“حق المروج الخضر .. و البحر والصحراء .. و حق الوفاء و الصبر .. و الود و العشرة .. و ما فيك من وديان .. واد مجردة و مليان .. لا يوم عنا تهون .. يا زينة البلدان .. يا ام السواعد سمر .. يا تونس الخضراء”، كلمات أغنية تتغنى بتونس تتخذ بعدا آخر حينما تصدح بها حنجرة تلميذ سينيغالي في الأكاديمية البحرية.
الطالب السينيغالي يمتلك خامة صوتية فريدة توشحها بحة جعلت الجمل الموسيقية أشبه بالطبقات المخملية الملونة بألوان القارة الافريقية التي تمتد فيها تونس وتمد فيها أياديها لكل دولها في مجالات عديدة بما في ذلك التعليم العالي العسكري.
بلهجة تونسية ممزوجة بلكنة سينيغالية يغني ويتغنى بالبلد الذي استضافه، في إطار التعاون الدولي، وهو ما يعكس أثر نادي الموسيقى بالأكاديمية في انفتاحه على الموروث الموسيقي التونسي والالتزام بإيقاعاته ونغماته التي أوجدها العازفون المرافقون له، عازفون من التلامذة الضباط، منصهرون مع آلاتهم الموسيقية “كلافيي” و”غيتار”، و”كمنجة” و”دربوكة” وعود، خلقوا ألحانا تداعب الوجدان ورددوا أغاني عالقة بالذاكرة.
وفي رحاب الأكاديمية يتكون تلامذة ضباط من دول شقيقة وصديقة غرار الكاميرون والسينغال وذلك في إطار الانفتاح الإقليمي والدولي وضمن رؤية 2030 المتماهية مع رؤية وزارة الدفاع الوطني، والتي تهدف إلى أن تكون الأكاديمية قبلة للتكوين في الملاحة ينفتح على محيطه الخارجي إقليميا ودوليا.
الأكاديمية البحرية التي احتضنت الصحفيين ضمن الزيارة الميدانية التي تنظمها وزارة الدفاع الوطني لوسائل الإعلام الوطنية، منارة علم متجذرة في محيطها البحري والعسكري ضياؤها يمتد إقليميا ودوليا، وهي أيضا تولي أهمية للآداب والفنون والرياضة.
في هذا الصرح التعليمي الذي يمتد تاريخه إلى عام 1978 حيث كانت تسمى المعهد الأعلى البحري قبل تغيير التسمية عام 1984، تلامذة ملتزمون بتكوينهم العسكري والجامعي، يعشقون الفن ويهيمون بالشعر والآداب ويقضون ساعات في المجمع الرياضي؛ ملاعب وقاعة رياضة بصدد التهيئة والتجهيز بمعدات حديثة.
والأكاديمية البحرية أول مؤسسة تعليم عال تونسية تتحصل على شهادة معايير الجودة ايزو 9001 سنة 2005، وهي تكون الضباط لفائدة جيش البحر والبحرية التجارية، وتشمل الدراسة بشعبة البحرية الوطنية اختصاص قيادة سفن وانظمة بحرية اختصاص طاقة وتقنيات بحرية فيما تشمل الدراسة بشعبة البحرية التجارية اختصاص ملاحة بحرية واختصاص طاقة ومحركات.
وهذه المؤسسة منفتحة على محيطها الخارجي على المستوى الوطني إذ تتعاون مع المؤسسات الوطنية في مجال التكوين والبحث العلمي، وتكون إطارات لفائدة وزارات الداخلية والمالية والنقل، وعلى المستوى الإقليمي والدولية عبر اتفاقيات التعاون والشراكة مع البلدان الشقيقة والصديقة.
ومشروع توسعة الأكاديمية الجاري يأتي في سياق الإشعاع على دول الأبيض المتوسط والدول الإفريقية وعلى الصعيد العالمي عبر الرفع في طاقة استيعابها للتلاميذ الأجانب 150، وفق حديث آمر الأكاديمية البحرية العميد بالبحرية بشير المنوبي الذي أشار إلى أن عددهم يبلغ حاليا 50 وهم من جنسيات إفريقية.
كما تحدث العميد بشير المنوبي عن الحرص على أن تكون الأكاديمية على رأس واجهات التكوين البحري العالي وطنيا وإقليميا وقبلة للتكوين في الملاحة من قبل الدول الشقيقة والصديقة.
ولفت إلى أن المنظومة التعليمية في الأكاديمية تضاهي مثيلاتها في الدول الكبرى من حيث كفاءة خريجيها المعترف بها دوليا، موضحا أن هذه المنظومة تعتمد على أحدث تجهيزات الملاحة البحرية وأكثرها تطورا على غرار محاكي الإبحار.
