الولادة فعل مقدّس تتخذ معه الحياة مغزى وأفقا جديدا، يرقص فيه الموت على إيقاع الترقب والانتظار حتى يغمى عليه مع صرخات الوليد الأولى، صرخات تتمطّط معها تضاريس الأمل وتتشظى على وقعها بقايا الوجع.
وحينما يُدنّس هذا الفعل تتعدد أوجه الموت وتنقطع كل السبل وتترنح الحياة على نسق الوجع حتى تتلاشى في حضن الموت وتتناثر شظايا اليأس وتغدو المرأة التي اقتلعوا منها ولدها ولم تحضنه "وحشا"..
أشهر من الحمل رقص فيها الجنين في أحشاء والدته ورقصت على وقع الحلم بأن تضمه إليها ولكن أياد آثمة امتدت لتئد حلمه ساعة اسودت فيها السماء وتعالت صرخات الأثير لتعلن مأتم الإنسانية الذي أقامته الفنانة لبنى نعمان في الفيلم القصير الموسيقي "توبة".
"توبة لو كان نعود نتبعك"، كلمات الطاهر الرضواني التي صدح صوت لبنى نعمان الموشح بالوجع والضيم ليلعن الأعين التي أعرضت عن توسلاتها وليخلق طريقا أخرى بعيدا عن إنسانية معطوبة لا تعبأ لدموع أم لا تريد شيئا غير ابنها الذي انتظرت.
في الفيلم القصير المصور الذي تلتقي فيه لبنى نعمان مع رفيق دربها مهدي شقرون عند المحبة والشغف ، تغيب الابتسامات وتتجلى الصرخات في هيئات مختلفة وتتوقف عقارب الساعات عند نظرة أم معلقة بابنها الذي يتلاشى وسط الضباب عندما خانتها خطواتها فلم تستطع اللحاق بصاحب الحمار الذي حمله إلى المجهول.
بأسلوب الخرافة الذي تحضر معه ذكريات الطفولة ورائحة الجدات و"اللمات"، يسائل الفيلم الإنسان والإنسانية، ينهل من الواقع والخيال للرسم لنا مسار تحول "الإنسان" إلى "وحش" غصبا عنه.
على قدر الوجع والسوداوية والغموض في الفيلم على قدر الجمالية التي ترشح من كل التفاصيل، صوتا وصورة ولحنا وإخراجا وأداء وديكورا واكسسوارات، جمالية تخفف وطأة القتامة وتحملك إلى داخلك إلى ذلك الركن القصي الذي لم يُدنّس بعد.
واللمسات الأمازيغية في الفيلم كثفت الحكي فيه وسط "كادرات" تصوير مختارة بعناية من قبل المخرج أمين لخنش كما صنعت للخيال معانيَ على إيقاع صوت لبنى نعمان الذي تخاله قادما من رحم الأرض أو من قلب السماء.
ومن رموز الوشوم الأمازيغية نسجت الأم في الفيلم ملامح خلاصها ورقصت على رماد الإنسانية العليلة وروت نظراتها حكايات كثيرة مطرزة بالوجع والحنق.
ومن اللافت في هذا العمل الفني حضور الممثلين المسرحيين الذين طوعوا تعبيراتهم لترجمة معاني كلمات "توبة" في سياقها الراهن، جمال المداني وفوزية بومعيزة وفوزية بدر وفوزية ثابت ولبنى نعمان الذين حملوا بأدائهم الأغنية إلى مساحات أخرى.