هديل الهمامي-” اعتراف” للمخرج محمد علي سعيد، تجربة مسرحية غاصت في أعماق النفس البشرية حيث تلتقي أسئلة العدالة والانتقام والغفران في قصة تكشف هشاشة الروح الإنسانية أمام الألم.
تدور القصة حول قاتل متسلسل اغتصب وقتل خمس عشرة فتاة. خلال محاكمته، أظهر برودًا صادمًا وعدم مبالاة، مما ضاعف من معاناة عائلات الضحايا الذين عايشوا عنفًا جديدًا أشد الما من الجريمة نفسها: عدم اكتراث الجاني. صدر الحكم عليه بالسجن المؤبد، وعاد الجميع إلى منازلهم مثقلين بخيبة الأمل، باستثناء دنيا، والدة إحدى الضحايا، التي اختارت مسارًا مفاجئًا وغير متوقع.
“دنيا”، التي جسدتها ببراعة فاتن الشرودي، رفضت الانصياع للغضب أو الانتقام التقليدي. بدأت بزيارة القاتل في السجن بانتظام، ليس بدافع الفضول أو التعاطف، بل كجزء من خطة عقاب خاصة بها. أرادت أن تواجهه بالغفران، الذي تراه أشد ألمًا من الكراهية، وكأنها تنتزع منه قدرته على التمادي في بروده.
العرض يُبرز العامين اللذين أمضتهما “دنيا” في زيارات متكررة للقاتل، حيث تصبح كل زيارة مواجهة نفسية بين الألم، الخوف، والرغبة في الانتقام. أدت فاتن شرودي الشخصية بكامل أبعادها، متكنة من جذب المشاهدين لالتماس صراعها الداخلي، بين مظهر القوة وصلابة الحضور وبين انكساراتها الخفية التي تفصح عنها نظراتها وحركاتها المتقنة.
وأما شخصية القاتل “وسام”، التي لعبها ناجي القنواتي، فقد كانت مرآة للظلام البشري. القنواتي استعد لهذا الدور بعناية فائقة، شاهد مقابلات مع القاتل الحقيقي الذي استلهمت منه القصة، واستطاع أن ينقل شخصية مركبة بمهارة كبيرة دون أن يسمح لها بالتأثير عليه كممثل. حضوره كان قاسيًا، باردًا، ومع ذلك مليئًا بتناقضات تشد الأنظار.
وسط هذا الصراع، ظهر حمودة بن حسين، الذي يؤدي دور “الراوي”، لكنه لم يكن مجرد راوٍ عادي. بدا وكأنه الضمير المستتر لدنيا، ذلك الصوت الداخلي الذي يواجهها بأسئلتها الكبرى: لماذا تلتقي بقاتل ابنتها؟ هل تسعى حقًا للعقاب أم أنها تبحث عن شفاء لجراحها؟
العرض مستوحى من قصة حقيقية حدثت في فرنسا، وأعيدت صياغتها دراميًا في رواية “انتقام الغفران” للكاتب إريك إيمانويل شميت. لكن ما أضافه هذا العرض هو بعد محلي يضع أصبعه على جروح حية في مجتمعنا، حيث تستمر قضايا الاغتصاب والعنف ضد النساء في طرح أسئلة لا تنتهي حول العدالة والإنصاف.
“اعتراف” ليس مجرد عرض مسرحي؛ إنه دراسة نفسية عميقة عن العلاقة بين الجلاد وضحيته. الغفران هنا ليس أداة للتسامح، بل عقاب أشد قسوة، يفضح هشاشة النفس البشرية ويكشف عن الثمن الباهظ الذي يدفعه الإنسان عندما يختار المواجهة بدلاً من الانتقام.
المسرحية تترك المشاهد في حالة من التأمل العميق: هل الغفران يمكن أن يكون خلاصًا؟ أم أنه عبء جديد يزيد من ثقل الجراح؟ إنها تجربة مسرحية استثنائية تُعيد تعريف مفهوم العقاب والعدالة بطريقة مؤثرة وشجاعة. “اعتراف” هو عمل فني نادر، يلامس القلوب ويطرح أسئلة لا إجابات واضحة لها، تاركًا أثرًا لا يُنسى في نفوس من شاهدوه.