نختتم في هذا الجزء الثالث والأخير تغطيتنا للندوة الفكرية بعنوان “الطرق الصوفية وأبعادها الدينية والثقافية والفنية“ التي انتظمت مِخرا ببادرة من جمعية علوم وتراث بالقلعة الكبرى وبالتعاون مع الجمعية التونسية للدراسات الصوفية.
لعلّ ما وجب التنويه به قبل نقل فعاليات الجلسة العلمية الثانية التي أدارها بكل تميّز وكفاءة عالية المؤرّخ الدكتور عادل بن يوسف هو دسامة محتوى جميع المداخلات سواء كانت المحاضرة الافتتاحية التي ألقاها الدكتور توفيق بن عامر مسلِّطا الضوء فيها على العوامل التاريخية والثقافية لنشأة الصوفية, أو الجلسة الأولى التي ترأسها الدكتور عبد الجليل سالم وشارك فيها كل من الباحثين منتصر عواينية وفتحي طالب وصفاء البطي.
تجلّيات الطريقة الشاذلية
في اشارة الى تجلّي الطرق الصوفية في العالم الإسلامي، ترى الباحثة في الفكر المعاصر، الدكتورة سامية فطّوم، أن هذا التجلّي قد تزامن مع تبلور “العقل الصّوفي” أو الفلسفة الصّوفية التي قسّمت العقيدة الإسلامية إلى “ظاهر” وهو شريعة خاصّة وملزمة لعموم المسلمين و”باطن” وهو علم الحقيقة الذي يختص به “المصطفون الأخيار” من أمة الإسلام.
ومن ثَمَّ فقد تحوّل “التصوّف من حالة الورع والزهد الى مذهب قائم على الأصول والأركان”. وعلى ذلك فترى الباحثة بمركز البحوث والدراسات في حوار الحضارات والأديان المقارنة بسوسة أن الطريقة الصوفية “ماهي إلا منهج يُلزِم المريد اتباعه للوصول الى الحقيقة المطلقة التي يبلغها السالك عبر مراحل ومقامات محددة”. ويتم اختزال منهج التصوّف في أوراد وأذكار وتعاليم ينتهي تسلسل سندها الى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الأستاذة سامية فطّوم
وتعتبر سامية فطّوم في مداخلة بعنوان “مدرسة الطريقة الشاذلية في تونس” أن لكل طريقة سندها الخاص به حيث تتصل دائما “بالصحابيين أبي بكر الصديق وعمر ابن الخطاب اللذين تلقيا الطريقة عن علي ابن أبي طالب والذي تلقاها بدوره عن الرسول الأكرم”. غير أن فطّوم تشير الى أن الطريقة الشاذلية والتيجانية متصلتان مباشرة بعلي ابن ابي طالب وذلك عن طريق الإمام الحسن البصري (توفي سنة 110 هـ).
وفي سياق جردها لمراحل ظهور الطرق الصوفية في تونس وبالأخص الطريقة الشاذلية تشير صاحبة كتاب ” الجدل السياسي الديني حول شكل الدولة والمجتمع” (2019) الى أن الطريقة الشاذلية هي النسخة القادرية في المغرب وهو الفضاء الجغرافي والبشري الذي احتفى منذ القرن الحادي عشر بالتصوف وخصّه بترحاب كبير. وقد انتشر التصوّف خصوصا في افريقيّة في العهد الحفصي مع “ظهور أبي مدين شعيب (توفي سنة 594 هـ) الذي تتلمذ على يدي الغوث عبد القادر الجيلاني (توفي سنة 561 هـ) في المشرق قبل عودته للاستقرار بالجزائر حيث تخرّج على يديه أيضا عدة صلحاء انتشروا في ربوع المنطقة المغاربية وكان هدفهم “استتابة الناس ونشر تعاليم الدين وإشاعة المذهب المالكي السني في فترة اتسمت باضطراب الأوضاع الأمنية والفكرية والسياسية والاجتماعية”.
