بقلم وسام حمدي
يعتقد الرئيس قيس سعيّد وقد مر للسرعة القصوى في معاداة الإعلام، أن مهمته ستكون سهلة وأن طريقه ستكون معبدة وسالكة لاستكمال ملذات السلطة والتفرد بتوجيه الرأي العام وتشكيل وعي جمعي منحاز ومنضبط لأهوائه وأفكاره ورغبته هو فقط.
تنبع رغبة الرئيس المتعاظمة في خفت أي صوت ناقد أو معارض لتوجهه، لاقتناعه الخاطئ -وعلى عكس الحقيقة- أن الصحافي هو مجرد آلة أو أشبه بروبوت يمكن برمجته بما تريد السلطة من تلقين أي بمعنى أدق يخال قيس سعيد أنه يتعامل مع خصم سهل أشبه بكاتب عمومي لن يتجرأ على إضافة أي شيء لا تمليه عليه السلطة.
يروج الرئيس بين أنصاره –المتأهبين لشتم كل منتقد لخيارات السلطة- فكرة أن كل صحافي حر هو بالنهاية مأجور وغير وطني وخائن للوطن. وقد قال سعيد هذا صراحة لدى إطلالته ليلة الخميس بتأكيده أن كل من يتحدثون عن حرية التعبير والإعلام هم "مأجورون" لا هدف لهم سوى تشتيت الرأي العام وصرفه عن شواغله الحقيقية والمشاركة في ما يسميه مؤامرة لإسقاط الحكم.
يصدّق أنصار الرئيس كالعادة هذه الديباجة والديسك المشروخ بطريقة مُسلّمة ودون إعمال للعقل وكأن كل ما يقوله قيس سعيد هو أشبه بقرآن مُنزّل لا يمكن مناقشته أو الخوض فيه فيستلّون سيوفهم من أغمادها معلنين الحرب ومطلقين أبشع النعوت ضد الصحافة والصحافيين.
في التعامل مع هذه الحرب المتواصلة والتي ستكون خاسرة بالنسبة للرئيس، لا يمكن أن ننفي حقيقة أنه مع بروز أي نظام جديد، عادة ما تكون هناك أبواق جديدة تعوض الأبواق القديمة تناصر السلطة وهذا شيء معلوم ومتعامل به في كل أنظمة العالم، لكن لا يمكن أبدا مهما حاول النظام ترويج ذلك أن يضع الجميع في سلة واحدة.
في حالة الرئيس قيس سعيد، لا يمكن البتة الخوض في تفاصيل سياساته الممنهجة لضرب حرية الإعلام وفك شيفراتها دون طرح سؤال بسيط سيكون حتما المنطلق الأبرز لتحديد ما يصبو إليه صاحب السلطة. متى كان الإعلام مضادا لقيس سعيد؟ ولماذا تحوّل الصحافي من المبارك أو الممجّد لسلطته إلى رافض ومنتقد لها؟
هنا، كنا نمني النفس وقد خصّص قيس سعيد حيزا هاما في إطلالته الأخيرة ليسُب الصحافة والصحافيين ويوزع التهم جزافا ويُنصّب نفسه قاضيا وخصما وحكما في الوقت نفسه أن يقُصّ على أنصاره حقيقة مغايرة ومختلفة لا يعرفها فقط سوى سعيّد نفسه والغالبية العظمى من الصحافيين الذين عاصروا فترة ما بعد 14 جانفي 2011 وصولا إلى اعتلاء الرئيس سدة الحكم.
كان على قيس سعيد أن يكون موضوعيا كي لا نقول صادقا وبأن يبلّغ مادحيه أنه كان من أكثر الناس الذين استفادوا من الإعلام في ما يسميه هو العشرية السوداء. لقد كان سعيّد مستفيدا ومبجّلا حتى من نور الدين بوطار المدير العام لإذاعة موزاييك والموقوف حاليا والذي يعاقب لا لشيء وإنما من أجل ما يعرف بقضية "الخط التحريري".
لماذا جانب سعيّد الحقيقة أيضا حين لم يُحدّث أنصاره عن أمر واقع يكمن في أن الصحافة هي من أهدته صفة خبير في القانون الدستوري التي مكنته في ما بعد من أن يصبح الآن رئيسا.
