رياليتي أون لاين/ جدة-في غياهب اللون الأزرق يلقي بنا المخرج علاء الدين سليم منذ جينيريك البداية في فيلمه الروائي الطويل الثالث ” آغورا” وتتسع حدقات الأعين في ملاحقة مآقي عين تنهل من اللون نفسه، غير عابئة بذلك الصوت الذي يأمرنا بأن نغمض أعيننا.
فيما تتحرك العين الموشحة بالازرق على الشاشة وتتكاثر فجأة يسري الخدر إلى الأجفان وتتعطل حركة الأعين وهي تتفحص ما وراءها من حكايات تحيل إلى الغرائبية التي توشح سينما علاء الدين سليم.
وعلى إيقاع تأملات غراب أسود وكلب أزرق يستنطق علاء الدين سليم الإنسان والطبيعة والوطن في فيلم “آغورا” الذي يقترح سردا يراود كل الحواس ويغوي بالنبش في ثنايا الذاكرة الفردية والجماعية.
“آغورا” هذه المفردة التي تحيل إلى ساحة الاجتماعات العامة عند الاغريق استعارها علاء الدين سليم لينسج بخيوطها ساحته الخاصة التي يسائل فيها كل شيء من حوله ويحاكم النظم الاجتماعية والسياسية والثقافية.
“ماذا لو عاد ضحايا الهجرة والإرهاب والاستغلال والتهميش بعد موتهم؟ ” هذا السؤال قد يتبادر إلى الأذهان في ذروة المأساة وتتوه إجاباته على شفا الحقيقة ولكن علاء الدين سليم التقط إجابة سوريالية غرائبية وضمنها في فيلمه الذي عرض في مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي.
هذه الإجابة ترجمها ثلاثة عائدين من عوالم الموت إمرأة التهمتها الأمواج ذات هجرة، راع انهمرت دماؤه ذات إرهاب، وعامل ابتلعته الأرض ذات استغلال في مقطع حجارة، إمرأة ورجلان استحضرهما علاء الدين سليم من مدونة المآسي في تونس.
في قرية تونسية مسيجة بأسلاك العزلة ومطرزة بتفاصيل تستوعب الواقع والخيال، يعود الغائبون من حيث رحلوا تعبيرة عن رفضهم لمنطق النسيان وتشبثهم بالحقيقة التي ستصاغ على وقعها الأحداث من جديد..
فيض من الدم ينهمر من جسد الراعي، سيل من الماء ينز من جسد المهاجرة، وابل من الغبار يرشح من جسد العامل، وتتشكل ملامح العودة التي تتهافت معها الاضطرابات التي عرفتها تونس.
تأملات علاء الدين سليم وتمثلاته للواقع امتدت إلى الغراب والكلب الذين تنبآ بعودة المنسيين وسيرورتها الحتمية عبر عملية تواصلية اختار لها وضعية النوم في منزلة بين الحلم والكابوس وشكل الكتابة.
وفيما تتعاظم الفوضى في القرية المعزولة ويهتز المجتمع والسلطات التي تحاول عبثا أن تحول دون تسرب الخبر أكثر وسط حالات ذهنية ونفسية يطغى عليها القلق في مواجهة مشهدية غريبة تحتمل فيها الأجساد الموت والحياة في الآن ذاته.
أسماك ميتة وطيور تنتهك المحاصيل وكارثة تلوح في الأفق، فيما تتجلى رغبة علاء الدين سليم في مصالحة الشخصيات مع ماضيها وننتظر حديث الغراب والكلب لنستشرف مسار القصة.
منسوب التوتر والشك يتصاعد على إيقاع الظواهر الغريبة التي تنغمس في دواخل الإنسان وتفضح سذاجته التي تدفعه إلى المضي قدما دون تسوية حسابات الماضي.
الهامش في مواجهة المركز، الطبيعة في مواجهة المدينة، الماضي في مواجهة الحاضر، الإنسان في مواجهة الحيوان، الحقيقة في مواجهة الكذب، النسيان في مواجهة الذاكرة، صراعات يتخذ منها السيناريو حبكته.
هذا السيناريو نابع من إنسان يجيد سدّ ثقوب ذاكرته كي لا تتسرب منها الأحداث والحقائق واستدرار مشاعره ليعبر عن الثورة والرفض والحنق والرغبة في الثأر لكل المهمشين والمنسيين.
حوارات بسيطة لا يكتنفها التعقيد ولكن يتسلل منها بعض الغموض الذي يحتمل تاويلات وقراءات مختلفة على عدة مستويات وصور شعرية تنضح جمالية وقدرة على مراودة الوجدان والذاكرة.
وبينما يحاول الشرطي “فتحي” (ناجي قنواتي) وصديقه الطبيب “أمين” (بلال سلاطنية)، تشريح أسباب الأحداث الغامضة التي تؤرق سكان القرية نلتقط نحن الأسباب على أعتاب ذهني الكلب والغراب وذاكرتنا التي تتقيأ كل أدران الوطن ما إن تراودها الصور في أفلام علاء الدين سليم.
