صباح يوم الأحد، 25 فيفري الماضي، توجّه آرون بوشنل البالغ من العمر 25 عاماً بهدوء إلى السفارة الإسرائيلية في واشنطن العاصمة وأضرم النار في نفسه.
وقال بوشنيل، الذي كان يرتدي زي القوات الجوية الأمريكية، إنه “لن يكون متواطئا بعد الآن في الإبادة الجماعية” في غزة، وصرخ قائلاً: “الحرية لفلسطين” وهو يحترق حتى جثا على الأرض، وبعدها بساعات توفي في المستشفى متأثراً بحروق خطيرة.
وبثّ بوشنيل عملية حرقه لنفسه مباشرة، ليضمن أن ما وصفه بـ”العمل الاحتجاجي المتطرف”، يمكن رؤيته خارج واشنطن.
وعلى الرغم من إزالة مقطع الفيديو الأولي الذي نشره بوشنيل، إلا أن اللقطات انتشرت على نطاق واسع على وسائل التواصل الاجتماعي.
وأدى “انتحار” بوشنيل إلى تنظيم وقفات احتجاجية في المدن الأمريكية هذا الأسبوع من قبل المحتجين على العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، حيث تجاوز عدد القتلى 30 ألف شخص هذا الأسبوع بسبب الغارات والعملية الإسرائيلية المستمرة، بحسب وزارة الصحة في القطاع.
بينما عبر آخرون عن قلقهم بشأن طبيعة احتجاج بوشنيل “المتطرفة”، والذي أثار مخاوف من إمكانية أن يكون ملهماً لأعمال مميتة أخرى.
لكن بالنسبة لأصدقاء بوشنيل، فإن وفاته كانت أقرب بكثير إليهم، وفاجأت الخطوة التي قام بها حتى المقربين منه، إذ وجدوا أنفسهم عالقين بين ثقل الحزن على خسارة صديق والتعامل مع ما فعله، وسط اهتمام كبير ومفاجئ من وسائل الإعلام العالمية.
وقال من عرفه في سان أنطونيو، بتكساس – حيث عاش بوشنيل منذ عام 2020 حتى أواخر العام الماضي أثناء تواجده في قاعدة لاكلاند الجوية – إن وفاته انتشرت بين الناشطين مثل “موجة الصدمة”.
وقبل وقفة احتجاجية عامة أقيمت في سان أنطونيو بارك، قال ماسون إسكاميلا، الذي كان يعرف بوشنيل، لبي بي سي الجمعة: “في البداية، كان هناك الكثير من الصدمة والحزن، لأنه شعر أن هذا هو الإجراء الوحيد الذي يمكن القيام به للفت الانتباه إلى شيء يهتم به بشدة”.
وأضاف إسكاميلا البالغ من العمر 25 عاماً أنه “من الصعب أن يختار هذه الإجراءات، ومن الصعب فهمها، حتى من جانب الأشخاص الذين يتعاطفون مع وقف إطلاق النار وسلامة الشعب الفلسطيني والمدنيين”.
وحضر الوقفة الاحتجاجية 200 شخص على الأقل، بينهم العديد من الفلسطينيين، وأخذ واحد تلو الآخر، من أصدقاء بوشنل، الميكروفون ليتذكروه بحزن.
قبل يوم الأحد، قال إسكاميلا إنه عرف بوشنيل على أنه “رجل عادي، هادئ، ودود، غريب الأطوار”، ويتبنى السياسات اليسارية، ويتطوع مع المجموعات التي تساعد الأشخاص الذين يعانون من التشرد، وأضاف أن الطيار كان لديه قطة اسمها “شوغر” أو “سُكر”، وكان يحب فيلم “سيد الخواتم”.
كما التقى مون، وهو صديق بوشنيل وطلب الكشف عن هويته باسمه الأول فقط، خلال عمل تطوعي ووصفه بأنه “قوي الإرادة بشكل لا يصدق”، وقال إن مقطع الفيديو الخاص بلحظاته الأخيرة “كان من الصعب للغاية رؤيته”.
وقالت سارة مسعود، وهي ناشطة فلسطينية تبلغ من العمر 32 عاماً حضرت الوقفة الاحتجاجية، إن معرفة نبأ وفاته “كان مدمراً حقاً”.
وقالت إن “العمل المروع” أثار نقاشاً بين النشطاء الذين يشعرون “بإحساس المسؤولية عن العبث الذي دفعه لما فعل”.
