "الدوندي" ( سنة 2017 )، بعد سنوات من تأسيسها معهدا خاصا للموسيقى ( أواخر سنة 2009).
وتقول منى إنها قدمت مشروع أنشطة ثقافية لوزارة الشؤون الثقافية للحصول على "منحة أنشطة ثقافية" لتجهيز و تسيير المركز في سنة 2017 وتلقت الموافقة بعدها بسنة (2018) و حصلت على نصف المبلغ بعد أربع سنوات و ماتزال تنتظر القسط المتبقي من منحة قدرها الجملي 25 ألف دينار .
وهنا يكمن التساؤل عن مقاييس إسناد الدعم إلى باعثي المراكز الثقافية الخاصة؟ و لماذا تستجيب الوزارة لمطالب باعثين و ترفض مطالب أخرى و كأنها سياسة المكيالين !! فقد استجابت لمطالب نسرين ومنى و لم تستجب لسنية وهادية !!
حاولت الاتصال بوزارة الشؤون الثقافية علني أحصل على إجابة لهذه الاسئلة وطلبت لقاء مع الوزيرة والمسؤول عن صندوق التشجيع على الإبداع الأدبي والفني لكن طلبي لم يحظ بالموافقة !!
جائحة الكورونا عمّقت الأزمة !!
وتقول منى شطورو مستنكرة إن الدولة و بسبب جائحة الكورونا فرضت عليها إغلاق المركز لفترات ولم تعوض لها ما خسرته جراء ذلك و حتى إعانة المائتي دينار لأصحاب " الباتيندا " تقدمت لأجلها بمطلب و لم تحصل عليها !!
ونتيجة الصعوبات المادية التي كابدتها المراكز الثقافية الخاصة أثناء الجائحة بعثت بعض صاحبات هذه المشاريع منصة اسمها "شقاقة" لجمع التبرعات حتى تتمكن من مجابهة نفقات التسيير بعد الغلق وكان أملهن جمع 30 ألف دينار لكن قيمة التبرعات لم تتجاوز 4 بالمائة (1330 دينارا ) .
وإن لم يعد مركز "دوندي " يعاني صعوبات مادية كبيرة بعد عودة نشاطه لكنه لا يحقق ربحا حسب قولها " فارتفاع الأسعار و غلاء المعيشة في تونس دفعت الأساتذة المنشطين والمدربين في المركز إلى المطالبة بزيادة رواتبهم، و في المقابل يرفض الأولياء والرواد الزيادة في أسعار التكوين، و لهذا أنا أشتغل أكثر على وفاء حرفائي ".
" و بما أن المركز كان في الأصل معهدا خاصا للموسيقى وعرف على هذا الأساس فإن الدروس التي نقدمها في مجال الموسيقى هي التي تغطي مصاريف تسييره . فيما أنه يفترض، و بصفتنا مركزا ثقافيا خاصا، اقتراح مشاريع ثقافية والحصول على دعم لتنفيذها للمساهمة في إثراء المشهد الثقافي من جهة وتشغيل المبدعين وتأمين تكوين مجاني للراغبين في ذلك خاصة من الناشئة. و هذا هو الهدف الأساسي من بعث المركز لكن و في ظل غياب الدعم فإننا نعمل في حدود إمكانياتنا المتواضعة " تقول منى.
وتطلب من الدولة تحديد منحة سنوية مقننة للمراكز الثقافية الخاصة وفق شروط ، و تؤكد أن ولاية أريانة تفتقر إلى الأنشطة الثقافية والفضاءات الثقافية حتى أنه لا يوجد سوى قاعة عروض كبرى وحيدة ويتم كراؤها بمبلغ كبير لا تتحمله المراكز الثقافية الخاصة .
ديون متراكمة .. و الخلاص صعب !!
وفي المنزه الخامس ( يتبع ترابيا بلدية أريانة) بعثت الفنانة لمياء الرياحي مركزها الثقافي "رياحيات" في جانفي 2020 و رغم البداية الواعدة التي عرفها المركز إلا أنه لم ينشط طويلا حتى عمت أزمة الكورونا البلاد فاضطرت إلى الإغلاق لفترات، وكان أمل لمياء أن تساعدها سلطة الإشراف على تجاوز أزمتها المادية بعد الوعود التي تلقتها لكنها لم تلمس منها شيئا على أرض الواقع !!
