يبدو أن عمليات التصفية العرقية والإبادة الجماعية التي يرتكبها الكيان الصهيوني في غزّة الصّامدة منذ شهر تقريبا لن تتوقف في المدى القريب رغم بعض النداءات المحتشمة والوساطات النادرة. فكل المؤشرات تدلّ على أن الكيان الغاصب ماض قدما في حملته المستعرة نحو كسرِ الحصن الأخير للممانعة في الأراضي الفلسطينية وربّما في كامل الوطن العربي بمباركة حليفه الأزلي وراعيه في المنطقة” الولايات المتحدة الأمريكية “وبتواطؤ مخزٍ ومذلٍّ من قِبلِ بعض القادة العرب وخصوصا زعماء دول الطوق وأنظمتهم المطبعة
ذلك أن تعطّش مجرم الحرب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين ناتنياهو، الذي استنفد مشروعيته الداخلية والخارجية، إلى إراقة كل الدم الفلسطيني والدفع بآلة الحرب الى حصد أكبر عدد ممكن من الأرواح البريئة لم يعد خافيا بل لعلّه هاجس ما فتئ يقض مضجعه دون هوادة وهو الذي اقترن اسمه بمجازر عديدة في قطاع غزة لعلّ اهمّها تلك التي جدّت سنة 2014 وأسفرت عن استشهاد 2322 فلسطينيا و11 ألف جريح.
فزعيم حزب الليكود المتشدد والمتطرّف والذي عرف بماضيه الدموي يسعى من خلال سياسة التقتيل الهمجي والشامل في قطاع غزة ــ وذلك ردّا على عملية “طوفان الاقصى” التي شنتها كتائب عز الدين القسّام، الذراع العسكري لحركة حماس يوم 7 أكتوبر الفارط ــ الى مصالحة الداخل الاسرائيلي الواقع تحت صدمة الهجوم الفلسطيني غير المسبوق وما أحدثته من خسائر هي الأكثر جسامة في تاريخ الصراع العربي الصهيوني، من خلال تقديم أكبر عدد ممكن من الضحايا الفلسطينيين كقربان لإرضائهم واستعادة البعض من شعبيته التي خسرها. حيث أن عدد القتلى الاسرائيليين ابّان السابع من أكتوبر والبالغ عددهم أكثر من ألف قتيل من بينهم أكثر من 345 جنديا يعتبر من الأرقام المفزعة للمحتل والتي أحدثت زلزالا شعبيا وزرعت حالة غير مألوفة من الهلع والرعب في صفوف الاسرائيليين، مدنيين وعسكريين، وكسرت بالتالي سرديّة الجيش الذي لا يقهر والدولة الأكثر تحصينا وأمانا.
نحو كسر شوكة المقاومة ؟
وبعيدا عن الحسابات الشعبية والاعتبارات “العاطفية” تبدو الحرب الهمجية الشاملة التي تقودها قوات الاحتلال الصهيوني ذات بعد استئصالي بحت يسعى من ورائها العدوّ الى وضع حد نهائي لصراعه الدائم مع فصائل المقاومة الفلسطينية المتحصّنة في قطاع غزة والخارجة عن سيطرته منذ سنوات عديدة.
والواضح اليوم أن هذه الحرب الغاشمة التي يقودها الكيان بمباركة “الراعي الرسمي” تتجاوز في أهدافها وطموحاتها مجرّد القضاء على مقاومة كانت توفّر له نوعا من المشروعية الدولية في استعمال آلته القمعيّة أو مجرّد دفع أهالي غزة نحو الجانب المصري أو تهجيرهم نهائيا وهو يعلم تمام العلم أن الحليف المصري لن يقبل بهذا مطلقا، إلا إذا كان الاتفاق قد حصل مسبقا بين الطرفين مقابل هديّة ثمينة ومجزية.
