على إيقاع كوميدي موغل في البساطة يمضي فيلم “أرزة” للمخرجة ميرا شعيب وينغمس شيئا فشيئا في ثنايا الطائفية في لبنان ويستعير قتامة الواقع ليشكل ضحكات لم تبلغ كنهها الحقيقي إلا على أعتاب عبرات انسكبت حينما تعرت الحقيقة كاملة.
كادرات تتسم بالجمالية تراوح بين الانفتاح والانغلاق وتحاكي دواخل الشخصيات وتصور لبنان المبتسم دون أن تظهر آثار جروح الحرب جلية وواضحة وتروي أزمة الطائفية من زاوية إنسانية اجتماعية بحتة.
اختيار لافت للممثلين، لوجوه تروي تفاصيلها حكايات عن لبنان دون الحاجة إلى انفعالات كثيرة، امتداد لجيلين ولاكثر من طائفة ولوجع اللبنانيين الذين أنهكتهم أوضاع الحرب، وجع يتجلى طيلة الفيلم دون بكائيات واستدرار للعواطف.
ابتسامة “أرزة” المكبوتة دائما ودموع اختها التي تنتظر التحرر من مآقيها وحدها كفيلة بأن تترجم واقع لبنان والمنطقة في الظرفية الراهنة، كفيلة بأن تروي المعاناة من أجل البقاء على قيد الحياة.
على نسق حياة “أرزة” المرأة المكافحة التي تلتهم صناعة الفطائر وابنها “كنان” واختها “ليلى” تمضي الأحداث في البدء تساير الواقع بحيثياته العادية قبل أن تتخذ منعرجا وسمها بالسوريالية وطرزها بالكوميديا السوداء في أكثر من موضع.
بين جيلين، بين فصلين، بين حالتين، بين وضعيتين، بين مفترقين يقف الفيلم مع سرقة “السكوتر” (دراجة نارية) الذي دفعت فيه ثمنا كبيرا لا يقاس بالمال فقط وإنما بالمشاعر إذ تجاوزت ألم اختها وهي تحاول أن تصنع ملامح السعادة في البيت.
“السكوتر” وسيلة لتكثيف طلبيات “الفطائر” التي تعدها “أرزة” صارت عنوانا لمأساة أخرى تعيشها العائلة ودليلا للمتفرج في عوالم الطائفية اللبنانية التي ارتمت فيها تباعا في رحلة البحث المعمدة بالضحك.
إلى جميع أنحاء “بيروت” تحمل “أرزة” المتفرج رفيقها ابنها وزادها علبة من الفطائر تركن إليها عند الحاجة كما تركن إلى حيل شكلية لتنغمس في الطوائف التي مرت بها دون أن يطالها أي ضرر.
مشاعر مختلطة تنتابك وانت تتابع رحلة البحث عن “السكوتر” وتنتظر الحيلة الجديدة التي تقوم دائما على تغيير اسم ابنها والتقلد ببعض الاكسسوارات لتحيل إلى نزعة الكورية والعنصرية في الطوائف وإلى سطحية كل الاختلافات على تخوم الوطنية والوحدة.
الفيلم الذي عرض في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي ضمن “آفاق السينما العربية” لا يخلو أيضا من التشويق إذ تغريك الشخصيات بمزيد اكتشاف دواخلها واقتفاء مساراتها وسط إثارة قضايا اقتصادية واجتماعية وسياسية مع كل محاولات الفيلم النأي عنها لكنها حاضرة لا محالة.
دياموند بو عبود وبيتي توتل، بلال الحموي، ممثلون أدوا الشخصيات المفصلية في الفيلم بما أوتوا من بساطة وعفوية وعاضدهم ضيوف العمل فادي أبي سمرة، وجنيد زين الدين، وفؤاد يمين، وإيلي متري، وطارق تميم، وهاجوب درغوغاسيان، وجويس نصرالله، وشادن فقيه ومحمد خنسا، وكاثي يونس.
على امتداد تسعين دقيقة تتهافت المشاعر المختلطة على نسق الرحلة المضحكة في ظاهرها المبكية في بطنها، وتقفز بك حبكة السيناريو من من الشعور إلى نقيضع فتظل الضحكات والعبرات معلقة على شفا التوقعات.
طيلة الفيلم لا شيء ثابت سوى اسم “أرزة” في إحالات إلى شجرات الأرز التي تظل صامدة في وجه الحرب والاختلافات الطائفية وعنوانا للبنان الأخاذ بكل تفاصيله التي تراءت في بعض المشاهد.
الاهتزازات والارتدادات في الفيلم لم تكن عنيفة كما تحتمله الحقيقة بل ناعمة بفعل الكوميديا التي جعلت من النقد سلسا ومختلفا عبر شخصيات محورية تخبرنا في كل مشهد بالمزيد عنها وشخصيات عابرة تحثنا على البحث عن المزيد عنها.