اتسم اللقاء الفكري الذي نظمته مؤخرا جمعية علوم وتراث بالقلعة الكبرى بالتعاون مع الجمعية التونسية للدراسات الصوفية، حول “الطرق الصوفية وأبعادها الدينية والثقافية والفنية” بدسامة محتواه وثراء مضامينه وتنوّع زواياه فكان لزاما تقسيم تغطيته إلى أجزاء ثلاثة*. حيث تعرضنا في الجزء الأول للمحاضرة الافتتاحية التاريخية التي ألقاها الدكتور توفيق بن عامر عن العوامل التاريخية والثقافية, أما في هذا الجزء الثاني فسننقل فعاليات الجلسة الأولى التي ترأسها بكل تميّز الدكتور عبد الجليل سالم وشارك في تأثيثها كل من الباحثين منتصر عواينية وفتحي طالب وصفاء البطي.

منتصر عواينية
لئن نجح الدكتور توفيق بن عامر في الاستئثار بانتباه الحاضرين من ضيوف جمعية علوم وتراث التي ما فتئت، برئاسة الدكتور فرج الزرلي، تحرّك سواكن المشهد الثقافي وتثريه من خلال التنويع في الأنشطة واختيار الدسم دون السمين والغث منها، فإن بقية المحاضرين لم يكونوا أقل تميّزا. ولعلّها كانت الفرصة لأغلبيتهم وهم من باحثي الدكتوراه في اختصاصات مختلفة لاكتشاف عالم جديد والاحتكاك أكثر فأكثر بالمجال البحثي.
الفلسفة “الكرامتية” والتصوّف الطرقي
في تحليله لأفكار المستشرق الفرنسي إدموند دوتي Edmond Doutté ، يعتبر الباحث التونسي منتصر عواينية ان “الصنيع الانثروبولوجي الاستشراقي الذي مورس على التصوف الطرقي المغاربي من خلال القراءة المتجمدة المعزولة عن السياقين الاجتماعي والتاريخي مهد الطريق لإدخال التصوف في دائرة الخرافة وحصره في الكرامات وبناء خطاب التهويل العجائبي” وهو ما يعكس بحسب المحاضر تمظهر استنتاجات ذات “روح كولونيالية استعمارية وعنصرية” من خلال اعتبار الشعوب المغاربية شعوبا بدائية. من ذلك أن إدموند دوتي “يحترز من الثقافة المغاربية” وهو الذي يعتبر شعوب شمال افريقيا شعوبا بدائية تنقصها الحضارة والتمدن وهي امم متوحشة تتبع الاساطير. واعتبر المحاضر أن هذا المبعوث الكولونيالي (1867-1926) قد بالغ كثيرا في توحيش شعوب شمال افريقيا وترذيلها.
وبحسب عواينية فإن دوتي يعتبر أن أولياء الطرق الصوفية يتمظهرون حسب علم النفس في شكل “مخادعين” (manipulateurs) من خلال إيهام الناس بأن لهم كرامات وقدسيّة وهو ما جعلهم “بفضل قدرتهم الفائقة على فض النزاعات بين الناس” يحظون باحترام لا متناه الى درجة الانصياع التام لقراراتهم الأمر الذي جعل منهم “سياسيين موازين” لكن دون ممارسة للفعل السياسي المباشر.
غير أن الباحث في المعهد العالي للحضارة الاسلامية بتونس، منتصر عواينية، يعيب على دوتي ارجاعه التصوف الطرقي المغاربي الى أصول رومانية بالاضافة الى الروافد المسيحية بل حتى الى روافد وثنية مدعيا ان الطرق الصوفية تعتبر وثنيات جاءت من قبائل جنوب الصحراء قائلا في احدى كتاباته إن “هناك شعوبا بدائية صدرت فلسفة عبادة الإنسان إلى شعوب بدائية أخرى في شمال افريقيا أنتجت في النهاية الطرق الصوفية”.
