“زيد في الحس” تعبيرة عامية تتألف من مفردتين “زيد” و”الحس” وتحيل الأولى إلى فعل الإضافة والزيادة وتحمل الثانية معنيين الصخب والإحساس، ومن هذه التوليفة تستمد الدورة العاشرة من أيام قرطاج الموسيقية شعارها.
هذا الشعار يتواصل لدورة أخرى مع المديرة الفنية ورئيسة لجنة التنظيم الفنانة درصاف الحمداني ليستمر المهرجان في نهجه القائم على دعم الفنانين الشباب والترويج للموسيقى البديلة وخلق فضاءات لتشبيك العلاقات بين مختلف المحترفين في مجال الموسيقى.
منذ فاتحته اتخذ افتتاح الدورة العاشرة لأيام قرطاج الموسيقية ملامح مختلفة صدحت فيها كلمات النشيد الوطني التونسي بصوت الفنان محمد علي شبيل على إيقاع نغمات البيانو إذ لامست أنامل جهاد الخميري مفاتيحه في الوقت الذي زينت فيه الراية الوطنية شاشة ركح قاعة الأوبرا.
الاختلاف يتبدى أيضا في اختيار مقدم حفل الافتتاح مهدي شمام “ماسي”، وجه من وجوه الموسيقى البديلة في تونس، هذه الموسيقى التي وهبت الحياة لفكرة تأسيس أيام قرطاج الموسيقية.
بعيدا عن الافتتاحات الرتيبة، واللغة الخشبية، والكلمات المفردة من معانيها، تحدث “ماسي” ببساطة وطلاقة ونظم الكلمات في وصلة “سلام” وتحدث عن أيام قرطاج الموسيقية كما ينبغي دون إفراط أو تفريط.
وبعد الإعلان عن افتتاح المهرجان رسميا من قبل المديرة الفنية درصاف الحمداني التي ألقت كلمة تحدثت فيه عن دورتين مدادهما الحلم وعن خصوصية المهرجان الذي كان ومازال منصة للفنانين الشبان تجاوز “الحس” حدود تونس إلى إيطاليا مع مجموعة “آرس نوفا نابولي”.
إلى عوالم نابولي الساحرة حملت المجموعة الحضور على إيقاع موسيقى تولّف بين الكلاسيكيات والموسيقى الشعبية في أسلوب خاص ومميز يقف فيه أعضاء المجموعة في منزلة بين التقاليد والحداثة.
بآلاتهم الموسيقية المتنوعة، وحضورهم الركحي الصارخ، وشغفهم الصاخب، تخلق المجموعة عرضا فرجويا يشدك إلى تفاصيله وتتعلى الألحان القادمة من عمق المتوسط وتغويك بالرقص.
موسيقى آرس نوفا نابولي آسرة تحمل في ثناياها أصوات مختلفة تدرها الحوارات بين العازفين وآلاتهم الموسيقية وتروي حكايات عن الحياة والحب، حكايات ضاربة في عمق نابولي.
أغان تقليدية من جنوب إيطاليا، تعالت في قاعة الأوبرا وشكلت هالة من الحماية والطاقة اللامتناهية بعد أن أضفت عليها المجموعة لمستها الخاصة التي تنهل من ألحان منطقة البحر الأبيض المتوسط.
وإلى الضفة الأخرى من المتوسط يعبر صوت الفنان محمد علي شبيل في وصلة من الغناء التونسي حيث جال بين المقامات والطبوع بسلاسة تحتمها خامة صوته المميز.
إلى عمق الموسيقى التونسية مضى محمد علي شبيل لا ترافقه سوى نغمات البيانو إذ يلامسه جهاد الخميري، مزيج ساحر بين هذه الآلة الموسيقية ومساحاته الصوتية تشكل على الركح.
ومن تونس يحط “الحس” الرحال في إسبانيا حيث تشبعت “لاخوسيه” بالفلامينكو النقي وعجنته بأنماط موسيقية أخرى دون أن تفقده أيا من نقائه بل على العكس خلقت له أجنحة حملته إلى مساحات بعيدة.
للمرأة، وللحرية شدت “لاخوسيه” بصوت يتسرب إلى الروح دون حواجز وعزفت ورقصت مستحضرة على الركح كل الإرث الغجري الذي ظهر أيضا في شعرها المنسدل على كتفيها وفستانها الأحمر ومروحتها.
حضور ركحي مزاجه من عفوية يرتسم على الركح ويشدك إلى كل تفاصيل الفنانة التي تكتل أغانيها وتغني وترقص وتعزف وتنتقل بسلاسة بين الأجناس الموسيقية إذ تخلق مزيجا فريدا من الفلامنكو والفولك والسول فانك والأفرو لاتيني.
على شاكلة كل حفلاتها تحاوط “لاخوسي” نفسها بمجموعتها الموسيقية التي بنت معها روابط انسجام وتفاهم وتتنقل بين الرقص الشرقي والسامبا والايقاعات الأفرو كوبية وتستميل الجمهور.
وفي عرضها في أيام قرطاج الموسيقية تواصل الفنانة الاسبانية المتمردة على التصنيفات والأطر التجريب وكسر الحدود واختارت أن توشح عرضها بمسحة تونسية من خلال استضافة عازف الناي حسين بن ميلود والمغنية رانيا الورغي.
وحينما بث حسين بن ميلود أنفاسه في قلب رفيقه الناي اتخذ الحس بعدا آخر تماهت فيه الروح التونسية بالروح الإسبانية وتعانق صوت المغنيتين في منطقة وسطى بين الفلامنكو والموسيقى التونسية.
التمازج بين الموسيقات المختلفة في صميم فلسفة أيام قرطاج الموسيقية وهو ما يحسب لعرض “لا خوسي” ولكن ما يحسب عليه أن إطلالة رانيا الورغي لم تستوف حقها خاصة وأن خالتها الصوتية مميزة.
ومع ذلك اختزل الافتتاح الوقت وكأن الرحلة في أعماق الموسيقات التونسية والإيطالية والاسبانية أوقفت آلة الزمن وصنعت زمنا موسيقيا تروي فيه الألحان والنغمات والأصوات حكاياتها الملتحمة بالحياة في مختلف تجلياتها.