ليس من الهين إطلاقا أن يضحي المرء بجهده وتعبه وجزء من حياته الخاصة في سبيل عمل انساني وهو يعلم علم اليقين أنه ليس بقاطف لثمرة مجهوده.
في هذا الزمن، قليل من هم أولئك الذين يزرعون ليحصد غيرهم ويحاربون الزمن والصعوبات ليفرشوا الأرض رمالا بل ورودا أمام من سيخلفهم… نائلة عبيد، المديرة السابقة لمدرسة غرة جوان بالقلعة الكبرى هي احدى تلك الشموع التي تحترق لتضيء درب مئات بل آلاف من التلاميذ الذين ربما لو صادفوها يوما لأدركوا حجم التضحيات والعمل الجبار الذي قامت به لأجلهم.
المرأة المحاربة
نحن لا نتحدث عن مسؤولة إدارية تؤدي واجبها في كنف احترام القانون والتراتيب الإدارية الجاري بها العمل، نحن نتحدث عن مديرة مدرسة تم تعيينها سنة 2019 على رأس مدرسة ابتدائية جل أركانها آيلة للسقوط لتتحول خلال سنوات ثلاث الى مدرسة نموذجية يضرب بها المثل لا فقط من حيث الجانب التربوي والأخلاقي بل أيضا من حيث الشكل الجديد والحلة البهية التي أصبحت عليها والفضل يعود أساسا الى الرغبة الجامحة التي اجتاحت أركان هذه المربية الفذّة في صنع مجد جديد لمدرسة ضاربة في القدم والتاريخ، مدرسة شيدت أولى أركانها سنة 1897.
لكن لم تكن الرغبة وحدها بقادرة على تحويل هذا الحلم وهذا الأمل الذي يراود نائلة زنطور عبيد الى حقيقة، لولا توفر سند مادي ومعنوي يؤطر هذا الطموح ويسايره ويوصله الى بر الأمان. إذ لم يكن من بد أمام هذه المربية التي قضت أكثر من 35 سنة بين التدريس والإرشاد البيداغوجي سوى "حماية الطفولة من الاسقف التي تتهاوى الواحد تلو الآخر" على حد تعبيرها. كانت البداية مع توفيق شبّح، أحد مقاولي البناء من أبناء الجهة الذي تعهد مجانا بإنقاذ مبنى القسم التحضيري من الانهيار، ثم كانت الانطلاقة الحقيقية في تشييد صرح تعليمي بمواصفات عالمية تتجاوز تجهيزاته حتى أعتى المدارس الخاصة.
"لم يكن إقناع السيد حافظ الزواري بصفته أحد أبناء هذه المدرسة بضرورة مد يد المساعدة لحمايتها من خطر الانهيار بالأمر الصعب. بل على العكس تماما كان مندفعا ومتحمسا وانخرط مباشرة في هذا المشروع الضخم"، على حد قولها.
وبحسب نائلة عبيد التي كانت تزيغ عينيها بين الفينة والأخرى فرحا حينا لمعاينتها نجاحا لطالما آمنت به وأسفا وحسرة حينا آخر على مغادرة فضاء لطالما سكن روحها وفراق زملاء "لطالما اعتبرتهم إخوة وأحبة"، فقد كان رجل الأعمال سباقا الى تمويل هذا المشروع ومندفعا أيما اندفاع في تحقيق هذا الإنجاز التاريخي بمنطقة تعاني فيها معظم المؤسسات التربوية من الإشكاليات اللوجستية بفعل التقادم والإهمال.
موقف إنساني تاريخي
الحلة الجديدة التي بدت عليها مدرسة غرة جوان تدعو إلى الرضا بل إلى التفاخر بوجود مسؤولين في حجم نائلة عبيد التي حاربت وناضلت من أجل فكرة راودتها فأصبحت هذه الفكرة حقيقة لتتحول هذه الحقيقة إلى متعة حقيقية بوجود مؤسسة تعليمية عمومية تتوفر على كل المرافق الضرورية.
ولعل ما يحسب كذلك لهذه المربّية المختصة في اللغة الفرنسية حرصها على تركيز مكتبة تفتح للأطفال للمطالعة والبحث وهي بادرة ربما تكون فريدة من نوعها على المستوى الوطني. فإيمان نايلة عبيد بضرورة تكريس هذه الثقافة لدى التلاميذ منذ السنوات الأولى دفعها إلى تنفيذ هذا المقترح.
المديرة السابقة لهذه الأيقونة التربوية الجميلة التي أحيلت على شرف المهنة مؤخرا، أبت إلا أن تواصل ما بدأته وأن تتم ما شرعت في إنجازه غير آبهة بحجم التعب ولا الإرهاق الذي انتابها، إذ كانت مثالا في العطاء والتضحية وحب الخير لزملائها الذين سيتمكنون بفضلها من التمتع بقاعة جديدة مجهزة بكل ما من شأنه أن يوفر لهم ظروف العمل في أريحية تامة.
نائلة عبيد التي كان ديدنها "زرعوا فحصدنا ونزرع ليحصدوا"، شدت انتباه الحاضرين بحماسها وشغفها عند استقبالها لضيوف المدرسة من مسؤولين محليين وجهويين، يوم أمس، بمناسبة الاحتفال بانتهاء الأشغال التي دامت لأكثر من ثلاث سنوات وبكلفة ناهزت المليار و600 ألف دينار قدمها صاحب مجمع الزواري للسيارات ورئيس جمعية المحبة الممول الرئيسي لهذا المشروع. لم يكن من الصعب ملاحظة سعادتها بأن يشاركها كل هؤلاء ومن بينهم مديرون سابقون لهذه المنارة التربوية ومعلمون سابقون وحاليون هذا الموقف الانساني التاريخي الذي عاشته والذي توجت به مسيرة طويلة من النضال المدرسي والتربوي.