ما الطريقة الصوفية إلا منهج يلزٍم المريد اتباعه للوصول الى الحقيقة المطلقة
التي يبلغها السالك عبر مراحل ومقامات محددة
وترى المحاضرة أنه مع ظهور أبي الحسن الشاذلي (توفي سنة 656 هـ) مؤسس المدرسة الشاذلية “اختٌلِف في نسبه حيث وَصَلَ مريدوه نسَبَه إلى الحسن ابن علي ابن ابي طالب في حين ذكر الإمام الذهبي (توفي سنة 748 هـ) في كتابه “العبر في خبر من غبر” أن الشاذلي هو “أبو الحسن ابن علي ابن عبد الله ابن عبد الجبار المغربي الزاهد شيخ الطائفة الشاذلية وسَكَن الاسكندرية”.
وعلى ذلك فترى فطّوم، وهي أيضا عضو نشط بالجمعية التونسية للدراسات الصوفية، أن الشاذلي الذي تنسب له العديد من الكرامات قد ذاع صيته في الاسكندرية حيث رحل من تونس الى مصر واتخذ له مقاما في جبل زغوان. كما للشاذلي “العديد من الأوراد منها حزب النصب وحزب الفتح وله كتاب “السر الجليل في خواص حسبنا الله ونعم الوكيل” والمسمّى بـ”الجواهر المصونة واللآلئ المكنونة”.
وترى الباحثة أن العديد من الشيوخ قد تتلمذوا على يدي أبي الحسن الشاذلي لعلّ من أبرزهم وأشهرهم في مصر الشيخ أبو العباس المرسي (توفي سنة 686 هـ) الذي أصبح خليفة للشاذلي وأحد أقطاب المدرسة الشاذلية ومرجعا دينيا يحظى بشعبية لا مثيل لها الى درجة أن العديد من الأهالي لا يتوانون الى اليوم عن ترديد القسم باسمه. وقد ساهم ذلك في انتشار الشاذلية في العديد من الأرجاء والأوطان من ذلك الاسكندرية وطنطا ودسوق وكفر الشيخ (مصر) وسوريا والمغرب العربي والسودان.
وفي معرض حديثها عن الطرق الصوفية المتفرّعة عن الشاذلية تذكر الباحثة الطريقة الشابية والعروسية نسبة الى الشيخ أحمد بن عروس (توفي سنة 868هـ) والتي تسمى أيضا بالسلامية، والطريقة العيساوية والرحمانية المنبثقة من الطريقة الخلوتية المتفرّعة منها الطريقة العزوزية (زغوان) والبعلية في نفطة (نسبة الى بوعلي النفطي) والسنوسية (نسبة الى محمد بن علي السنوسي بالجزائر) والتبسيّة والمدنية والقاسمية والإسماعيلية وغيرها.
وترى المحاضرة في علاقة بـ”مناسك” الطريقة الشاذلية أن دخول هذه المدرسة يقتضي من السّالك البقاء في الخلوة لمدة ثلاثة أيام متتالية لذكر كلمة الله وهو ما يفسّر اشتغال الشاذلية على الذكر أكثر من الطرق الأخرى سعيا منها إلى تحقيق انتقال المريد الى “العلوّ الروحي” . ويؤمن مُنتَهِجو الطريقة الشاذلية ان طريقها واحد وهدفها واحد وهو الله. كما ينكر متبعو الشاذلية التعصّب لأي مذهب إيمانا منهم بأن الطريق يِؤدّي لزاما الى الحق وبالتالي الى الله رغم كل الاختلافات.
وتشير المحاضرة في هذا السياق الى أن من مميزات الطريقة الشاذلية انقسامها الى طريقة علمية وعملية تنبني على قسمين وهما القسم الكسبي “وهو المعهود عند أهل العلم” والقسم اللّدني “وهو علم اللّدن وهو ثمرة التقوى والإخلاص والصّدق”. وعلى ذلك فدستور الشاذلية هو “كتاب الله وسنّة رسوله والتمسّك بهما” ولا يطلب سالكو الطريقة الشاذلية الدنيا ولا الآخرة بل يطلبون رضا الله ورسوله ولا يعبدون الله خوفا من نار ولا طلبا لجنة نعيم ايمانا منهم بأن جنتهم في الدنيا هي “جنة العارفين بالله” غير أنهم يطلبون الجنة “ليكونوا مع الذين أنعم الله عليهم من النبيّين والصّدّيقين والشهداء والصالحين وحسن ذلك رفيقا”.
