مرّت أول أمس الثلاثاء 31 جانفي الذكرى الثالثة عشرة لرحيل الصجفي الكبير محمد قلبي، مبدع "لمحة" بجريدة "الصباح" و"حربوشة" بجريدة "الشعب".
وللجيل الجديد الذي يسمع بمحمد قلبي ولمحاته وحربوشاته ولم يستمتع بها ننشر في ما يلي آخر "حربوشة" نشرتها "الشعب" قبل أسبوع من "الخميس الأسود"، 26 جانفي 1978، يوم الإضراب العام الذي تخللته أحداث مؤلمة أسفرت عن عدد كبير من القتلى والجرحى والموقوفين. كما أعلنت حالة الطوارئ وفرض حظر التجول وأحيل المئات من النقابيين والعمال على المحاكم:
كانــوا كلّما صعد صـاعد من قومهم ليتناول الميكروفون2 يناولونه ورقة ويقولون له إقرأ. إقرأ باسم حزبك الذي خنق، خنق الإنسان بالورق فكان الرجل المخنوق يقرأ، يتهجأ، يتجشأ، يتلجّأ يترجأ إلى أن يصل إلى نهاية الورقة، فلمّا يصل إلى نهاية الورقة، يعود إلى مكانه في القاعة ليضمّ كفّه إلى المصفّقين على المنصة.
والمنصة هنا لغويا ونحويا هي اسم المكان من فعل نص، ينصّ، نصّا، أي أنها ذلك المكان الذي تكتب فيه النصوص المقروءة والمسموعة والمخطوبة والمتلفزة التي توزع في الاجتماعات الحزبية الرهيبة، الناطقة باسم الشعب بعد تبديل لقبه العائلي.
توالي الصاعدين إذن المنصة، ومعذرة شيخنا الفاضل سيبويه إن أزعج راحتك الأزلية هذا الفاعل المكسور، إنّما تأكّد أنهم هم الذين جرّوه، جرّوه إلى الاجتماع وجرّوه إلى المنصة وجرّوه إلى الميكروفون نحن دائما نسعى إلى رفعه، وهم الذين يجرّونه ويكسّرونه.
صعدوا كما قلنا لتناول المكيروفون، إلى أن نهض واحد منهم ومرّ على المنصة حيث تناول نصه قبل أن يتناول الكلمة بعد عمر طويل إن شاء الله وبدأ يقرأ يقرأ. باسم حزبه الذي خنق.قرأ عن المناورين المندسين المتسربين الهدامين المخربين الفاسدين المفسدين المغرضين المتآمرين غير الفاعلين المجرورين ولا الضالين آمين، قرأ، وتهجأ، عكّز وتعثّر في قراءته إلى أن وصـل إلى أخر كلمة في آخر سطر لآخر فقرة بالصفحة حيث قال معناه لذلك، لكل هذه الاعتبارات بالجملة والتفصيل، وانطلاقا من كل ما سبق، وحيث أننا نمثل جميع الفئات والطبقات، وبما أنّ الحزب وتحت ساقه الحكومة عفوا بل الحكومة وعلى رأسها الحزب يعملان دوما من أجل رفع الإنسان المفعول به رغم وصايا المرحوم سيبويه، وكسر الفاعل أو جرّه إلى الاجتماعات الشعبية حسب النحو والصرف الاشتراكي الدستوري، قلت انطلاقا من كل هذه المعطيات فإنه لم يبق لنا إلا أن نقول لكل هؤلاء والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.ارتجت أرجاء القاعة بالتصفيق، وهرعت الكاميرا تصوّر الأيادي المرفوعة للجماهير المجرورة، ونصبت وطفقت تلتقط اللقطات الملقوطة لقطا إنّما سرعان ما خيّم السكون على الرفع والجرّ والنصب، ذلك أن صاحبنا يعني الرجل الميكروفون لم يقرا كل النص. حسب المسكين أنّ الكلمة انتهت عند ذلك الحد فسلّم على الجماعة وتأهّب لإعطاء الكلمة إلى رجل الصحافة والعودة إلى مكانه فصاح فيه واحد من أهل المنصة والكتاب العموميين للاجتماعات العمومية اقلب الصفحة يا غبيّ اقرأ بقية الكلمة فالكلام لم ينته وارتبك الرجل، ووجم الميكروفون فخشخش لتغطيـــة حشمته، وأغمضت الكاميرا عينيها التي تسمع ولا ترى لتحذف هذا المشهد الاعتراضي في الاجتماع التاريخي المشهود، وسحبت القاعة تصفيقها وتهليلها وأجلته إلى بعد حين ثم واصل القارئ قرايته.
حدث هذا أخي القارئ في بداية الأسبوع، وسأقول لك متى على وجه التدقيق. أمازالت تذكر ذلك الإعلان التلفزي الرهيب الذي أنبأنا هاك الليلة أنّ دار تلفزتنا الوطنية هيأت لنا نشرة إخبارية خاصة لايفائنا ببيان مصيري بالغ الأهمية. أمازلت تذكر؟ حسنا اعلم إذن أنّ ذلك البيان صدر عن المنصة، عن اجتماع اقرأ باسم حزبك الذي خنق عن اجتماع الرجل الميكروفون الذي لم يقلب الصفحة وتأكّد أنّ هذه الحادثة صمدي في صمدي، نسخة طبق الأصل، كأنك كنت حاضرا.
أما الآن فإنني أدعوك فقط لتنسج على منوال هذه المهزلة لتعرف بقية أطوار المسرحية الاجتماعية الشعبية الوطنية يكاد كل شيء في البلاد يصبح من ورق الدستور حبرا على ورق، والقوانين نسخ وتوريق ومسخ صارخ من حيث التنفيذ والتطبيق، التأييد المطلق إبراق وورق بلا بريق، والحريات والمبادئ السامية فقدت طعمها كالورق المعلوك، والانتخابات «تروكي» كصك مزيف بلا رصيد لدى البنوك.
وأما البيانات المصيرية التاريخية الصادرة عن لجان التنسيق فهي مجرّد أدوار مكتوبة على ورق صادر من معامل الهتاف والتصفيق يكاد كل شيء في البلاد يؤول تدريجيا إلى ورق، لولا أنّ السياسة الجديدة ستغــير على ما يبدو والحمــد لله هذا المنهج وهذا الأفق فبتصلّبها وابتعادها عن اللين والمرونة يمكن القول بأن سياستنا كانت من ورق وأنها ستصبح الآن من كرذونة..
المصدر: ليدرز – عن كتاب «حربوشة محمّد قلبي» لمحمد العروسي بن صالح الصادر عن قسم الإعلام والاتصال والنشر بالاتحاد العام التونسي للشغل.