فالمتأمّل في سير الأحداث وصيرورتها على امتداد ما يناهز الشهر من اندلاع الحرب على غزة سيدرك حتما أن هذا الصمت العربي المخزي من الدول الوازنة وتحديدا دول الطوق (مصر والأردن خصوصا) وبعض البلدان الخليجية كالسعودية و الإمارات القريبة جدا من الكيان الصهيوني ومن الولايات المتحدة الأمريكية خصوصا أمام تواتر المجازر الصهيونية ليس من قبيل العجز عن ردّ الفعل أو لقلّة حيلتهم. فأوراق الضغط التي يمتلكونها كثيرة لعلّ أهمّها ورقة التطبيع أو ورقة امدادات الطاقة وهي أوراق يرفضون استخدامها طوعا لا كرها. فما يحدث يوحي بأن هذه الدّول متواطئة بشكل ما وربّما قد تكون مشاركة في الفعل بدرجات متفاوتة.
فما اقترحه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على الكيان الغاصب بعد ايام قليلة من شن العدوان على غزة كفيل بان يجعل المتابع يجزم دون مواربة بأن أمرا ما قد دُبِّر بليل وأن الرئيس السيسي الذي قد كشف عن هذا الأمر تحت عدسات الكاميرا عندما دعا الكيان الصهيوني الى تهجير اهالي غزة الى صحراء النقب ومن ثمّ اعادتهم فور “القضاء على فصائل المقاومة” خصوصا حماس. وهو ما يعكس حجم العداء الذي يكنّه السيسي ونظامه لهذه الحركة الاسلامية. ولعلّه من الأهمّية بمكان التذكير بالدور الكبير الذي لعبه نظام السيسي من خلال الحملة المنظمة التي قادها ضد الحركة لتشويه صورتها لدى الجمهور المصري من خلال اتهامها بالتواطؤ مع جماعة الإخوان المسلمين لزعزعة الاستقرار داخل الأراضي المصرية قبل أن يتقارب معها من جديد بهدف الاستعانة بها لمواجهة مقاتلي “الدولة الإسلامية” المتحصّنين في سيناء. وقد بلغ مدى هذه الحملة للنيل من حركة حماس حدّه الأقصى عندما دعا الإعلامي الشهير أحمد موسى المقرّب من نظام السيسي الى بشن حرب عربية ضد حماس “التي تقيم معسكرا للإرهابيين في قطاع غزة” على حد قوله في برنامجه “على مسؤوليتي” على شاشة قناة “صدى البلد” المصرية.
حزب الله وايران على الخط
الواضح أن هذا الهجوم الدمويّ الذي يشنّه العدوّ الصهيوني بكل وحشية وصلف لامتناه هو من قبيل الحرب بالوكالة ضد حركات جهادية فلسطينية أعلنت وبشكل واضح تقاربها التام مع إيران العدوّ المشترك لكل دول المنطقة باستثناء لبنان “الجريحة” وسوريا “الذبيحة” .
اذ أثبتت العديد من التقارير الاستخباراتية أن مقاتلي حماس يعتمدون في مواجهتهم للآلة العسكرية الإسرائيلية على أسلحة أكثر تطورا وأسلحة نوعية يرجّح أن تكون ايرانية الصنع وهو ما يؤكد هذا التقارب الذي بات يمثّل خطرا على المنطقة خصوصا في ظل تنامي شأن حزب الله وتعاظم دوره في لبنان وتحديدا بعد حرب 2006 ضد العدو الصهيوني. حيث ومنذ ذلك التاريخ تغيرت الخارطة الاقليمية للمنطقة وجدّت العديد من المتغيّرات التي كان هدفها اساسا إرجاع هذا الحزب ــ الذي ينظر إليه على أنه شوكة إيران في المنطقة والذي تم تصنيفه من قبل هذه الدول بالحركة الارهابية منذ سنة 2016ــ الى حجمه الطبيعي. حيث انطلق العمل على تحطيم سوريا الحليف الأول له وإدخال لبنان من جديد في أتون صراعات داخلية وطائفية تشتت تركيز الحزب عن الخطر المحدق في الجنوب ليلتفت لصراعه مع الأشقاء في الشمال. وهي طريقة لطالما أتت أكلها ووضعت المنطقة برمّتها على صفيح ساخن اعتمادا على السياسة التي لطالما انتهجها العدو والقائمة أساسا على التفريق بين الأشقّاء وزرع بذور الفتنة بينهم، الأمر الذي ما فتئت إسرائيل تظهر من خلاله تفانيا لامحدودا.
