في عمل فني تماهت فيه فنون مختلفة على ركح واحد صدحت أصوات فنانين وفنانات عرب لا لتتغنى بالخيل والليل فحسب بل لتعيد ترميم ما تصدع في الوجدان المشترك.
وفي ثنايا قاعة الأوبرا بمدينة الثقافة تسرب صهيل الخيل وتشكل على هيئة ألحان ضاربة في الموسيقى العربية وموشحة بمسحة اوركسترالية وتشظى الليل وسكن في كلمات أغان خالدة.
“الخيل والليل”، تصور وتأليف الفنان كريم الثليبي، لم يكن استعراضا صوتيا أو تنويعا طربيا، بل تجربة حسّية متكاملة، ترجع الصوت إلى أصله الرمزي، والصورة إلى طيفها الأول، حيث كل الحركات موسيقى والأضواء ذاكرة، والأغنيات أجساد تهرول داخل المعنى.
هذا العمل تأويل فني للذاكرة العربية، محاولة للإصغاء لما بقي عالقا من صهيل الخيل في عتمة الليل، للانصات لكل الحديث الذي لم يقل لكنه سمع بأذن القلب وفاتحة تأمل في معنى الانتماء وفي قدرة الموسيقى على لملمة ما تبعثر من الذاكرة العربية.
العرض الموسيقي البصري الذي اختتم الدورة الخامسة والعشرين من المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون، حالة شعورية تستثير الأمة عبر الصوت والصورة والرمز وتستحث الأصوات النائمة في وجداننا، فتصهل كفرسٍ استيقظت بعد حلم طويل.
متكئًا على رمزين من رموز المخيال العربي الجمعي: الخيل والليل، خلق كريم الثليبي عرضا فنيا كما تخلق القصائد زمن الجفاف ونسج تفاصيله من خيوط الصوت والصورة في تجلياتهما المختلفة.
وفيما يتزين الركح بحضور صاخب لفنانين بخلفيات مختلفة عانق كل منهم آلته الموسيقية وانبرى يناجيها بإيقاع مدروس ضبطه المايسترو راسم دمق، إيقاع يعلو وينخفض على نسق النص الموسيقي الداخلي الذي يتخطى النوتة إلى الحنين.
واحد وعشرون أغنية ومعزوفة تبدت على الركح وظهرت معها قدرات كل العازفين على التماهي مع تفاصيل العرض الحسية والبصرية والتاريخية التي استحضرها كريم الثليبي الحاضر في ارتجافة الأوتار وأنفاس الناي وبوح الإيقاعات ورقصات الضوء، وحركات الأجساد على الركح.
المعزوفات والأغاني التي تنهل من الكلاسيكيات العربية والموروث التونسي وتظهر فيها النغمات الغربية والشرقية والحسانية ليست استحضارا لماضي الأغنية العربية، بل محاولة لقراءته من زاوية حرّة تستدعي الإيقاع القديم وتعيد صياغته.
منذ لحظاته الأولى، يعلن عرض “الخيل والليل” أنه ليس مجرد مراكمة غنائية بل بناء درامي رمزي يستعير من الخيل الحركة المستمرة ويجعل من الليل مساحة وجدانية تعانق كل ما لا يقال .
في الأثناء يبقي الثليبي رمزيتا “الليل” و”الخيل” مفتوحتان على تأويلات متعددة ليتجاوز العرض محاولة محاكاة الذات العربية إلى التفكر فيها، الأمر الذي تجذر من خلال أبيات الشعر التي تقاطعت مع المشهد الموسيقي وكثفت رمزيته.
أبيات الشعر العربي التي ألقاها معز الغربي بصوته الذي يفتح مساحات للتأمل، لم تكن كلمات لملء الفراغ بل كانت جزءا من المجاز المتناثر على الركح.
وبين أغنية وأخرى، تومض الجُمل كمصابيح، توقظ فينا صورا قديمة تلونها موسيقى تخلقها الاوركستر التي تراوح بين الإيقاعات، والتدرجات النغمية، والصمت المدروس لتنقل المتأمل في العرض من مرحلة السماع إلى الانغماس الحسي الشامل.
“الخيل والليل” لايقدم نفسه كعرض عربي بمفهومه السطحي بل عرض يتفكّر في العروبة كمكوّن وجداني هشّ ينكسر ويتجدد فقد تلبست كل الأصوات حالة من الانتماء الفني المفتوح الذي تنتفي معه الجنسيات والحدود.
