رياليتي أون لاين/ جدة_ تتهاطل زغاريد النساء وتشرق في منتصفها وجعا فيما يحمل الرجال على أعناقهم جثة غاب عنها الرأس الذي توشح بكيس بلاستيكي أسود وسكن إلى ثلاجة عائلة استباح الإرهاب دمها.
مشهد حقيقي يزعزع الكيان على أعتاب دموع أم مكلومة أرسل الإرهابيون رأس ابنها بعد فصله عن جسده، الرأس حمله ابن عمه إلى المنزل والجثة ظلت في الجبل تحرس دماءها المراقة.
هذا المشهد التقطه المخرج لطفي عاشور ونسج منه ملامح فيلمه الروائي الطويل الذراري الحمر على إيقاع سرد بصري يقتفي أثر الدماء التي أسالها الإرهاب ويقطع طريق النسيان إلى الذاكرة الجماعية.
في البدء تتهافت الجماليات والشاعرية على إيقاع التوغل في قلب الطبيعة التي لا تطالها السيقان حيث تتوشح الأرض بالألغام فيها تخلق النباتات من رحم الصخور وتنهمر ضحكات طفلين تتسرب منها أصوات الماشية.
مسارات آسرة تجلت على خطى راعيين توغلا في قلب الجبل يسبران أغواره ويسرقان لحظات فرح بعيدا عن سوداوية الواقع ؛ واقع تشكل على تخوم الهامش حيث لا شيء غير الخصاصة.
رنين ضجيج الطفلين يملأ تجاويف الجبل، وخطاهما توشح النباتات الجبلية وهما يعدوان، وبركة الماء تختزن فرحهما الذي حملاه إلى أعلى قمة حيث أعدا الأرض ليستريحا وأغمضا أعينهم.
فيما ترسم الكاميرا سبيلا ممتدة بين الأرض والسماء وتتشبث الأجساد الصغيرة بالأرض وتتسرب أحلامها إلى السماء، تغازل الشمس الأعين لتتفتح على حقيقة تقطر دما لا يجف بالتقادم.
في لحظة فاصلة بين الموت والحياة ترتجف الجفون وتقف في منزلة بين التحديق والانغلاق في محاولة لطرد الحقيقة المربكة المزعزعة التي ارتسمت معها جراح الإرهاب التي أدمت تونس في مرحلة ما.
طفولة تواجه الإرهاب وتنتقل بسرعة غير قابلة للقياس من مرحلة اللعب والطرب إلى مرحلة الجد والوجع على إيقاع وحشية إرهابيين نووا منذ البدء إراقة الدماء ليخطوا رسائل ترهيب للعائلات القريبة من جحورهم وإلى السلطات.
“أشرف” و”نزار” الراعيان اللذان يعيدان صياغة المأساة على إيقاع نسق درامي يراود الذاكرة والمشاعر ويستحضر سنوات مثقلة بالأحداث الموجعة وتتهافت التفاصيل الموجعة دفعة واحدة حتى تختنق.
قطع رأس الراعي مبروك السلطاني من قبل الإرهابيين في جبل المغيلة وإيكال مهمة إيصاله إلى عائلته لابن عمه الذي كان يرافقه، حدث موشوم في ذاكرة التونسيين يحاكم الإرهاب ويسائل الدولة.
تاريخ الثالث عشر من نوفمبر سنة خمسة عشر وألفين لن يسقط من ثقوب الذاكرة ولن تغادرها صورة رأس الراعية التي تداولتها الصحافة وهي في قلب الكيس البلاستيكي داخل ثلاجة تروي الفقر والتهميش.
فيما تتواتر الأحداث على نسق نص مكتوب بشاعرية وحس مرهف يطغى عليه الوجع، تحاول بعض الابتسامات عبثا الصمود في وجه سوريالية المشاهد التي يتعطل معها المنطق.
حينما يسكت المنطق يمكن أن يكون الخيال ملاذا وهو ما تجلى في السيناريو الذي تضمن بعض المشاهد التي يستجير فيها “أشرف” بمخيلته محاولا تجاوز مشهد الذبح وحالة النكران التي لازمته طويلا.
هذا الحيز من الخيال لا ينسحب على شخصيات الفيلم فحسب بل يمتد إلى كل من عايش الفعل الإرهابي فلا شيء يمكن أن يجمعنا بضحاياه سوى الخيال الذي يمكن أن يحمل بعضا من بوحهم.
وطيلة الفيلم تراود الأحداث المخيلة وتراوغها، تصعد بها إلى الأعلى وتنحدر إلى هوة ساحقة، فيترنح الحدس حينما تمكنت الكاميرا من لعبة الموت وهي تستنطق الدماء التي خضبت وجه الجبل وتسربت إلى باطنه.