ولدحض هذه الادعاءات استند الباحث الى قراءة المستشرقة الألمانية آن ماري شيمل (توفيت سنة 2003 ولقبت بـ”منصفة الاسلام”) التي أكدت خلالها أن “أصل التصوّف قرآني” معتبرة أن “هدف متصوّفة الإسلام هو الحقيقة التي تنبني على الميثاق الأول قبل خلق الانسان، حين كان بنو آدم في ظهر آدم قبل خلقه” مستندة في ذلك الى مسألة الميثاق الذي أخذه الله من عباده وذلك من خلال الآية 172 من سورة الأعراف ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ).
وخلص المحاضر في نهاية بحثه الى “ضرورة الاطلاع على الدراسات الأنثروبولوجية المبكرة في سياق التصوف الطرقي والاستفادة منها ونقدها نقدا بناء بهدف ايصال صورة واضحة الملامح للآخر الأوروبي المنفتح على القضايا الروحية في شمال افريقيا”.

فتحي طالب
تصوّف المقاومة
يعتبر الأستاذ فتحي طالب، وهو باحث دكتوراه حول الفلسفة والتصوّف، مستندا الى قراءة للعلامة عبد الرحمان ابن خلدون أن التصوّف لعب منذ نشأته دورا محوريا في الدعوة لاكتساب العلم. فالتصوّف “ليس دروشة منفلتة عن إطارها” وإنّما هو منظومة علمية قائمة على أسس واستراتيجيات واضحة”.
ويرى طالب أن الطرق الصوفية بمختلف تمظهراتها في تونس مثلت نواة صلبة وأساسا قويا لبلورة الفكر التحرري من أجل مقاومة الاستعمار. وعلى عكس ما يعتبره البعض، “ليست مسالك الصوفية تلك الصورة الكسولة التي رسمها الجاهل بالتصوف وقضاياه الكبرى ومساعيه الدينية والوطنية والانسانية ولا التصوف أيضا تلك الفكرة المنبتة عن سياقاتها التاريخية والاجتماعية والروحية”. كما يرى الباحث أن التصوّف يتجاوز مسألة التعبيرات الموسمية والفلكلورية. حيث أن رجال هذا الفكر والطرق كانوا مشغولين بدرجة كبيرة بالقضايا السياسية والاجتماعية التي عايشوها وساهموا ايما مساهمة في مقاومة الاستعمار. غير أن المحاضر أشار الى أن البحوث التاريخية قد تغافلت عن دور هذا الفكر ومساهمته في المسار التحرري.
وقبل الخوض في الدور الذي اضطلعت به الطرق الصوفية في تونس في مكافحة المستعمر عرّج الأستاذ فتحي طالب على طبيعة الطرق الصوفية الموجودة على الأرض وهي طرق تنقسم الى أصلية وفرعية. أما الأصلية فمنها القادرية وهي الأكثر شيوعا في بلادنا، والتيجانية (تنسب الى الشيخ أحمد التيجاني) والخلوتية (تأسست في خراسان في النصف الثاني من القرن الخامس عشر على يد الشيخ عمر الخلواتي الذي عرف بخلوته وقد اندثرت بعد ان تفرّعت منها في تونس بعض الطرق مثل الطريقة الرحمانية ومؤسسها محمد بن عبد الرحمان).
أما الطرق الفرعية فقد اعتبر المحاضر ان معظمها قد تفرع من الطريقة القادرية. ولعل أهم هذه الطرق الفرعية الطريقة الشاذلية المنسوبة إلى أبي الحسن الشاذلي، مغربي الأصل الذي قام بنشرها في بلادنا خلال القرن الثالث عشر ميلادي.
مستعيرا مقولة المفكر والعالم الجزائري البشير الإبراهيمي “لولا الزوايا لما بقي للعربية علم وعلم” عرج الباحث على الجهد الذي بذله رموز التصوف والزوايا في مقاومة الاستعمار من جهة والمحافظة على الهوية الدينية من جهة أخرى. غير الطرق الصوفية لم تكن على قلب رجل واحد في هذا الشأن. اذ اعتبر فتحي طالب بحسب استاذ التاريخ حاتم الضاوي أن رموز الصوفية انقسموا الى اتجاهين على طرفي نقيض، أحدهما مناهض للاستعمار مقاوم له والآخر موال له ومستكين.
