من قصص التراث ذات المعنى أن رجلا دخل على هارون الرشيد، وقال: إني أستطيع أن أعمل عملا يعجز عنه جميع الناس.
فقال الرشيد : هات ما عندك!
فأخرج الرجل علبة فيها كثير من الإبر، فغرس إحداها في الأرض، ثم أخذ يرميها إبرة إبرة، فتشتبك كل إبرة في ثقب الإبرة السابقة. ووقف مزهوا بما عمل، وانتظر من الخليفة جائزة عظيمة، فأمر الرشيد بمنحه مائة دينار وبضربه مائه جلدة.ولما دُهش الحاضرون لتصرّف الخليفة، قال لهم: المائة دينار لمكافأته على حذقه ومهارته، أما ضربه فلأنه يصرف ذكاءه في ما لا فائدة منه!
لكن هذا الذي أدركه الرشيد منذ قرون عديدة لم يدركه واضعو برامج قواعد اللغة العربية في التعليم الأساسي بمرحلتيه. والنتيجة أن تدهور مستوى التلاميذ و الطلبة في اللغة العربية بلغ مستوى مريعا . ومن أسباب ذلك -ولعله السبب الأساسي- أن أكثر من نصف الوقت المخصص لدروس اللغة يتم تبديده في ما لا جدوى منه، على الأقل في التعليم الأساسي بمرحلتيه ..
وبصفتي معلما متقاعدا بعد 35 سنة من العمل، ومؤلف مجموعة كتب في قواعد اللغة، أؤكد أنّ مِمّا لا جدوى منه مطالبة المتعلّم بتعرّف نوع الوظيفة في الجملة و الحال أنْ لا فائدة إطلاقا من ذلك، عكس مطالبته بتعرّف الوظيفة.
فمُهمّ مثلا أن يعرف التلميذ الخبر لفهم مضمون جملة ما، لكن ما الفائدة من معرفة نوع الخبر؟ وما الفائدة من معرفته جملة وتفصيلا، إن صحت العبارة: "مركب إضافي/ مضاف + مضاف إليه" مثلا؟
وللوقوف على مدى المبالغة في إهدار الزمن المدرسي المخصص لقواعد اللغة، أورد في ما يلي مجموعة جمل، المكوّن الثاني في كل منها خبر. ويُطلب من التلميذ لا فقط تحديد الخبر بل وأيضا تحديد نوعه. وأكرر: جملة وتفصيلا. وهو هنا بين قوسين:
الحيلة / في ترك الحيل——————- (مركب بالجر / جار + مجرور)
العسل / غذاء و دواء———————- (مركب عطفي / معطوف عليه + حرف عطف + معطوف)
مثلي الإعلى / هذا الرجل—————- (مركب بدلي / مبدل منه + بدل)
هو / الذي قال ذلك———————–(مركب موصولي / اسم موصول + صلة موصول)
الجهل / مصيبة كبرى———————(مركب نعتي / منعوت + نعت)
العدل / أساس العمران——————- (مركب إضافي / مضاف + مضاف إليه)
أنت / المدير نفسه ؟——————— (مركب توكيدي / مؤكد + توكيد)
هي / الأكثر خبرة———————— (مركب تمييزي / مميَّز + تمييز)
هذه / أجرتك كاملة———————– (مركب بحال المفردة / صاحب الحال+ حال)
أحمد / مواظب على المطالعة———– (مركب شبه إسنادي قائم على اسم الفاعل / اسم فاعل + متعلق به)
فاطمة / معروفة بذكائها——————(مركب شبه إسنادي قائم على اسم المفعول/ اسم مفعول + متعلق به)
المطلوب / الوعي بالمشكل ……………….(مركب شبه إسنادي قائم على المصدر / مصدر + متعلق به)
المؤمن / قلبه دليله——————– (مركب إسنادي اسمي / مبتدأ + خبر)
المؤمن / لا يلدغ من جحر مرتين ——–(مركب إسنادي فعلي / مركب فعلي + نائب فاعل ضمير مستتر + مفعول فيه للمكان + مفعول مطلق)
علما وأن "الخبر" ماهو إلا "وظيفة" مما لا يقل عن ثماني عشرة وظيفة من الثالثة إلى التاسعة (الفاعل / نائب الفاعل / المفعول به / المفعول به الأول / المفعول به الثاني / المبتدأ / الخبر / اسم الناسخ / خبر الناسخ المفعول فيه للزمان / المفعول فيه للمكان / المفعول لأجله / الحال /المفعول المطلق / التمييز و كل هذا من الثالثة إلى السادسة !) / والمستثنى / المفعول معه / المنادى من السابعة إلى التاسعة).
إن معرفة المكونات (الوظائف) مهمّ لأن ذلك ضروري لفهم المضمون.. وما أحوجنا إلى الوصول بتلاميذنا إلى القدرة على فهم مضامين ما يقرؤون. لكن أية فائدة من أن يعرف نوع الوظيفة؟ فهل تعلمه كيف يقرأ أو كيف يكتب؟
ولْنتصورْ مطالبة التلميذ بتحليل مثل هذه الجملة تحليلا كاملا. أي تحديد الوظائف والأنواع، وهي جملة فعلية بسيطة أصلها "لم يزرك أحد" وكل الباقي متممات:
أ/حقا/ يا/ عمُّ/ لم/ يزر/ ك/ و/ زوجتَـ/ ك/ أحدٌ/ منذ/ سنين/ في/ مأوى/ المسنين/ لـ/ لاطمئنان/ عليـ/ كما/ إلا/ أصغرُ/ أبنائـ/كما/ سنا/ بـ/ مفرد/ه ؟
ولْنكتف بالمتممات فقط لنقف على مدى تعسّفنا على التلاميذ:
حقا——————— مفعول مطلق (مفردة)
-عمّ———————-منادى (مفردة)
و زوجتك—————-مفعول معه (واو المعية + مركب إضافي / مضاف + مضاف إليه)
منذ سنبن ————–مفعول فيه للزمان (مركب إضافي / مضاف + مضاف إليه)
في مأوى المسنين—-مفعول فيه للمكان (مركب بالجر / جار + مجرور مركب إضافي: مضاف + مضاف إليه)
للاطمئنان عليكما—— مفعول لأجله (مركب بالجر / جار + مجرور مركب شبه إسنادي: مصدر + متعلق به مركب بالجر: جار + مجرور)
أصغر أبنائكما سنا—–مستثنى (مركب تمييزي/ مميز مركب إضافي: مضاف + مضاف إليه مركب ‘ضافي: مضاف + مضاف إليه + تمييز)
بمفرده—————- حال (مركب بالجر / جار + مجرور مركب إضافي: مضاف + مضاف إليه)
إني أغبط كل من مايزال يقرأ هذا المقال ولم يُغم عليه إرهاقا، فما بالك بطفل يتراوح عمره بين التاسعة (الثالثة ابتدائيا) والخامسة عشر (التاسعة أساسيا)؟
أخيرا أرجو، ووزير التربية يتحدث عن كتب مدرسية جديدة، أن يقتنع المكلفون بإعادة النظر في الكتب المدرسية أنه من هنا، من الاستغناء عن دراسة أنواع الوظائف، ينبغي أن يبدأ الإصلاح التربوي في ما يتعلق بتدر يس قواعد اللغة العربية.