ولماذا لم يسرد سعيد على عُشاقه كيف كان قبل أن تطأ قدماه قصر قرطاج مهووسا بالإعلام إلى درجه أنه قد وصل به الأمر في مرات كثيرة أنه يتجوّل بشاحن هاتفه ويتفقّد باستمرار نسبة الشحن، ممنيا النفس بأن يرن هاتفه وأن يكون الطارق صحافي قد يسأله عن رأيه في موضوع ما…
يكفي هنا أيضا وعند التطرق إلى الكم الهائل من المغالطات أن نتحدث عن أن جزءا هاما من الصحافيين كانوا طيلة عشر سنوات بمثابة شوكة في حلق حركة النهضة التي يريد أن يقنعنا الآن قيس سعيد بأنه الخصم الأول لها وبأن معركته معها مبدئية ولا تدور رحاها حول رغبة واحدة عنوانها الاستفراد بكرسي الحكم.
لقد تكلم الصحافي وكتب والتقط الصور الناقدة لحكام ما بعد الثورة حين لم نكن نسمع سعيد قبل 2019 ينبس ببنت شفة منتقدا النهضة أو رئيسها راشد الغنوشي الذي لا يمكن أن ننسى أو ينسى الرئيس نفسه أنه قد أومأ بإصبعه في يوم ما لأنصاره لإيصال قيس سعيد للحكم.
يستسهل ساكن القصر الآن معاداة الإعلام الحر دون أن يكلف نفسه عناء مجرّد خلوة بسيطة يصارح فيها ذاته ليتساءل، "لماذا لم تعد ممارستي للسلطة أو خطاباتي المجترة تستهوي عالم الصحافة؟"
لم يبذل الرئيس أي جهد ليقول في سره،" لقد ركّعت الجزء الأهم من الإعلام العمومي وسيطرت على التلفزة الوطنية وسأستكمل مهمة إضعاف من بقي خارج دوائر سربي، فبأي قوة ستعارضني الصحافة؟".
لم يتساءل قيس سعيد أيضا لماذا يغضب الصحافيون ولماذا تنتقده شريحة واسعة منهم، لكن أنصاره يأتون بالرد السريع في محاولة كسر لأفق الانتظار عند المتلقي وتحويل وجهة إدراكه للحقيقة بالقول " لماذا يغضب الصحافي، لم نر في عهد الرئيس وحقبة المسار أي صحافي يُسجن أو يعاقب من أجل مواقفه؟".
وإن كان كلام الأنصار مجانبا للحقيقة خاصة أنه قد سبق وأن تعرض بعض الصحافيين لمضايقات وخير دليل على ذلك دعوة الصحافي نزار بهلول للتحقيق معه في فحوى مقال رأي انتقد الحكومة، فإن تركيع الإعلام في نظم الاستبداد لا يكون فقط بعقاب السجن.
الاستبداد يُدجن الإعلام ويحاول أن يمتطيه حتى يصير موجهاً حد السذاجة، فيروج معلومات ومفاهيم لا يقبلها المنطق السليم الذي يحكم عليها آليا بأنها من باب الأساطير أو الخرافات. لكن دوام تكرار هذه المعلومات واستضافة من يقوم بتحليلها من المساندين لخيارات المستبد يكاد يجعل منها حقيقة لا خيالا لدى الرأي العام وهذا ما يحصل فعلا في كثير من المنابر الإعلامية في عهد قيس سعيد.
الاستبداد، لا يدخل في مرحلة أولى وهو يطحن الخصوم بسجن المنتقدين، بل يبذل قصارى جهده ليجعل الكثير من البسطاء والعامة يتعاملون مع زيغه وزيفه كحقائق راسخة في وجدانه، فالاستبداد يدرك جيدا أن تشويه الوعي الجمعي والسيطرة عليه لا يكون بواسطة إعلام مُدجن وكاذب وغير مهني.
المستبد يعلم جيدا أيضا -وفي هذه الطريق يسير قيس سعيد- أن من الأسلحة المهمة لبسط النظام الفردي إحاطة القصر بمجموعات يمكن أن نطلق عليها " خدم السلطان" الذين يتطوعون لتنفيذ أجندات وأدوار متنوعة لتلميع "الرئيس السلطان" عبر تبرير وتفسير كل سياساته وخطاباته بالاستناد على ثلة من "النخبة" المتحذلقة التي تدعي الحكمة والتي تلعب دور الكاهن الذي يزين ويزوق لـ"فرعون" كل نزواته ورغباته.