بخصوص أفكار الطرق الصوفية ومعتقداتها، ترى الدكتورة سامية فطّوم أن كل الطرق تلتقي عند أفكار ومعتقدات واحدة وإن كانت تختلف في سلوك المريد وهي طرق التوبة وهي نقطة الانطلاق والاخلاص وينقسم الى إخلاص “الصادقين” وإخلاص “الصّدّيقين” والنية وهي أساس الأعمال والأخلاق والخلوة ومن ذلك اعتزال الناس وذكر الله والزهد وهو “فراغ القلب مما سوى الله” وهو زهد العارفين وكذلك تزكية النفس والورع والتوكل على الله والرضا والمحبّة وشعارهم فيها “سفر القلب في طلب المحبوب ولهج اللسان بذكره على الدوام” والذوق وهو معروف عندهم بـ” تلقي الأرواح للأسرار الطاهرة من الكرامات وخوارق العادات “. وعلى ذلك يفضّل الصوفية العلوم التي تأتي عن طريق الذوق على العلوم الشرعية المتأتية عن طريق الفقه والأصول وديدنهم في ذلك قولهم “علم الأذواق لا علم الأوراق”. فهم يقولون ان “علم الكتاب والسنة لا يؤخذ إلاّ عن طريق شيخ أو مربّ أو مرشد”.
الإنشاد الصوفي : من التصوّف إلى الموسيقى
في مداخلة له عن الإنشاد الصوفي وتطوّره، يرى الأستاذ والباحث في التراث الموسيقي الشعبي، حسين بالحاج يوسف، الذي قام بمسح كامل للتراث الموسيقي بالجمهورية التونسية، أن ” من أهم قواعد الصوفية توطين النفس عن قوة الارادة والسلوك بها الى الذات الالهية بصفة تدريجية ــ ولا يكون ذلك الا بكبح النفس وتطهيرها من جميع الغرائز وتربيتها على تخطي جميع مطالبها المادية للوصول الى مبتغاهاــ وهذا الوصول لا يكون إلا عن طريق شيخ قد لقن الطريق عن طريق شيوخ قد سبقوه شيخا عن شيخ الى النبي صلى الله عليه وسلّم”.

الأستاذ حسين بالحاج يوسف
وبحسب المحاضر فإن سلوك هذا الطريق يفترض التزام الطالب بنظم وسبل صعبة التحقيق ولا تتأتى إلى العموم من الناس. وتعميم هذه الطرق على يد العملة يساهم في انتشارها بشكل صحيح ولا يجعلها تنزلق في المتاهات والأوهام والخيالات.
غير أن الطرق الصوفية أصبحت عموما تقتصر، في نظر الحسين بالحاج يوسف، على المظاهر الاحتفالية و”صارت مجرد لقاءات أنس تغنى فيها الألحان المُطرِبة والمُرقِصة وتغنى فيها الأناشيد الفنية الرقيقة وتمجد فيها اسماء الله لا بالخشوع بل بالالحان المضبوطة والنغمات على إيقاع الآلات الموسيقية المختلفة مثل الدف وغيره”.
وبالرجوع الى منطلق نشأة فكر التصوّف يرى المحاضر أن التصوف “نشـأ بصفته فكرة زهدية عن طريق عدة عوامل يمزج فيها بين ما كان المقصود منها من نبذ الدنيا والتعلق بالروحانيات والماورائيات”. وأشار الحاج يوسف في باب التذكير بتأسيس الطرق الصوفية أن الآلات لم تكن موجودة ويعتبر ابن سيدي عبد القادر الثالث هو اول من ادخل هذه الآلات في الانشاد الدينى ثم أخذت عنها العيساوية وتطور الأمر ليبلغ حد الألعاب التي خرجت بهذه الطرق عن سياقها الأصلي.
وفي علاقة تأثر الصوفية وتأثيرها في التراث الموسيقي الأصلي للمنطقة، رأى يلحاج يوسف أنه عند وصول التعاليم الصوفية الاولى الى تونس كانت قد “وجدت أرضية موسيقية أصيلة ومتطوّرة سواء عند الأغالبة أو الفاطميين أو غيرهم”. ولاحظ المحاضر في هذا الشأن أن الموسيقى الصوفية قد تأثرت أيما تأثّر بالنّوبات والمالوف “حيث بمجرّد قدومها إلى تونس، سرت الألحان الاندلسية سريان الدم في شرايين الطبقات الشعبية بفضل أوزانها وقرب لغتها من اللهجة الدارجة فعلقت في النفوس والأذهان وترددت الحانها في كل مكان ولم يتوقف تغلغل الالحان الاندلسية داخل المجتمع بل تخطاه الى الطرق الصوفية حيث اصبحت هذه الألحان تنشد في محافل الذكر والمناسبات الدينية وقد أصبحت تردد على أوزانها كلمات ومدائح في مقامات الأولياء الصالحين”.