محاولات إخفاء حوادث العودة ذهبت هباء منثورا وتدخل “المركز” صار أمرا محتوما، ومع قدوم الوحدة الخاصة توسع الشرخ أكثر فأكثر وسقطت الحقيقة في هوة سحيقة وازدادت الأمور تعقيدا.
تأملات الغراب والكلب لم تنقطع عند اللجوء إلى أسهل حل وهو دفن الماضي المشكل وحلوله معلقة بعيدا عنه بل كانا يصرخان عبر الحروف المكتوبة بأن المأساة مستمرة ما لم يسترد المسحوقون اعتبارهم.
“استعدوا للأسوء” عبارة ارتسمت على الشاشة وتشابك فيها الواقع بالخيال والحقيقة بالغرائبية وثأرت الطبيعة للعائدين الثلاث الذين مكرت بهم السلطة مرة أخرى ولم تخجل من طمس حقيقتهم وكتبت عليهم موتة أخرى.
“لن ننجو” تعبيرة تضمنها الحوار بين الغراب والكلب واختزلت الوضعية التي تترتب عن مراكمة ملفات الماضي المفتوحة دون الحسم فيها مما يجعلها بمثابة الحمم البركاني المستعرة التي تفيض في وجوهنا دون سابق إنذار.
ومع ترسخ اليقين بعدم الخلاص وسط تواتر الصدمات والمظالم وإخفاق السلطات المتعاقبة في محاوطتها، تستمر المسيرة في الاتجاه المعاكس للطبيعة ويبدأ قائد الفرقة الخاصة تحقيقاته.
التحقيقات تتخذ في البدء شكلا عمليا واقعيا ولكنها سرعانما تميل إلى مساحات فلسفية تترنح فيها الشخصيات بين الزمان والمكان وبين رغبتها في التغيير وبين تطبيعها مع الواقع وتزداد الأمور سوءا وتسود الفوضى.
مع تعمق الأزمات وتصدير الصراع البين الإنساني إلى الحيوان، كان لا بد من تعزيز الفرقة الخاصة بقائدتها المرأة الغامضة التي يتجاذبها إسمان وحياتان (سنية زرق عيونا) ولكن يبدو أن الغراب والكلب صدقا حينما وصفا الجميع بالجبناء.
المشهد في تونس اليوم يتجلى في كل ثنايا الفيلم، صوتا وصورة وتتناثر معه الصعوبات التي تتخذ وجوها كثيرة والتي تعجز السلطات في أحيان كثيرة على تخطيها فتجتث فروعها في محاولة لحلها لكن الجذور تثور وتهز الأرض هزا على غفلة منها.
بأدواته الغرائبية التي تنطلق من الواقع وتعود إليه ينتقد المخرج علاء الدين سليم السلطات دون مباشرتية أو كليشيهات ويسخر من محاولاتها طمر الأحداث عوض البحث عن حلول لها.
تشخيص واقعي غرائبي للوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والبيئي أيضا، راوغنا فيه الفيلم إذ أوحى لنا في بدايته أننا أمام فيلم جريمة ليحملنا إلى ملحمة شعرية مفعمة بالنقد الذي عززته طبيعة أماكن التصوير.
ففي أفلامه ينشئ علاء الدين سليم طريقا ثالثة تمتد بين الواقع والخيال ويشكل فيها بدائله التي لا تتجلى واضحة ولكنها تتسلل من بين تفاصيل الشخصيات والتناقض بين الطبيعة الحية والمدينة المتداعية.
وعلى إيقاع اللقطات الطويلة يتقلص النص ليترك لنا مساحات من التأمل وصياغة القراءات التي تليق بما التقطناه من الفيلم وشخصياته بإنسها وحيواناتها وتختصر الكاميرا المسافات وتنحاز إلى اللقطات القريبة.
هذه اللقطات القريبة التي تتفحص صغائر التفاصيل في الوجوه والأماكن تقحمنا في الأجواء المتوترة في الفيلم وفي الواقع المتأزم ويربكنا الكلب الأزرق حينما يهمس للغراب برحيله عن هذه الأرض.
مزيج من المشاعر المتناقضة ينساب على وقع هذه الجملة التي ترتسم معها كل أسباب الهجرة ويشتد معها التعلق بالوطن وتتشظى مرآة الذكريات فيما يرسم مشهد الكلب الأزرق وجراء حوله ابتسامة تقاوم العبث وسط المدينة المسكونة بالماضي.
على امتداد الفيلم يراقصنا حدس علاء الدين سليم الذي يطرز به أفلامه وشخصياته ويختار ممثليه الذين يبدون وكأنهم فروا من ثنايا الأوراق التي خط عليها سطور السيناريو، ونتماهى مع تأملاته وتأملات الغراب والكلب.