استقبل فضاء مكتبة يحي ابن عمر بسوسة صباح اليوم الأحد 29 ديسمبر عددا هاما من مفكري واعلاميي جهة الساحل بالإضافة إلى ناشطين بالمجتمع المدني للتباحث حول موضوع “الصحافة المكتوبة بجهة الساحل بين الأمس واليوم”.
وقد كان هذا اللقاء المُنتظِمِ ببادرة من جمعيّة الاتحاد الثقافي بسوسة بالتعاون مع جمعية علوم و تراث بالقلعة الكبرى فرصة للحاضرين للاطلاع على جوانب تاريخية وتجارب مهنيّة مختلفة في مجال الإعلام الجهوي بمنطقة الساحل على العموم بمدينة سوسة بوجه خاص.
لمحة تاريخية عن الصحف في سوسة
في مستهل حديثه عن تاريخ الصحافة المكتوبة بمدينة سوسة خلال الحقبة الاستعمارية اعتبر عادل بن يوسف، أستاذ التعليم العالي ومنتج برنامج “شهادات حية بإذاعة المنستير، أن “الحقبة الذهبية للصحافة في تونس امتدّت طيلة سنوات الثلاثينات” حيث ساهم اصدار قانون الغاء الضمان المالي من قبل السلطات الاستعمارية في بداية انتشار الصحف الجهوية التي أسسها المعمّرون أنفسهم. وأشار المتدخّل الى صدور أول صحيفة جهوية في باجة سنة 1883 وهي صحيفة La Medjreda ثم صحيفة “سوق الاربعاء” باللغة الفرنسية (1888) و”L’avenir de Sousse” (أفريل 1888).
وبحسب عادل بن يوسف فقد كانت الصحافة الجهوية التي شهدت طفرة كبيرة في تلك الفترة تهتم أساسا بنقل أخبارَ تتعلق بحياة المعمّرين وأنشطتهم أو إنشاء إدارات أو الإعلام بتقديرات عن الموسم الفلاحي وغيرها من المواضيع التي تلامس مصالح الناس حتى تصل أصداء هذه الأخبار إلى المقيم العام الفرنسي ويتفاعل معها.
وفي علاقة بالصحف الصادرة بمدينة سوسة، أحصى الباحث 25 مجلة وصحيفة صادرة جلها باللغة الفرنسية باستثناء واحدة باللغة العربية واسمها “صدى الساحل” وكانت قريبة من الحزب الدستوري وأخرى تصدر باللغة العبرية وكان اسمها “L’Etoile” (نسبة الى نجمة داوود) “حيث كانت توزع على اليهود في جميع أنحاء الإيالة التونسية”.
وتضم قائمة الصحف الصادرة في سوسة بحسب المؤرخ وعضو جمعية الاتحاد الثقافي بسوسة، عادل بن يوسف، صحف تختلف من حيث دوريتها وعدد صفحاتها مثل صحيفة “L’Avenir de Sousse” وهي أسبوعية وصحيفة Le” Sahel” وصحيفة “Le Progrès du Centre” وهي صحيفة اخبارية يومية تتكون من 4 صفحات وصحيفة “Le Progrès du Sud” وصحيفة “L’Avenir du Centre” , وهي صحيفة ذات توجه اشتراكي وصحيفة ” Le Moniteur du Sahel” وصحيفة “Le journal de Monastir” وهي صادرة في المنستير لكن تطبع في سوسة وغيرها من الصحف.
واعتبر بن يوسف أن هذه الصحف الصادرة في ولاية سوسة اهتمت بمواضيع عديدة منها الاقتصادية والسياسية وحتى الهزلية كما هو الشأن مع الصحيفة الايطالية ” Sicotto” التي تأسست سنة 1936 بمدينة سوسة.
تجارب متنوّعة…
في سرد تجربة “مجلة القلعة” التي تأسست بمدينة القلعة الكبرى سنة 1965، اعتبر مدير هذه الدورية محمد علي بن عامر أن غياب الدعم المادي كان أهم سبب ساهم في توقف صدور هذا الصرح الإعلامي الذي كان وراء انشائه مجموعة من المربين وعلى رأسهم المربّي وناس بن عامر. وأشار المتدخّل إلى أن إصدار هذه المجلة كان بإمكانيات ذاتية وتحت إشراف الجمعية الجهوية الثقافية. كما أن كل المحررين كانوا عصاميي التكوين وكان يدفعهم الغيرة على الشأن الفكري والثقافي ومن بينهم محمد بوفارس عميد المراسلين الذي تعاون مع العديد من الصحف الصادرة في العاصمة.