صارت الطرق الصوفية مجرد لقاءات أنس تغنى فيها الألحان المطربة والمرقصة
وتغنى فيها الأناشيد الفنية الرقيقة وتمجد فيها اسماء الله لا بالخشوع
بل بالالحان المضبوطة والنغمات على إيقاع الآلات الموسيقية
ويذهب بلحاج يوسف بعيدا في الحديث عن تأثر الطرق الصوفية بالألحان الأندلسية معتبرا أن “المالوف قد غزا النوبات الصوفية مثلا العيساوية والقادرية و العزوزية والعوامرية والعروسية” ومشيرا الى أن “نوبات هذه الفرق تقوم على قراءة الفاتحة ثم تلاوات خاصة بهم مرورا بأشعار صوفيّة كأشعار ابن الفارض (توفي سنة 632 هـ ) والإمام البوصيري (تُوفِّي سنة 696 هـ ) وابن مرزوق (تُوفِّي سنة 781 هـ ) ثم يخوضون في نوبات مالوف موقعة بالات كالبندير والرق والدربوكة لضبط الايقاع ثم ياتي الانشاد والخاص على غرار تأثّرها بالموسيقى الأندلسية”.
ولم يخف المحاضر تاثر الموسيقى الصوفية بالتراث الشعبي حيث أشار الى وجود بعض الموازين الشعبية كالرقائق والصنائع في الطرق الصوفية كما أن هناك الكثير من المدائح مُلحَّنة على موازين الأغاني الفلكلورية والتراثية .
اما عن الطريقة السُّلامية فقد ذكر حسين بلحاج يوسف المُلِمّ بالتراث الموسيقي بجهة الساحل خصوصا وفي البلاد التونسية عموما، ان “أصل التسمية منسوب الى الشيخ عبد السلام بن سليم الأسمر الفيتوري (توفي سنة 981 هـ ) وقد تسمى ايضا العروسية نسبة الى الشيخ أحمد بن عروس حيث صرّح الشيخ الأسمر انه أخذها عن الشيخ بن عروس وعن طريق شيخه عبد الواحد الدوكالي”.
السّماع بين الإباحة والتحريم
يعتبر الدكتور محمد العزيز بن زاكور، أستاذ مادة العربية بالمدرسة الصادقية بتونس، في مستهل محاضرته المُخصّصَة للسماع الطرقي في تونس أن “للسماع في التصوّف الإسلامي منزلة من الأهمية بمكان على وجه العموم وعلى التصوّف الطرقي على وجه الخصوص”. وللتطرق لهذا الشأن كان لزاما على الدكتور بن زاكور تعريف معنى السماع إذ هو على حد قوله “كل ما تلتذ به الأذن من صوت حسن وهو أيضا مرادف الغناء”.

الدكتور محمد العزيز بن زاكور
ومُعرّجا على موقف الفقهاء من الغناء، يرى عضو الجمعية التونسية للدراسات الصوفية أن العلماء كان يتمترسون وراء موقف متشدد بل ومعاد للغناء و”فيه الكثير من الغلو في تحريمه”. وقد استند المحاضر في التدليل على هذا الموقف المغالي الى المذاهب الأربعة منطلِقا من كتاب “تلبيس إبليس” للإمام أبو الفرج عبد الرحمان ابن الجوزي البغدادي (توفي سنة 597 هـ ) الذي يذكر فيه صاحبه أن الإمام مالك ابن أنس (توفي سنة 179 هـ ) “قد نهى عن الغناء وعن استماعه” وأن أبا حنيفة النعمان (توفي سنة 150هـ ) “يكره الغناء مع إباحته شرب النبيذ ويجعل سماع الغناء من الذنوب” وكذلك سائر أهل الكوفة. ولفت المحاضر أيضا الى أن أصحاب الإمام الشافعي (توفي سنة 204 هـ ) “ينكرون السماع” فيما ذهب أتباع الإمام أحمد ابن حنبل (توفي سنة 241 هـ ) “إلى عدم قبول شهادة المغني من باب إنكار الغناء”. كما ساق المحاضر في هذا الباب العديد من الاستشهادات ومن أهمّها قوله تعالى “وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (سورة لقمان الآية 6) أو الحديث النبوي المُرْوَى عن البيهقي (توفي سنة 458 هـ) والمُحذّر من مغبّة الغناء ” الغناء ينبت النفاقَ في القلب كما يُنبِت الماءُ البقلَ”.