وعن ضرورة توفر الشغف للعمل في المجال العسكري البحري تحدثت الرائد بالبحرية هناء بن الشيخ مديرة الدراسات البحرية والتجارية بالأكاديمية قائلة “الشغف ضروري في أي مجال.. وللمجال العسكري خصوصياته فهو عمل لا يخضع للتوقيت الإداري ويقوم بالأساس على التضحيات والرغبة في التميز من أجل الوطن والعمل على إشعاع تونس والحفاظ على صورتها”.
كما تطرقت الرائد بن الشيخ إلى مراحل التكوين في الأكاديمية في مختلف الاختصاصات وخصوصية كل مرحلة وإلى تنظيم دورات تكميلية وتنظيم دورات رسكلة والقيام ببحوث علمية وتقنية، مبينة أن التكوين في الأكاديمية
يشمل تكوينا عسكريا يستأثر بالنسبة الأكبر وتكوينا علميا بنسبة أقل يليه التكوين التقني البحري ثم التكوين العام.
والأكاديمية البحرية التي تلفت إليها الأنظار في علاقة بالبحث والاختراعات وطبيعة التكوين نفسه قبلة للتلاميذ من دول صديقة وشقيقة وتلاميذها أيضا يتوجهون للتكوين في الأكاديميات البحرية في إيطاليا وفرنسا والجزائر والولايات المتحدة الأمريكية إثر مناظرات داخلية.
كما يناقش بعض التلامذة مشاريع ختم الدروس في هذه الأكاديميات ويساهمون في إشعاع الأكاديمية البحرية بتونس لكفاءتهم والتزامهم وحرصهم على التميز من أجل إعلاء راية تونس.
ولخلق منظومة تعليم عال بحري متجذرة في محيطها الجامعي والعسكري تسعى الأكاديمية دائما إلى توفير الوسائل والمعدات اللازمة للمدرس وللتلميذ من أجل ضمان تكوين متميز نتاجه خريجون مشهود لهم بالكفاءة والتميز عالميا.
مخابر ومحاكيات..
وفي الأكاديمية مخابر للإعلامية، والإلكترونيك، والالكتروتكنيك، والأنقليزية ومشبه النظام العالمي للاستغاثة والسلامة البحرية ومحاكي عمليات بحرية ومحاكي ملاحة يجعلك تشعر بأنك في قلب البحر لفرط تطوره.
والهدف من استعمال المحاكيات تعويد التلامذة على حسن تطبيق قواعد الملاحة، وتجنب التصادم في البحر، وحسن استعمال المعينات البحرية وضمان سلامة الملاحة أثناء قيام الضابط بالخِفارة إلى جانب التعرف على العمليات البحرية واتقان التخاطب في البحر.
وعلى قدر اهتمام الأكاديمية بمجاراة التطورات التكنولوجية والاعتماد على الذكاء الاصطناعي لتكون في طليعة التكوين البحري عالميا تولي أهمية للخارطة الورقية فترى التلاميذ منكبين عليها يحددون الاحداثيات بالاعتماد على عمليات حسابية وبالاعتماد على النجوم والقمر والشمس.
وجولة خاطفة في مخابر الأكاديمية تجعلك تتطلع على بعض من تفاصيل المنظومة التعليمية الدقيقة التي لا تغفل أي مجال يتداخل مع الملاحة البحرية، وفي انتظار التجهيزات ستحتضن مختبرا للتصنيع يتم فيه تطوير النماذج التي يوجدها التلامذة.
اما مخبر البحث فقصة أخرى عنوانها الشغف والحرص على التميز إذ تشمل البحوث مجالات كثيرة وتتعلق في أغلبها بمشاريع ختم الدروس من ذلك الروبوتيك البحري والميكانيك البحري والطاقات المتجددة والسلامة السيبرانية في الملاحة.
هذا الفضاء الذي تم إحداثه سنة 2019 يضم 20 باحثا وقد أفضى إلى مناقشة 4 رسائل دكتوراه و31 منشورا علميا كما رأت فيه النور سفينة دون ربان تتولى مراقبة المنافذ البحرية وقد تم تطويرها عبر الذكاء الاصطناعي لتكشف الأشياء الطافية في البحر وتتعرف عليها، بالإضافة إلى روبوت لمراقبة المنافذ الجوية للأكاديمية.
مركز التكوين والتدريب في السلامة البحرية..