تتناثر الصور البديعة على جنبات المنطقة العسكرية المغلقة التي تطرز مخلفات الحرب من ألغام ثناياها، وتعانق مظاهر البؤس في الوجوه والطرقات والحيطان والأسقف التي لا تؤمن من خوف.
وتعلو الموسيقى لتعاضد صرخات الخوف والقهر وتتحد مع عناصر الطبيعية لتخلق جمالية صوتية تحكي قصصا كثيرة حينما يسكت الكلام وتغدو كل كلمات العالم بلا معنى لما تتخلى السلطات عن مسؤولياتها.
فالراعي قتل مرتين، الأولى حينما قرر الإرهابيون أن يكون رسالتهم للآخرين أهال وسلطة، والثانية حينما تخلت عنه السلطة وتركت جثته في العراء حتى وجدتها العائلة في مشهدية خانقة.
وجع على الوجع رواه الفيلم في كل عناصره على لسان شخصيتي “أشرف” (علي هلالي) و”نزار” (ياسين سمعوني) اختار لهما المخرج ممثلين بلا تجربة سينمائية ولكن تجربتهما الإنسانية المطرزة بتفاصيل المكان وكل ما يحمله من القصص جعلتهما يتماهيان مع السرد البصري.
عند القمة يفترق الثنائي بعد أن التقى جسد “نزار” برأسه وواجه “أشرف” ذكرى الصدمة قبل أن تطل ذيولها لتحمله إلى دروب أخرى وهو يلاحق ابتسامة “رحمة” (وداد الدبابي) التي حملت من اسمها الكثير طيلة الفيلم رغم الوجع الذي لفظته دفعة واحد في المشهد الختامي.
ياسين سمعوني وعلي هلالي ووداد الدبابي ثلاثة ممثلين تم اختيارهم إثر ورشات تدريب على الأداء ضمت حوالي خمسمائة مراهق من الجنوب والشمال الغربي، وهو كاستينغ يحسب للفيلم إذ بدا الثلاثي غير غريب عن بيئة الفيلم متجذرا في تفاصيلها.
ملامح الشخصيات كانت كفيلة بإخراج بعض المشاهد من مساحتها الروائية إلى مساحات تحاكي الوثائقيات في التقاطها للواقعية في التفاصيل والعلاقة بين الشخصيات والمكان وسيرورة الأحداث خاصة وأنها مرت من ذاكرة التونسيين والتونسيات ذات إرهاب.
الجمعي لعماري، لطيفة القفصي، صالحة النصراوي، يونس نوّار، ريان القروي، منير الخزري، نور الدين الهمامي ممثلون شاركوا في الفيلم وترجمت وجوههم معاناة الهامش من الإرهاب والتمييز غير الإجابي من قبل الدولة.
وإن ترك لنا الفيلم هوامش من الحرية للتعبير عن السخط واللوعة كل على طريقته، إذ أنه لم يفرج عن كل وجع الشخصيات التي احتفظت بالكثير لها إلا أنه أعطى أحد مشاهد الفرح التي توثق لبعض عادات الزواج في المناطق الداخلية حيزا واسعا في شريط الذكريات.
حتى لا ننسى رأس مبروك وحُرقة والدته زعرة السلطاني التي فقدت ابنها الثاني “خليفة” على يد الإرهابيين أنفسهم سنة سبعة عشر وألفين قبل أن تغادر هذا العالم سنة عشرين وألفين دون أن تكتمل ملامح الحقيقة، سيظل فيلم الذراري الحمر للطفي عاشور يذكرنا بهذه التراجيديا.
فيلم "الذراري الحمر" الممثلون : علي الهلالي، ياسين سمعوني، وداد الدبابي، يونس النوار، لطيفة قفصي، صالحة النصراوي، جمعي لعماري، منير الخزري، نور الدين الهمامي، آية بوترعة، ريان القروي الإخراج: لطفي عاشور ️ السيناريو: ناتاشا دي بونشارا، بالاشتراك مع درية عاشور، سيلفان كاتينوي، ولطفي عاشور الموسيقى الأصلية: جوهر باسطي، فينسلاس كاتز المستشارة الفنية: أنيسة داود مساعد الإخراج: عاطف جلاصي، حسام سلولي، عزة عنابي، زينب فلاح، درة شارني بوصلاح الكاستينج: غسان رقيوي، مراد لصرام، سيف شيدا المنتجين: أنيسة داود، سيباستيان هوسينو، لطفي عاشور الإضاءة: حبيب بن سالم الصوت: أيمن العبيدي الديكورات: محمد موحلي