غير أنّه، وبحسب المحاضر، ظهرت فئة قليلة من العلماء الذين أباحوا الغناء “لما فيه من ترقيق القلوب وتهذيب الأذواق وترويح النفوس لكن بشرط أن لا يكون هذا السماع موقعا في الفاحشة أو مؤدّيا إليها”.
وفي علاقة الغناء بالصّوفية، يرى محمد العزيز بن زاكور أن سالكي هذا المنهج قد تبنّوا موقفا مخالفا تماما للفقهاء والأئمة من حيث تحريم السماع مخيّرين “إباحته” لكن وٍفق شروط معيّنة. واستدل بن زاكور في هذا الشأن إلى كتابات “المتصوّف-الفقيه” الإمام أبوحامد الغزالي (توفي سنة 505 هـ) الذي ساق العديد من الحجج العقلية تُبيح في أكثر من موضعٍ السماعَ. بل أكثر من ذلك، اذ يعتبر المحاضر أن السماع عند الصوفية يحتلّ مكانة هامة وهو “ذو قيمة روحية محورية بناء على ما ترتّب عنه من قرب الى حضرة الحق” مما دعاهم الى تشبيه الغناء بالرّاح الى درجة أن فيهم من قال “السّماع راح تشربه الأرواح بكؤوس الآذان”.
ويرى بن زاكور في هذا التشبيه محاكاة لتشبيه الذِّكر عند الصوفية بالماء والقوت في إشارة إلى حتميّة وجوده في حياة المريد وسالك الطريقة لضمان بقائها وديمومتها وكذا هو السماع “لأنه موظّف لاستحضار الوجد الذي عرفه الغزالي بـ”رفع الحجاب ومشاهدة الرقيب وحضور الفهم وملاحظة الغيب ومحادثة السر”. وعلى ذلك، فمتى كان السماع “صافيا نقيا خاليا ممّا سوى الله يثمر نشوة روحية تسمّى وجدا وهو ما يجده الصوفي في قلبه ممّا كان معدوما عنده”. وهنا يشير بن زاكور إلى أن للسماع عند الغزالي وعند الصوفية عموما “قدرة عجيبة على استخراج كنوز الأسرار الإلاهية من بواطن القلوب”.
متى كان السماع صافيا نقيا خاليا ممّا سوى الله يثمر نشوة روحية تسمّى وجدا
وهو ما يجده المتصوّف في قلبه ممّا كان معدوما عنده
غير أن عند الصوفية أيضا احترازات في ما يتعلّق بإباحة السماع على عمومهم. حيث يرى الدكتور بن زاكور أن بعض الصوفية قد حرّم السماع على العوام ليختص به الزهّاد حيث يقول الإمام أبو القاسم القشيري (توفي سنة 465 هـ) إن “السماع على العوام حرام لبقاء نفوسهم وهو مباح للزهّاد لحصول مجاهدتهم كما أنّه مستحب لاصحابنا (الصوفيّة) لحياة قلوبهم”. وقد استدلّ الباحث أيضا في هذا الباب بشواهد من سجالات سلطان العارفين الإمام جلال الدين الرومي (توفي سنة 672هـ) مع بعض العوام من المتصوّفين المنكرين لصوت الرباب حيث بلغ بالرومي الأمر إلى وصف صوت الرباب بـ”صرير باب الجنة” عند فتحه أما سماعه عند العوام من المتصوّفة إنما هو “صوت الإغلاق”.
وعلى ذلك فيرى بن زاكور أن “سماع الخاصة انطلاقا من هذا الشاهد إنما هو سماع فتح رباني يباشر القلوب بعد الآذان”. أما سماع العامة فيرى المحاضر أن ” نتيجته التواجد وليس الوجد لأن التواجد هو التظاهر بالوجد”.