كل الحناجر في العرض صدحت لتنجو من الصمت ولأنها صادقة في سعيها أطربت، وجال بهاء الدين بن فضل (تونس) بخامته المميزة بين طبقات موسيقية عانقت صهيل الخيل ووقع حوافرها على الرمال وتوسدت القمر في ليل عاتم.
وبصوته الصافي الموشح بعذوبة أخاذة صدح أحمد الرباعي (تونس) وروى بعضا من حكايات الليل والشجن الذي لا يعلن عن نفسه وتقاسمها مع رضوان الأسمر (المغرب) الذي راوح صوته بين القوة والهمس فكان تارة كمن يتحدى العتمة وطورا كمن يخاف أن يوقظ الخيل من نومه.
وأما صوت منى دندني (موريتانيا) فموشوم بطبقات من البُعد، يُحاكي النايات في شجنها دون أن يتكلف الحزن، يُشبه تهويدات الأمهات لأبنائهن أزمنة الحرب وأزمنة السكينة.
فيما حملت كريستيا كساب (لبنان) ، بيروت معها لا في الغناء فحسب بل في نبرة الانعتاق، هي لم تكن تغني، كانت ترسم الحدود الرفيعة بين الشجن والانتشاء وتمنح الأمل نغمات مغايرة.
أما عبد المجيد إبراهيم (السعودية) فقد غنى بصوت لا يصرخ لكنه لا يغادر المستمع إليه ويحوز مقاما مطولا، صوت بدا مأخوذا بشيء لا يرى كأثر النجوم في ليل حجازي.
وفي ما يخص صوت سهى المصري (اليمن) فقد شد الرحال إلى أقصى الحنين ولكنه ظل مشروع مقاومة يتغنى بالماضي ويتطلع إلى مستقبل يغشاه الأمل في الخلاص.
هذه الأصوات التي حكت قصصا عن الليل والخيل مستلهمة من بيت شعر المتنبي “الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم” موغلة في الشعر العربي ومنغمسة في الموسيقى العربية.
على نسق اختيارات فنية منسجمة مع فلسفة العرض الذي يبحث عن الأثر، ارتسم توازن دقيق بين الانضباط والجمالية والتعبيرات التي تشمل بعدا بصريا ارتكز على رمزية الصورة.
عبر خلفيات تظهر فيها مشاهد خيل تركض في فضاء مفتوح، وأخرى لليل يزحف على الأثير تعزز الدلالات الصوتية دون أن تسقط في المباشرتية وتتقمص الأضواء دورا تأويليا تتناغم فيه مع الذروة الموسيقية والانفعال الدرامي لتشكّل لحظات تماه بين الضوء والصوت والجسد.
مزيج بين الرمزية والخيال تبدو فيه الأضواء امتدادا للمعنى، علامات طريق تتغير حسب الانفعال، تشتد وتخفت على وقع الشجن والحنين وتحاكي فيه الألوان الانتقال بين الحلم والثورة.
إصغاء عميق للتفاصيل يفضي إلى سيرورة تعبيرية يشكلها كل عنصر فيمعن في الذاكرة دون استعراض سطحي يتجلى في العمل الذي صاغه كريم الثليبي فكان مركبا وحساسا يراهن على المعنى والجمالية على حد سواء.
“الخيل والليل” اقتراح فني للخلاص يولّد الأسئلة عن المشترك وعن الانتماء وعن معنى أن نكون عربا وسط كل التمزق، عن صياغة وجدان جمعي متحرر من القوالب الضيقة، عن الفن أداة للمقاومة.
الفنانون المشاركون: يشارك في هذا العرض سبعة فنانين من مختلف الأقطار العربية، يجتمعون على ركح واحد لتقديم لوحات غنائية منفردة ومشتركة تعبّر عن تنوّع الألوان الموسيقية ووحدة الإحساس العربي، وهم: رضوان الأسمر / المغرب أحمد الرباعي / تونس منى دندني / موريتانيا كريستيا كساب / لبنان عبد المجيد إبراهيم / المملكة العربية السعودية سهى المصري / اليمن بهاء الدين بن فضل / تونس فريق العمل الفني والتقني: التأليف الموسيقي والتوزيع : كريم ثليبي قائد الاركستر: راسم دمق الشريط الصوتي المرافق : صفوان سلطان زياد شڨواي كورال: مهدي ميموني صوت : سفيان عياري إبراهيم ڨفصية إلقاء الأبيات الشعرية : معز الغربي مدير الانتاج : محمد أمين جراية تنسيق و توضيب : محمد أمين بالمختار صادق الهمامي فريق الاتصال الاعلام : كريمة الوسلاتي أيمن عدولي ظافر الشابي محمد علي المشري فرات العمامي
*الصورة من صفحة مسرح أوبرا تونس