كانت غاضبة ويائسة حين تمكنت أخيرا من الحديث إليها عبر الهاتف و فهمت أنه كان يصعب عليها الحديث في هذا الموضوع نظرا لحالتها النفسية الصعبة فقد تراكمت عليها الديون بسبب نفقات التسيير دون مداخيل لفترة ناهزت السنتين خاصة و أنها اكترت مقر مركزها في منطقة راقية و معاليم الكراء باهظة.
و عاد مركز "رياحيات" إلى النشاط فإنه تم تقليص الأنشطة الثقافية التي يؤمنها لرواده و ماتزال لمياء تنتظر و لو ردا على المطالب التي توجهت بها لسلطة الإشراف لدعمها !!
ويمكن للمياء وزميلاتها من باعثي المراكز الثقافية في ولاية أريانة أن يحظين بالدعم من مصالح تتبع وزارة الشؤون الثقافية مثل المندوبية الجهوية للثقافة بأريانة والمؤسسة الوطنية لتنمية المهرجانات و التظاهرات الثقافية و الفنية وصندوق التشجيع على الإبداع الأدبي والفني ووحدة الإحاطة بالمستثمرين وقد حاولت إجراء لقاءات صحفية مع المسؤولين عن هذه المصالح لتبين مدى علاقتهم بهذه المراكز الثقافية و مدى دعمهم لها لكن لم تسمح لها وزارة الشؤون الثقافية بذلك !!
وغير بعيد عن المنزه 5 و تحديدا بالمنزه 6 بعثت الفنانة الشابة شيماء قدور ( 29 سنة) مركزها الثقافي "بيدار" في سنة 2020 بعد أن كان شركة إنتاج فنية، وإن كانت تنشط دون صعوبات قبل الكورونا فإنها واجهت عراقيل أثناءها واضطرت إلى أخذ قرض من البنك بشكل شخصي بعد أن رفض البنك منح قرض لمشروع ثقافي ربحه غير مضمون !!
وتنفق شيماء مرتبها الذي تتقاضاه من أحد معاهد الموسيقى على المركز ( تعمل أستاذة موسيقى ) كما أنها لا تتقاضى مرتبا عن الدروس التي تؤمنها في "بيدار" ضغطا على النفقات.
وتقول شيماء إنها لم تتلق أي دعم رغم أنها تستقطب بعض الأطفال بشكل مجاني وتتساءل إن كانت الدولة تدعم حقا الثقافة !!
استخفاف بدور الثقافة في المجتمع !!
وينص الفصل 42 من دستور تونس لسنة 2014 على أن " الحق في الثقافة مضمون، حرية الإبداع مضمونة، وتشجع الدولة الإبداع الثقافي وتدعم الثقافة الوطنية في تأصلها وتنوعها وتجددها بما يكرس قيم التسامح ونبذ العنف والانفتاح على مختلف الثقافات والحوار بين الحضارات . تحمي الدولة الموروث الثقافي و تضمن حق الأجيال القادمة فيه".
لكن يبدو أن مبادئ هذا الفصل بعيدة عن التطبيق حسب المحامي والمختص في الشأن الثقافي عمر لبيض الذي يقول إن قطاع الثقافة مهمش في تونس "هناك استخفاف بأهمية الثقافة رغم أنها سبب نمو الشعوب والأمم " مضيفا أن الإشكال الأبرز في تونس هو غياب الإطار القانوني الذي يحمي المبدع وإنتاجه إلى جانب النقص التشريعي، و حتى التشريعات الموجودة لا يمكن تفعيلها كلها " .
" و للأسف وجدت المراكز الثقافية الخاصة في هذا السياق !! " يقول المحامي ويضيف أن الاستجابة لكراس الشروط يجب أن يكون شرطا أوليا للتمتع بالدعم إذ يجب سن نصوص تطبيقية تمكن أصحاب المراكز الثقافية الخاصة من التقدم بملفات للحصول على دعم من الوزارة أو من هياكل أخرى.