وأشار المحاضر اعتمادا على المصدر نفسه أن الطرق الصوفية في فترة الاستعمار الفرنسي كانت “تعتبر أهم تنظيم يتمتع بنفوذ مادي ومعنوي، حيث كانت القوة الوحيدة في تونس القادرة على التصدي لقوات الاحتلال وإعلان الجهاد”.
ويسوق المحاضر هنا مثالا عن الطرق التي كانت “تمثل شوكة في حلق الاستعمار” الطريقة الرحمانية التي كان يمثلها في مرحلة متقدمة من “تسرّبها” الى تونس عبر الجزائر، سيدي علي بن عيسى أحد أبرز مناهضي الدخول الفرنسي إلى تونس.
أما في الجزائر، فيعتبر المحاضر أن للا فاطمة نسومر (توفيت سنة 1863 ميلادي)، وهي شخصية نسائية بارزة انتمت الى الطريقة الرحمانية، كانت من أهم المساهمين في دحر التمدد الاستعماري في الجزائر الى درجة أن الفرنسيين أطلقوا عليها اسم “جان دارك جرجرة” (جرجرة هي منطقة جبلية جزائرية).
غير أن المحاضر يرى في المقابل، بحسب بعض الباحثين من أمثال لطيفة لخضر والتليلي العجيلي، أن بعض الزوايا لعبت أيضا دورا مباشرا في استقدام الاستعمار وتيسير دخوله من ذلك أنه بحسب حاتم الضاوي فقد ساهمت الزاوية القادرية في الكاف دورا مهما في تسهيل عملية دخول الفرنسيين عن طريق عاملها عبد القادر الميزوني.

صفاء البطي
الطريقة التيجانية في تونس
خصّصت الأستاذة صفاء البطي، باحثة متخصّصة في التصوّف وأستاذة بالمعهد الفرنسي بتونس IFT، محاضرتها للحديث عن انتشار الطريقة التيجانية في تونس معتبرة أن هذه الطريقة السنّية تنتسب تاريخيا إلى آل البيت باعتبار أن نسب مؤسسها “سيدي أحمد التيجاني” المولود في الجزائر (المتوفي سنة 1230 هـ) يعود الى آل البيت.
وفي سياق حديثها عن مسار تطور هذه الطريقة عرّجت الباحثة على مسيرة الشيخ التيجاني المعروف بكثرة ترحاله في البلاد الاسلامية حيث ارتحل الى مدينة العلم فاس أين التحق بجامعة القرويين، احدى اقدم الجامعات الاسلامية، اين تلقى العلم عن مشائخها وتلقّى الطريقة القادرية والناصرية والطيبيّة والرحمانية وغيرها.
وكانت تونس، بحسب المحاضرة، إحدى محطات ترحال الشيخ أحمد التيجاني الذي قضى بها مدة سنة كاملة بين سوسة وتونس العاصمة أين قام بتدريس أصول الفقه والأحكام بجامع الزيتونة ومن ثمّ “ذاع صيته حتى وصل الى الباي”. حيث طلب منه هذا الأخير عن طريق مكتوب البقاء في تونس و”الاقامة بها لتدريس العلم والقيام بأمر الدين”. غير أن الشيخ التيجاني وبمجرد قراءة المكتوب المرسل من الباي غادر تونس متجها نحو مدينة فاس اين أقام زاويته “فكانت هذه المدينة داره وقراره ومنطلق طريقته”
وتذكر الباحثة في هذا السياق أن الشيخ التيجاني استقلّ بطريقته الأحمدية التي قال عنها أن “كل الطرائق تدخل تحت دائرة الشاذلي ما عدا طريقتي فإنها مستقلة”. وعلى ذلك تشير الباحثة أن الشيخ التيجاني قد وضع مناهج سلوكية و”قواعد مضبوطة وشروط معتبرة تقوم على تربية النفس وتزكيتها” مما حدا بالعديد من المريدين الانتهاج بمنهجه والانتساب لطريقته بعد أن كانوا ينتسبون الى طرق اخرى.