من الممارسة التعبّديّة إلى الممارسة التكسّبية
في علاقة بمسألة السماع في الطرق الصوفية في تونس، يرى بن زاكور أن هذا السماع “كان موصولا بحلقات الذكر بل كان رديفا لها”. وقد استدل في ذلك الى ما قاله العلامة عبد الرحمان ابن خلدون (توفي سنة 808 هـ) في معرض حديثه عن بعض الزوايا التونسية “كانت وظيفتها لإقامة رسوم الفقراء في التّخلّق بآداب الصّوفيّة السّنّية في مطارحة الأذكار، ونوافل الصّلوات وتهيّئ لروّادها التعرّض للفتوحات الربّانية والأنوار ولذلك لا تكاد تخلوا الزوايا الصوفية من مجالس الذِّكر وحلقات السماع”.
ومن جهة أخرى استعرض المحاضر مراحل تطوّر أشكال السماع الطرقي في تونس عبر تقسيمه الى حقبات زمنية امتدت الى ما قبل الاستقلال وبُعَيْد الاستقلال وفي الوقت الراهن. أمّا ما قبل الاستقلال، فيرى بن زاكور أن في هذه الفترة التي اتسمت بتغلغل الطرق الصوفية في المجتمع التونسي وتحكّمها فيه، فقد “كانت الممارسة الطرقية والانتساب إلى طريقة من الطرق حتمية لا مفر منها وأمرا مفروضا على الخاصة والعامة. وعلى ذلك فقد كان “تَمثل العوام لمفهوم السماع الصوفي يختلف اختلافا جذريا عن تمثل أرباب التصوّف من خاصة القوم وأهل العرفان, بل إنه سيؤول في كثير من الأحيان الى مجرّد متعة موسيقية صرفة وضرب من ضروب تسلية النفس”. واستشهد المحاضر في هذا السياق بمقتطف من كتاب “الأغاني التونسية ” للصادق الرزقي يقول فيه صاحبه عن مجالس الذكر في الزوايا في بدايات القرن العشرين “فصارت في جل أعمالها بعيدة بعدا شاسعا عن ذلك الطريق (الصوفية) بل أصبحت مجتمعاتها عبارة عن مآنس روحية تُلَحّن فيها الألحان المُرْقِصة والمُطرِبة وتنشد فيها الأناشيد العذبة لذلك كان من أمر هورها وسرعة تأثيره ما افتتن به الخاص والعام”. كما ذهب الدكتور بن زاكور الى أبعد من ذلك في قراءته لتجليات الموسيقى الطرقية قبل الاستقلال معتبرا أنها “كانت ضربا من ضروب تجاوز الكبت واشباع لرغبة فنّية مكبوتة جرّاء تشدد الفقهاء في مسألة الموسيقى وذهاب بعضهم الى تحريمها”.
أما السماع الطرقي بعد الاستقلال فاعتبر المحاضر أنه تزامن مع انهيار المؤسسة الطرقية من خلال حلّ الأحباس والزوايا الخاصة والعامّة ومصادرة الزوايا وتغيير وظيفتها حيث أصبح الكثير منها دورا للتعليم ومستوصفات وغيرها حيث “لم يبق من الزوايا التي تمارس نشاطها الطّرقي الصّوفي إلا القليل النادر”. وعلى ذلك فقد اضطرّت بعض الطرق الأخرى كالعيساوية أو السلامية إلى الاندماج “في ما يسمى بالفلكلور الشعبي تحت رعاية بعض اللجان الثقافية للقيام ببعض العروض الفرجوية والخرجات وغيرها”.
وختم الدكتور محمد العزيز بن زاكور مداخلته بالإشارة إلى أن القضاء على المؤسسات الطرقية بعد الاستقلال “لم يمنع هذا الموروث الموسيقي الطرقي التونسي من البقاء والتفاعل مع ألوان موسيقية أخرى”. حيث في الفترة الراهنة وكذلك خلال التسعينات من القرن الماضي أصبحت “الموسيقى الطرقية مصدر إلهام لبعض المبدعين في المجال الفني” لاستنباط وتأثيث عروض موسيقية فرجوية ساهمت في إعادة الروح لهذا التراث الموسيقي من ذلك عرض الخضرة الذي جمع “باقة من الطرق الصوفية مثل السلامية والعيساوية والعزوزية وغيرها” والذي كان أيضا منطلقا لظهور العديد من الأعمال الفرجوية الأخرى كالزيارة أو غيرها.