وهي السياسة ذاتها التي لطالما انتهجتها في تقسيم الاخوة في فلسطين حيث حوّلت منظمة التحرير الفلسطينية التي يترأسها رئيس السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية محمود عباس الى عدوّ لدود لحركة حماس خصوصا التي تسيطر على قطاع غزة لمدة سنوات طويلة. ولعلّ سياسة الخنوع التي ينتهجها عباس حيال القصف الدموي اليومي الذي يتعرّض له الفلسطينيون في غزّة واعتباره أن “سياسات وأفعال حماس لا تمثل الشعب الفلسطيني” هو من قبيل الموافقة الصّامتة للمخطّط القائم على دحر كل جيوب الممانعة خصوصا تلك التي تتقارب مع إيران على عكس منظمة عبّاس التي لطالما كانت تتوارى تحت جلباب السلطات المصرية ومن ورائها الخليجية .
ولعلّ الخطاب “الليّن والهادئ” الذي ألقاه أمين عام حزب الله حسن نصر الله منذ يومين في علاقة بالمجازر المرتكبة في غزة قد يجعل المتابع الجيّد لمجريات الأمور في المنطقة مقتنعا بأن هناك صفقة تطبخ على نار هادئة في كواليس قصور القادة العرب انعكاسها أجواء ساخنة تخيّم على الأرض الفلسطينية المحروقة بفعل أطنان من القنابل الفسفورية المتهاطلة عليها جوّا.
ويبدو أن زعيم حزب الله، حسن نصر الله، ومن ورائه القادة الإيرانيون، قد تلقّى الرسالة جيّدا ولم يفوّت الفرصة خلال كلمته التي كانت محبطة لعدد كبير من شعوب المنطقة ليِؤكّد أن العملية التي قامت بها حماس هي “فلسطينية خالصة” ولم يتم “استشارة أي طرف خارجي عند التخطيط لها أو تنفيذها.
وكأنّ السيد نصر الله الذي بدا، على غير عادته، فاقدا للحماسة والتوهّج وبدا خطابه هادئا ومسالما وخاليا من التهديد والوعيد كجل خطاباته السابقة، يريد من خلال هذه الكلمات أن يلمّح لعدم وجود أي تنسيق بين حماس وبين الأطراف الداعمة لها وخصوصا الجمهورية الاسلامية الايرانية التي يدين لها نصر الله بالولاء التام محاولا بذلك النأي بحزبه عن هذا الصراع الذي قد يعصف به في حال دخلت القوات الأمريكية على الخط خصوصا بعد استقدامها لحاملة الطائرات جيرالد فورد قرابة سواحل المنطقة. وهو أمر يوحي ربما بأن حربا أخرى أكثر ضراوة على وشك الوقوع في المنطقة ضدّ أهداف تتجاوز المقاومة الفلسطينية التي لا تمتلك قوة ردع كافية للطائرات الأمريكية المتطوّرة وإنما قد يستهدف مباشرة من يوفّر لهذه المقاومة الإمدادات اللوجستية والعسكرية.
ما بعد 7 اكتوبر 2023؟
يبدو أن ملامح هذا الاتفاق غير المعلن بين جميع القوى على القضاء نهائيا على ما يسمّى بالمقاومة المباشرة للكيان الغاصب قد بدأت تتشكّل ملامحه من خلال تصريح عباس خلال لقائه بوزير الخارجية الأمريكي وللمرّة الثانية منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على غزة في7 أكتوبر والذي قال فيه : “قطاع غزة هو جزء لا يتجزأ من دولة فلسطين، وسنتحمل مسؤولياتنا كاملةً في إطار حل سياسيٍ شامل على كل من الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية وقطاع غزة”.