وفي ذكر مناقب الشيخ أحمد التيجاني قالت المحاضرة مستندة الى ترجمات لسيرته، انه كان يحب التواضع وينصح مريديه بالتمسّك بهذه الخصلة وكان “ينفي العصمة عن شيوخ الصوفية حيث كان الشيخ في نظره انسانا كبقية البشر”. ومن بين شروط انتهاج الطريقة التيجانية التي وضعها الشيخ التيجاني وأسس لها مدرسة “عمادها التربية الروحية والفكرية والاخلاقية والانسانية ” ساهمت في انتشارها بشكل واسع هي “أن يطهّر المريد نفسه من الأخلاق الذميمة كالبغض والعداوة وشتم الآخرين مع ملازمة التواضع في معاملة الناس والاستقامة في السلوك” .
وعَزت الباحثة صفاء البطّي الانتشار الهام الذي عرفته الطريقة التيجانية الى ثلاث عوامل أولها “ملاقاة الشيخ للرسول محمد صلى الله عليه وسلم الذي أملى عليه أوراد هذه الطريقة وخاصة صلاة الفاتح” (هو ورد معروف ومتبع بصفة حصريّة في المغرب العربي). أما العامل الثاني فهو “التبشير بختم الولاية حيث أن التيجاني يعتبر خاتم الأولياء الصالحين” أما العامل الثالث فكان يقتصر على “سهولة مبادئ هذه الطريقة مما يجعلها في متناول الطبقات الاجتماعية المختلفة”.
وبخصوص دخول الطريقة التيجانية الى تونس فترى الباحثة أنه ارتبط بثلاث محطات هامة أولاها تتمثّل في “المصافحة الأولى للشيخ التيجاني مع تونس خلال رحلته إلى الحج والانطباع المميز الذي تركه في الأوساط العلمية والنخب السياسية. أما المحطّة الثانية فتتمثل في زيارة الشيخ علي حرازم (توفي سنة 1214 هـ) الى البلاد التونسية سنة 1797 م وهو “من أخص أصحاب الشيخ التيجاني وكان له الاذن المطلق للقيام مقام شيخه التيجاني في تلقين الطريقة والإرشاد به حيث زار الشيخ حرازم جامع الزيتونة وتعرّف على ابراهيم الرياحي، أحد طلبة أحمد التيجاني، حيث نزل عنده وتوطدت العلاقة بينهما حتى أخذ عنه الطريقة رغم أنه كان من مريدي الطريقة الرحمانية”. أما المرحلة الثالثة فكانت مع لقاء الشيخين التيجاني والرياحي في مدينة فاس اين اخذ الرياحي عن شيخه الطريقة وعاد الى ارض الوطن أين أسّس زاويته سنة 1850 بالمدينة العتيقة بتونس العاصمة وقام بنشر طريقته داخل التراب التونسي.
وخلصت الباحثة في نهاية مداخلتها الى أن دعم الزيتونة كان حاسما في انتشار الطريقة التيجانية بوصفه المؤسسة العلمية لها فيما كانت الزوايا التيجانية تساهم في دعم المؤسسة الزيتونية وانتشار بعض فروعها. هذا فضلا عن الدعم السياسي الذي حظيت به من البايات الذين ربطوا صلات وطيدة مع شيوخها وزواياها حيث كانوا يتبرّكون ويتيمّنون بهم ويستنصحونهم. ولم تغفل الباحثة أيضا عن ذكر الدعامة الشعبية الهامة التي حظيت بها الطريقة التيجانية خصوصا أن عدد مريديها بحسب بعض التقارير الفرنسية الصادرة سنة 1891 تجاوز الأربعين ألف شخصا فيما بلغ عدد زواياها 24 زاوية .
* ننشر الاسبوع القادم الجزء الثالث والأخير