وفي ختام مداخلته لم يستبعد محمد علي بن عامر فرضية اعادة إصدار “مجلة القلعة” على شرط انخراط أصحاب رؤوس الأموال في الجهة في دعم العمل الثقافي ودعم هذه الفكرة.
من جانبه قدّم مدير ورئيس تحرير أخبار الساحل، حسن بن علي، عرضا لمجموعة من الصور وبعض المعطيات الخاصة بمجلتي “الرباط” و”حضرموت”. وعن مجلة “الرباط” قال بن علي إن تأسيسها سنة 1985 كان ببادرة من محمّد بن زينب وهي مجلة أسبوعية صدر عددها الأول يوم 8 فيفري 1985. وأشار بن علي الى أن هذه المجلة “لم تكن منتظمة الصدور بسبب الصعوبات المادية وعدم تجاوب أصحاب المؤسسات الاقتصادية الخاصة مع الإعلام الجهوي”.
وفي معرض حديثه عن مجلة “حضرموت” الصادرة في جوان 1995 ببادرة من عبد القادر عمار الصغير، أشار حسن بن علي، المدير التنفيذي لجمعية علوم وتراث، أنه تولى ادارة هذه المجلة من شهر ديسمبر 2007 الى غاية شهر ديسمبر 2010 ونجح في إصدار 36 عددا في حين أن هيئة التحرير السابقة لم تتمكن طيلة 12 سنة من اصدار سوى 50 عددا بالنظر الى دوريتها (تصدر مرة كل شهرين) وهو ما يترجم الجهد الكبير الذي تم بذله من أجل الحفاظ على ديمومة دورية الصدور كسمة من سمات مصداقية أي صحيفة.
ويرى حسن بن علي أن اسرة التحرير حرصت في تلك الفترة على التنويع في المضامين من خلال مواكبة الأحداث المحلية والجهوية والوطنية والدولية على مختلف الاصعدة والمجالات كما تم تخصيص أركان قارة للعديد من الكتاب والشعراء من ذوي الشأن في الإنتاج الفكري مثل الناصر مطير والمرحوم أحمد الحذيري والبشير عبيد ومحمد بوفارس وغيرهم. ولم يفت بن علي الحديث عن تجربته مع صحيفة “الجوهرة الفنية” التي تاسست سنة 1986 من قبل عادل خذر.
أما الكاتب والباحث في التاريخ الحديث ومراسل سابق لجريدة الصباح، جعفر الأكحل، فقد عاد على تجربة مجلتي “السّواحل” و”الميثاق”. حيث أسس المجلة الأولى سنة 1968 واستلهم الاسم من اقتراح لمنصور الصخيري. وعرج المتحدث ايضا على الصعوبات المادية التي لطالما اعترضت الصحيفة وكذلك على الضّغوطات التي كانت تتلقاها احيانا من السلطة معتبرا أن “صدور كل عدد هو بمثابة المخاض الذي ينتهي بإحساس جميل بالمتعة بولادة عدد جديد”.
كما لم يفت جعفر الأكحل التعريج على تجربته مع أحد رواد الفكر والإعلام بالجهة عبد الحفيظ بوراوي الذي يعتبره “معلما” وكذلك عمّار فرحات وسالم بن عافية.
أما الإعلامي علي بن عمر فقد خصص مداخلته للحديث عن تجربة مكتبي “دار الأنوار” و”دار الصباح” في سوسة حيث عرّج على الدور الكبير الذي لعبه مؤسس دار الأنوار صلاح الدين العامري في ترسيخ مفهوم “الإعلام التجاري” من حيث أنه سعى الى بعث شبكة كبيرة من المراسلين في جميع أنحاء الجمهورية وارسى استراتيجية ناجحة للإشهار، وقد ساهمت هذه التجربة في منح المتحدث فرصة لإجراء العديد من الحوارات مع شخصيات كبرى أعطت بعدا أكبر للصفحات الجهوية في الصحيفة.
أما عن تجربة دار الصباح فيقول بن عمر أنها لم تكن ثرية كما هو الشأن مع تجربته في دار الأنوار مشيرا الى أن الصحافة الورقية اليوم “في طريقها الى الاندثار لما تواجهه من صعوبات مادية كبيرة وهو ما حدا بالعديد من الصحف العالمية الى وضع حد لتجربتها”، وبالتالي لم يعد حريّا بالجميع الحديث عن الصحافة الجهوية المكتوبة. رأي خالفه فيه بشدة رئيس الجلسة محمد بن سعد الذي اعتبر أن الصحافة الورقية تبقى دائما أهم المراجع التي يٌعتد بها ويُستأنس إليها لسهولة حفظها.