وهو ما يعني صراحة أنه قد بدأ منذ الآن الحديث عن مرحلة ما بعد حماس في قطاع غزّة رغم تأكيدات قيادييها تحقيق بعض الانتصارات في مواجهات متفرّقة ضد العدوّ الذي يحاول جسّ النبض قبل شنّ حملته البرّية الشاملة في القطاع. وهي مرحلة أكّدها العديد من المحلّلين الذين اعتبروا أن أحداث 7 أكتوبر 2023 بمثابة مرحلة مفصليّة ومنطلقا لمرحلة جديدة في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي تماما كما اتفاق أوسلو الذي تمضي ثلاثون سنة على توقيعه (13 سبتمبر 1993) والذي رسم خارطة جغرافية وسياسية جديدة في المنطقة كان من بين نتائجها ما يحصل اليوم على الأراضي الفلسطينية المحتلّة وهو أمر من غير الممكن أن يتواصل الى ما لانهاية بالنسبة للكيان الصهيوني الذي يرفض البقاء تحت طائلة تهديدات صواريخ المقاومة الفلسطينية المنتشرة فوق أرض غزة وبالأخص تحتها وهو ما أعلنته صراحة بعض القيادات العليا في الكيان المحتل التي اعتبرت أن القضاء على قادة حماس اليوم من أوكد أولوياتهم حتى ولو كلّف ذلك ابادة شعب غزة كلّه.
وهو خيار أصبح مطروحا بشدّة والحال أن آلة الحرب حصدت الى حد كتابة هذه الأسطر قرابة العشرة آلاف شهيد وعشرات الآلاف من الجرحى والمفقودين تحت أنقاض المباني التي تمت تسويتها بالأرض في ظل صمت دولي مخز ومتواطئ وشريك في هذا السيناريو الدموي الذي يروم الغرب والاسرائيليون وبعض من قادة العرب الانتهازيين والجبناء والخونة من خلاله، تغيير الخارطة على الأرض وفرض واقع جديد يصبّ في مصلحة الكيان الغاصب حتما ولكن في مصلحة ايضا بعض الأنظمة التي ترى في وجود حماس على الأرض تهديدا متواصلا لها وتبحث من خلال استئصالها فرض سياسة التطبيع التام.
أو لم يعتبر وزير التراث بالحكومة الإسرائيلية عميحاي إلياهو أن إلقاء قنبلة نووية على غزة هو الحل وأن قطاع غزة يجب ألا يبقى على وجه الأرض داعيا سلطات كيانه إعادة إقامة المستوطنات فيه ؟ أو لم يعتبر أن “للحرب أثمانا” وأن المختطفين الإسرائيليين لدى المقاومة الفلسطينية عليهم أن يدفعوا ثمن هذه الحرب القذرة التي يشنّها كيانه الغاصب على غزة حتى يتسنى له طي صفحة المقاومة نهائيا ويواصل سياساته الاستيطانية في ما تبقى من أراض على ملك الفلسطينيين ؟
بات من الجليّ اليوم، وفي تناقض تام مع رغبة غالبية الشعوب العربية المقهورة والعاجزة عن مد يد العون لأشقائها المقموعين في غزة، أن القيادات العربية قد أعطت الضوء الأخضر للكيان الغاصب حتى يمضي قدما في سياسة اجتثاث المقاومة الفلسطينية عبر تحويل غزة الى كومة من الركام والرماد فوق رؤوس سكانها الذين أعطوا درسا خالدا في الجلد والمقاومة والتمسّك بالأرض. درسا سيخلّد ذكرى هذا الشعب الأبيّ في تاريخ الشعوب فيما لعنة التاريخ ستلاحق للأبد حكّاما متواطئين انعدمت فيهم المروءة وباعوا ضمائرهم في مزاد الذل والخسّة والهوان.