علاوة على كل هذا يسارع المستبد أو الطامح لأن يكون كذلك دائما للسيطرة على دوائر إعلامية تُكَلف حصرا بصناعة خطاب الكراهية وبث الحقد وتقسيم الناس وهذا ما يحصل بالضبط مع بعض أنصار قيس سعيد الذين تتاح لهم فرص الظهور الإعلامي لتوزيع شهادات الصادق والخائن وفق أهواء الرئيس.
معاداة حرية الإعلام ومثلما أبرزنا ذلك سلفا لا تكون فقط بمعاقبة أصحاب الرأي الناقد بل تتعمق بشكل أوضح حين تُكلف دوائر مقربة من ساكن القصر بترويج الاتهامات وفبركة الأخبار للفت الأنظار وفرض ما يسمى بصناعة الإلهاء والإشغال وتبديل سلم أولويات الناس.
في كل هذا، لم يتعظ قيس سعيد إلى الآن من لحظة 14 جانفي 2011 ومازال يكابر وينكرها، لم يقرأ الرجل التاريخ جيدا ليعرف أن تلك اللحظة التي افتك فيها الناس من النظام القديم مكسب الحرية قادرة على أن تصحو في أي وقت وربما دون ضرب أي موعد واضح.
يتبجح المساندون للرئيس بشعار " لا للعودة إلى الوراء" لكن غالبية الصحافيين يتمسكون بهذا الشعار أكثر من أي وقت مضى بعناوين مختلفة ترتقي ربما إلى مصاف التضحية والموت من أجل إيصال الكلمة الحرة.
على السلطة الآن وقبل أن تخسر كل شيء، أن تعترف للناس أن الصحافي الحر لا يُباع ولا يُشترى وأنه وحده من يحدد مربع تحركاته دون توجيه من أي كان، إذ لا يحمل سلاحا سوى حفنة من أحرف وكلمات تشكل معزوفة رائعة مضمونها " نموت نموت ويحيا القلم…نموت نموت ويحيا المصدح، نموت نموت وتحيا الكاميرا".
وعلى الجوقة المحيطة بالرئيس الآن أن تصغي جيدا، لتعرف أن الصحافي المبدئي وحده يعلم متى يبدأ دوره ومتى ينتهي وأنه يدرك جيدا بحكم مراكمة التجارب أن حربه عادلة وأن كل شيء آيل إلى الزوال وإلى النهاية.
وفي لحظة الفرز الحقيقية، لا يجد الناس سوى "القلم الحر" يقدر وحده على وضع النقاط على كل الحروف حتى تلك التي لا تستحق التنقيط، ليقول للسلطة قف انتهى، أنا موجود، إنه البدء الجديد في هدم قاعدة المضي حتما نحو الهاوية.
ولن يخجل الصحافي المهموم بوضع وطنه والمسكون بآلامه من أي سلطة ما يجعله متمردا وقادرا حتى على حذف الفواصل ومحو النقاط ليكون كقطار مسترسل مستعجل لا يهمه من صعد من قرائه أو متابعيه ومن نزل ومن غادر ومن انتظر منهم بقدر ما يهمه فقط الوصول إلى المحطة في الوقت المناسب.
ولأن الجميع ليسوا في نفس الخانة أو تجار صحافة كما تريد السلطة إلصاق التهمة بالجميع. فإن الصحافي الثائر قادر على قلب كل قواعد اللغة وحتى على قلب الأحرف بحيث تصبح الياء والتاء قبل الألف والباء وأنه عوض الكتابة من اليمين إلى اليسار، يستطيع أيضا أن يكتب من اليسار إلى اليمين، فالمهم في الحكاية عنده أن تصل الفكرة لمن يبحث عنها ومن يفهمها وأن تصل المعلومة الصحيحة للناس بلا تدجين أو تزيين وبلا زيادة أو نقصان.
لا تستطيع السلطة في أي مكان من العالم ومع أي نظام كان أن تغلب الصحافي الحر الذي يصبح قادرا وهو يترجم ثورته بقلمه على أن يغير حتى طريقة مسك القلم ليعبّر كل إصبع من اليد بطريقته على ما يريد أن يقول عقله.
حذار من غضب الصحافي، فحين يغضب تجده قادرا على تبديل الورق وحتى على مسك القلم باليد اليسرى بدل اليمنى، ليقول بكل اللغات وبكل الطرق "منذ الآن لا ضوابط أو قواعد تملي على العقل كيف يفكر ويكتب ولا على الجسد كيف ينفّذ الفكرة".