وعلى ذلك، يخلُص المحاضر الى أن “الموسيقى الطرقية التونسية في الوقت الحاضر متأرجحة بين القليل من الممارسات الصوفية الأصلية التعبّديّة والذوقية والتي غايتها تحقيق الوجد الصوفي وبين الممارسة الفلكلورية الشعبية والعامية والمادية التكسّبية والتي تنأى بها عن مسارها الأصلي”.
الإنشاد في الديانة المسيحية كونيّة التصوّف
ترى الباحثة مريم جاء بالله أن النشيد يعتبر”غناء لكنه يرتبط بالمواضيع التي بها نوع من الالتزام كالنشيد الوطني والاناشيد في الديانة المسيحية وفي الأناجيل وما ورد في العهدين القديم والجديد من التوراة من ان مفهوم النشيد يرتبط بالمقدس”. وبالتالي ترى المحاضرة أن الانشاد الصوفي لا يختلف عن هذا المصدر اذ هو “نشيد يذكر الله في ايقاعية الغناء الذي تنسجم فيه الأشياء بالطبيعة ما يسمح للروح بالانعتاق”.

الاستاذة مريم جاب الله
ومن منطلق دراسة الأبعاد الفلسفية لمفهوم الإنشاد الصوفي أو حتى الإنشاد في الديانة المسيحية أو في أبعاده الكونية يكون ” المخاطب في مُعظَم الأناشيد في خطاب مع ذات الله لتكون المناجاة ويكون الدعاء وتكون العلاقة خاصة وتلتحم بذات الله فتنتفي كل الموجودات وعلاقتها بالدنيا لتحضر فحواها وأصولها ويستدعيها المنشد لتحضر معه عالم الوجود الفعلي والحقيقي ويرتفع للعلو أي إلى العالم العلوي”.
وهذه المقاربة لا تتضارب في شيء مع مقاربة هايدغير للشعر بحسب الباحثة مريم جاب الله “باعتباره انشادا في حضرة المقدس”. ذلك أن مقاربته تعتبر أن الطبيعة الحية التي تكون فيها الموجودات حاضرة بفحواها “اي بما هي، هي في أصولها، هي التي تجعل الطبيعة حية أي الآلهة حية فبوجود الطبيعة توجد الآلهة التي ينادي عليها الشاعر وتحضر في القصيدة”. ففي هذا السياق “الشاعر لا يمتلك القدرة على الوصول بتأمّله الخاص إلى المقدس أو أن يستنفذ جوهره اذ لا سبيل الى أن تنظم الروح الى التناغم الأبدي المقدس إلا عبر الغناء لكن الروح لا تنفذ الى كل غناء فلا يكتمل لها ذلك إلا بالنشيد الذي يصدر بالضرورة عن يقظة الطبيعة”.
الإنشاد الصوفي هو نشيد يذكر الله في ايقاعية الغناء
الذي تنسجم فيه الأشياء بالطبيعة ما يسمح للروح بالانعتاق
وعلى ذلك تخلص المحاضرة الى أن النشيد ينتقل بواسطة الشعراء وهم في ذلك “الواسطة بين الطبيعة والآلهة والمقدّس وشعرهم هو ما يربط الأرض بالسماء”. ولذلك كانت مرتبة الشاعر تضاهي مرتبة المتصوّف”المنشد والتائق إلى ذات المطلق، الله”. وترى جاب الله أن الشاعر والمتصوّف حسب مقاربة هايدغير”هما منشدان في دائرة المقدس” أي وسطاء عبر الغناء والكلام والأصوات والإيقاع بين السماء والأرض.
كما تعتبر عضو جمعية الدراسات الصوفية أن “فكرة الإنشاد في الديانة المسيحية في دائرة الإنشاد والمقدس. ويعتبر الإنشاد والغناء تصويرا لمعاني الوحدة وهي التي يقوم بها السالك ليصل الى الله”.
وفي ختام مداخلتها تخلص مريم جاب الله التي تشبّه رحلة الشاعر مع الغناء والانشاد” برحلة السالك إلى أن “الحب والغناء والكلام تجمع الأديان والطرق في كونيّة التصوّف”.