ويقترح محدثنا أيضا دعم هذه المراكز في إطار التعاون بين القطاعين الخاص والعام بمعنى الشراكة بين القطاعين في إطار مشروع ثقافي خاص له جدوى اقتصادية، فنسبة ميزانية وزارة الثقافة من ميزانية الدولة ضئيلة جدا حتى أن الدولة ليست قادرة على صيانة مؤسساتها الثقافية و تراثها لقلة الإمكانيات .
وتبلغ ميزانية وزارة الثقافة لسنة 2022 حوالي 372 مليون دينار أي بنسبة 0.78 بالمائة من ميزانية الدولة فيما كانت هذه النسبة تعادل 0.68 بالمائة في سنة 2021.
ويؤكد تقرير ميزانية الدولة لسنة 2022 على أن " القطاع الثقافي يكتسب أهمية بالغة في تنمية وتغيير واقع المجتمع حيث يعد من القطاعات الاستراتيجية التي تساهم في التنمية الاقتصادية بالإضافة إلى أهمية دورها في تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة ومحاربة كل أشكال العنف والتطرف وبالتالي تحقيق التوازن المجتمعي ".
وذكر التقرير أنه تم تخصيص اعتمادات ضمن ميزانية "مهمة الثقافة " قدرها 61 مليون دينار للنفقات ذات الصبغة التنموية، و لسنا نعلم إن كانت المراكز الثقافية الخاصة تنتفع ببعض هذه الاعتمادات فهي ذات صبغة تنموية باعتبارها تساهم في التشغيل واستقطاب الناشئة والشباب بل وحماية العديد منهم من الانحراف وحتى الإرهاب !!
و يشبّه عمر لبيض الثقافة بالصحة " ليس لها ثمن لكن لها تكلفة" ويشدّد على أن من أبرز الوثائق التي يجب ذكرها في كراس الشروط إحداث مراكز ثقافية خاصة، دراسة جدوى المشروع يقوم بها خبير مختص حتى تضمن الدولة أنها تمنح دعما لمشروع ذي جدوى اقتصادية إلى جانب جدواه الثقافية، وفيه ديمومة وفي تركيبته البشرية من يحسن إدارة المشاريع لأن المشروع يجب أن يكون ربحيا أيضا .
اليوم وبعد حوالي سبع سنوات من بعث كراس الشروط يؤكد عمر الأبيض أنه يجب تقييم جدوى هذه المراكز حالة بحالة لتبين أسباب هذا "الفشل" ومظاهره حتى نخلص إلى نتائج علمية دقيقة.
ويصف المحامي كراس الشروط ب " الفخ " بمعنى الفخ الذي وضعته الدولة فقد رفعت الحواجز وسهلت عملية بعث هذه المراكز حتى يكون القطاع مفتوحا على الخواص لكن لم تأخذ بعين الاعتبار أمورا أخرى فكراس الشروط من المفترض أن يكون آخر المراحل بعد تهيئة الأرضية " وأقصد تفعيل نصوص حماية حقوق المبدعين و سن نصوص تطبيقية لإسناد المنح وتفعيل الحوافز فبعث مشروع ثقافي يعني المساهمة في المصلحة العامة وبالتالي يجب تمتيع الباعثين الخواص بحوافز ويتساءل " هل أن الذين يصدرون مثل هذا الكراس لهم دراية كافية بالشأن الثقافي ؟!!" .
الاستثمار الثقافي ليس أولوية !!
من جهته أكد المحامي و الناشط في القطاع الثقافي رمزي الجبابلي أن الاستثمار الثقافي ليس من أولويات مجلة التشجيع على الاستثمارات لسنة 2016 وطالب بسن قانون خاص للانتفاع بالامتيازات التي تنتفع بها بقية القطاعات مثل التجارة و الفلاحة و الصناعة .