وكان بوشنيل قد وصف نفسه بأنه أناركي (لاسلطوي)، وكتب ذات مرة أنه “يؤمن بإلغاء جميع هياكل السلطة الهرمية” من خلال الوسائل القانونية. وقال أصدقاؤه إنه أثناء وجوده في سان أنطونيو مع القوات الجوية، كان نشطاً أيضاً في عدد من المجتمعات، خاصة مجموعات المساعدة المتبادلة وكان ينجذب بشكل خاص نحو مساعدة المشردين.
يتذكر إسكاميلا أنه في الرحلات التطوعية، حيث كان يوزع الإمدادات مثل الإسعافات الأولية والملابس، كان بوشنيل “خجولا بعض الشيء”، لكنه قال إنه سرعان ما تعلم كيفية التعامل بشكل وثيق مع الأشخاص الذين ساعدهم.
يعتقد إسكاميلا أن بوشنيل شعر بالتوتر بسبب خدمته العسكرية ومعتقداته السياسية.
وكان منخرطاً في الجيش عندما اندلعت الحرب بين إسرائيل وغزة في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، عندما قُتل نحو 1200 شخص بعد أن هاجم مسلحون من حماس بلدات غلاف غزة الإسرائيلية، واحتجزوا حوالي 250 رهينة في قطاع غزة، ولايزال العديد منهم على قيد الحياة ومحتجزين هناك بحسب التصريحات الإسرائيلية.
ونزح نحو 1.8 مليون فلسطيني من منازلهم منذ أن شنت إسرائيل عمليات عسكرية انتقامية تقول إنها تهدف إلى تدمير حماس.
رحلة غير عادية
نشأ آرون بوشنيل في أورليانز، في ولاية ماساتشوستس، في مجتمع ديني منعزل بإحكام يُعرف باسم جماعة يسوع، وفقاً لأصدقائه.
قال صديق الطفولة، آشلي شومان، لصحيفة نيويورك تايمز إنه أعلم الجماعة بأنه ترك المجتمع في عام 2019، بينما قال إسكاميلا إن بوشنيل لم يعد مشاركاً في جماعة يسوع ونأى بنفسه عن عائلته.
وزعم بعض الأعضاء السابقين في مجتمع يسوع تعرضهم للإيذاء النفسي في تحقيق أجرته شبكة أي بي سي نيوؤ الأمريكية عام 2021.
ورفض والدا بوشنل، وجماعة يسوع، التعليق لبي بي سي.
وفي شبابه، كان بوشنيل ينتمي إلى فرقة أداء تسمى “سبيريت وينتر بيركوسيون”، وتُظهر صورة جماعية منذ ست سنوات على صفحته على فيسبوك، أعضاء الفرقة الشباب وهم يرتدون الزي الملون ويبتسمون ابتسامات كبيرة.
وقال بريان سبنسر، الذي كان ضمن فرقة الأداء مع بوشنيل، لبي بي سي: “في ذلك الوقت لم يكن يتحدث كثيراً عن الرياضة والموسيقى وما إلى ذلك”، “لكنه كان رجلاً جيداً وكان دائماً يقدم يد المساعدة عند الحاجة”.
ودخل بوشنيل الخدمة الفعلية في الجيش في 5 مايو/أيار 2020، وفقاً للقوات الجوية، وكان آخر دور له في عمليات الدفاع السيبراني.
ويقول أصدقاؤه إنه غادر سان أنطونيو في أواخر العام الماضي، وكان يعيش في أوهايو قبل وفاته، وكتب بوشنيل على صفحته على موقع لينكد إن أنه كان يبحث عن فرص في برنامج “سكيل بريدج” التابع للجيش الأمريكي، والذي يسمح للأفراد العسكريين بالانتقال إلى وظائف مدنية بعد انتهاء خدمتهم.
وقالت العقيد في القوات الجوية الأمريكية سيلينا نويز في بيان: “نعرب عن تعاطفنا العميق مع عائلة وأصدقاء الطيار الكبير بوشنيل”.
وفي الوقفة الاحتجاجية الجمعة، كان هناك تركيز على تذكر الطيار كما عرفه أصدقاؤه والأسباب التي يؤمن بها، وليس كيف عرف العالم اسمه.
وقبل أن تبدأ خطابها الجمعة، قالت متطوعة مع بوشنيل أمام المشاركين في التظاهرة: “سوف تسمعون الكثير من الأشياء المحزنة، ولكنكم ستسمعون أيضاً الكثير من الأشياء الجيدة حقاً”.
وأضافت: “لأن هذه اللحظة الأخيرة لم تكن خلاصة حياته”.
المصدر: بي بي سي عربي
26