مهام هذا المركز الذي تم إحداثه سنة 1992 وكان حينها مركزا لمكافحة الحرائق تابعة للأكاديمية قبل أن يتخذ اسمه الحالي بعد عقد من الزمن (2002) تتمثل في تكوين وتدريب أفراد جيش البحر وطواقم الأسطول البحري التجاري التونسي والأجنبي والعاملين على متن المصطبات البترولية في ميدان السلامة البحرية الى جانب العديد من الشركات العامة والخاصة العاملة في الميدان، إلى جانب القيام بدراسات وتجارب في مجال السلامة البحرية.
ومن أهداف التكوين في المركز، وفق آمره العقيد بالبحرية سامي جمعة، الخلاص في البحر في حالة إخلاء السفينة، وتقليل مخاطر الحرائق والمحافظة على وضع التأهب للتصدي لحالات الطوارئ التي تشمل الحرائق، ومكافحة الحرائق وإخمادها، واتخاذ تدابير فورية عند مواجهة حادث أو حالة طوارئ طبية.
ومن أهدافها، أيضا، الامتثال لإجراءات الطوارئ، واتخاذ التدابير الوقائية لمنع تلوث البيئة البحرية، المساهمة في إرساء علاقات إنسانية حسنة على متن السفينة، والنقطة الأخيرة تتجلى في تمارين مكافحة الحرائق والسلامة البحرية وإخلاء السفينة إثر حريق.
وفي فضاء التدريب على مكافحة الحرائق، تحرك المتربصون وكأنهم جسد واحد وكان اولهم يتحسس موضع قدمه للتأكد من سلامة المكان وكان أحدهما يحمي ظهر الآخر فيما يطفئون الحريق ويواجهون ألسنة اللهب.
بأزياء خاصة تغمر أجسادهم ووجوههم يسعون معا إلى تحديد النار ومنع انتشار الحريق فالبحر والنار أمامهم وهو ما يجعل من التحكم في سرعة انتشار النار وإخمادها عملا مصيريا تتوقف معه عقارب الساعة ولا مجال فيه للخطأ أو الارتباك.
ومن الضروري الإشارة إلى أن ميدان التدريب تم تجهيزه بإمكانيات ذاتية من الأكاديمية وهو يضاهي ميادين متطورة في أكاديميات أخرى، كما أن مصطبة التكوين والتدريب على السلامة البحرية تحولت بفضل كفاءاتها إلى محاكي سلامة.
والمصطبة ليست سوى سفينة فرنسية الصنع تعود إلى الستينات خرجت عن الخدمة فتم تطويعها لخدمة التكوين والتدريب في الأكاديمية البحرية وفيها يتدرب التلاميذ على تمارين تسرب مياه وحريقة.
وانت تدخل المصطبة تشعر بأنك داخل متحف إذ تم الحفاظ على تفاصيلها وعلى عجلة قيادتها الخشبية وجهاز الاتصال الشبيه بالبوق، مع تحديثها لتكون محاكيا يمكّن المتربصين من التعرف على سيناريوهات الحرائق على متن السفن وتسرب المياه وكيفية التعامل معها.
وكما الأكاديمية التي يتبعها يشع المركز من خلال التكوين والتدريب الذي يوفره من ناحية، ومن خلال التجديد والاختراع من ناحية أخرى إذ يشمل محطة لشحن قوارير الإطفاء وقوارير هواء التنفس، بعد الحصول على براءة الاختراع في المجال.
وفي تمرين يوضح المرحلة التي تلي إخلاء المركب تتجلى دقة التدريب من خلال الحرص على سلامة الأرواح وقيمة الوقت في الحوادث على متن السفن، يتولى متربصون القفز من علو معياري الواحد تلو الآخر وهم يرتدون بدلة خاصة تمكنهم من الطفو على سطح الماء لعدد من الساعات.
ملتحمين ببدلات بالغة الثقل يسبح المتربصون على ظهورهم مغالبين التيار ويظلون كذلك حتى وصول زورق الإنقاذ ويساعدون بعضهم بعضا على صعوده وإن كان اسم التمرين الخلاص الفردي للبحارة العسكريين والمدنيين، إلا أن النجاة جماعية.
وعلى وقع النجاة التي تظل الهدف الأسمى للسلامة البحرية، تشارف زيارة الأكاديمية البحرية على الانتهاء، تتشبع بتفاصيلها وقيمها ولا ترتوي من مزيد الغوص في ثناياها على أمل العودة إليها عند إنتهاء الأشغال التي تتواصل على قدم وساق.
وفيما توشك الأشغال على الانتهاء يكاد يحل حفل تخرج الضباط التلامذة في مشهدية مصورها الراية التونسية التي ماانفكت ترفرف على إيقاع استعراض في ساحة العلم يحاكي يوم التخرج الذي يكتسي طابعا آخر بحضور أولياء راهنوا على أبنائهم وكانوا سندهم حينما اختاروا أن يكونوا حماة للوطن.