ويضيف محدثنا أن أصحاب العديد من الفضاءات الثقافية الخاصة التجؤوا إلى تكوين جمعيات حتى يتمكنوا من الانتفاع بالتمويل العمومي ، إذ يجب أن تكون فضاء مسرحيا أو سينمائيا لتنتفع بمنحة التسيير و منحة الإنتاج و هذه ليست الحال بالنسبة إلى المراكز الثقافية الخاصة.
وهنا نتساءل لماذا تستثنى هذه المراكز من الدعم ؟ و لماذا لم تسن نصوص تطبيقية لتنتفع بالمنح فهي فضاءات تنتج وتعرض وتدرب في المسرح والسينما و الرسم والموسيقى والرقص .. وهي قطاعات تنتفع بالدعم بمقتضى أوامر !!
فبالنسبة إلى المسرح شمله الأمر عدد 396 لسنة 1989 المتعلق بإسناد منحة المساعدة على الإنتاج لفائدة هياكل انتاج و ترويج الفنون الدرامية المحترفة، ووفق الأمر عدد 717 لسنة 2001 يتمتع السينمائيون بمنحة التشجيع على الإنتاج السينمائي . ويضبط الأمر عدد 890 لسنة 1995 مشمولات وطرق عمل لجنة شراء الأعمال الفنية التشكيلية لفائدة الدولة، ويتمتع الموسيقيون بمنح صندوق دعم الإصدارات في الموسيقى والغناء . مع العلم أن فضاءات هذه الفنون بعثت أيضا بمقتضى كراسات شروط.
" وأدى نقص الدعم وانعدامه إلى أن تشتغل جل هذه المراكز كمقاه لتسديد نفقاتها خاصة في الجهات" يقول رمزي الجبابلي، مؤكدا أنهم ضحايا انعدام السياسات الثقافية وضحايا ادعاءات المسؤولين بتشجيع المبادرات الخاصة في الجهات وبعد بعثهم لهذه المشاريع يصطدمون بالواقع إذ لا ينتفعون بالتمويل العمومي طالما أنهم ليسوا شركات ثقافية ولا جمعيات أي أن لا نظام قانوني يحميهم .
ويقول محدثنا إن "الإمضاء على كراس الشروط بعث مركز ثقافي خاص أشبه بالإمضاء على بعث مقهى ثقافي صنف 1 ، فهل هذا من شأنه جلب دعم من وزارة الشؤون الثقافية!! إنه وهم .. هم ضحية إعلان النوايا والسياسات الشعبوية "
نداء استغاثة يطلقه أصحاب المراكز الثقافية الخاصة بعد حوالي سبع سنوات من إصدار كراس الشروط الذي أثبتت التجربة و الخبراء أنه أشبه بفخ زج بضحاياه من المولعين بالعمل الثقافي في بئر سحيقة من المتاعب والمصاعب تنطلق بفتح المركز و تستمر بنشاطه و لا تنتهي بإغلاقه !!
فكراس الشروط لا يكفي لضمان ديمومة هذه المشاريع و نجاحها بل يجب أن يصاحبه سن نصوص تطبيقية للانتفاع بمنح دعم محددة ووفق مقاييس و شروط فللاستثمار في القطاع الثقافي خصوصيات أولها أنه يتعلق بالمصلحة العامة وبنشأة الأجيال .
أجيال تمنت الشابة نسرين دالي أن تؤطرها وترعاها فنيا وثقافيا في حي التضامن لكنها استسلمت بعد أن عجزت عن الاستمرار في مشروعها الثقافي. و لم يكن سهلا عليها تقبل إنهاء حلمها ما جعلها تعاني أزمة نفسية و اكتئابا حادا استمر ثمانية أشهر حتى أنها استعانت بطبيبة نفسية في محاولة للعلاج .
لكنها لم تشف بعد من سقمها ومن حبها لمجال أعطته كل ما تملك ولم تجن سوى الديون المتراكمة والشعور القاتل بالهزيمة وبقايا مركز ثقافي هامد في إحدى غرف منزلها.. مع مستقبل مجهول !!
*أُنجر هذا التحقيق بدعم من مركز تطوير الإعلام