عبد الجليل الباهي : الصحفي والمناضل ورجل السينما
في مداخلة خُصِّصت للحديث عن تجربة الأستاذ عبد الجليل الباهي، اعتبر الصحراوي قمعون رئيس تحرير سابق لجريدة الصحافة، أن الباهي هو أحد أهم روّاد الصحافة الجهوية في سوسة واحد اقطاب الصحافة المستقلة في تونس حيث كان له شغف كبير بالصحافة دفعه الى بعث جريدة “Le Phare” في الثمانينات من القرن الماضي. وقد ساهم عبد الجليل الباهي ” في تأثيث المشهد الصحفي الجهوي والوطني في أول تجربة تعددية صحفية وسياسية حزبية معارضة في تونس منذ الاستقلال بعد عقدين من حكم الحزب الواحد والصحافة الحكومية السائدة”.
وعلاقة الباهي بمجال الإعلام متينة حيث أنه كان مخرجا سينمائيا وتلفزيا وموسيقارا وله في رصيده العديد من الأعمال في هذه المجالات. وأشار الصحراوي قمعون أن الباهي قد التحق بعالم الصحافة بهدف “تكريس الاستقلالية في المشهد الصحفي آنذاك” وذلك عبر أعمدة الجريدة التي “أصدرها في البداية في سوسة ثم انتقل بها إلى تونس ليجعل منها أبرز العناوين لصحافة مستقلة ذات إشعاع وطني “.
وأشار الصحراوي قمعون الى أن عبد الجليل الباهي “قد نشر بين سنتي 1960 و1970 عددا كبيرا من المقالات الصحفي في العديد من الصحف وخاصة Tunis Hebdo لصاحبها امحمّد بن يوسف” حيث تواصلت تلك التجربة الى حدود 1980 تاريخ انشاء Le Phare. وأشار قمعون صاحب كتاب “يوميات صحفي” الصادر سنة 2023 والذي خصص فيه فصلا لهذا العلم في المجال الصحفي أن الباهي قد تميز بافتتاحيته الدقيقة والرشيقة بفضل إتقانه وتمكّنه من اللغة الفرنسية.
وأوضح قمعون أن صدور المجلة كان بصفة منتظمة إلى حدود 1988 حيث تعرّضت للايقاف في أربع مناسبات قبل أن تختفي نهائيا كما أحيل مديرها على المحاكمة ثلاث مرات.
ويعتبر عبد الجليل الباهي الذي توفي سنة 1993 عن سن تناهز 63 سنة، أحد رموز النضال الوطني من خلال مساهماته في مقاومة الاستعمار عبر نشاطاته السياسية والجمعياتية المتنوعة. كما كانت بداية نشاطاته النضالية في سنوات الدراسة الأولى قبل أن يطرد من المعهد بسبب تنظيم أول إضراب لتلاميذ معهد سوسة زمن الاستعمار. غير أن الباهي عبد الجليل تمكن لاحقا من السفر الى فرنسا بعد فراره من حكم بالسجن اين واصل دراسته وتحصّل على الباكلوريا دون ان ينقطع عن العمل الطلابي والانخراط في حركة التحرير الوطني. واستطاع الباهي بحسب الصحراوي قمعون، صاحب كتاب “قرن ونصف من الصحافة في تونس ” الصادر عام 2022، أن يرتقي الى مناصب عليا حيث تم تعيينه سنة 1956 ملحقا ثقافيا لسفارة تونس بباريس، قبل أن يواصل دراساته العليا التي توّجها بإجازة في الآداب من جامعة السوربون ثم ديبلوم معهد الدراسات العليا للسينما وشهادة الدراسات العليا في الآداب والفلسفة الفرنسية. كما تحصل الباهي سنة 1993 على شهادة المرحلة الثالثة في السينما من جامعة السوربون وعمل بعد ذلك في مجال اختصاصه في التلفزة التونسية التي أنتج وأخرج فيها العديد من الأعمال التلفزية والسينمائية والوثائقيات في مجالات متنوعة.
فرج شوشان في البال
حرص منظمو هذا اللقاء الذي افتتح بكلمة ترحيبية تلتها رئيسة جمعية الاتحاد الثقافي بسوسة نفيسة بن سوسية، على تخصيص فقرة لتكريم فقيد الساحة الثقافية والإعلامية، المنتج التلفزي القدير وابن مدينة القلعة الكبرى، فرج شوشان. وقد تولت الأستاذة أحلام غزيل، عضو جمعية علوم وتراث، تقديم لمحة عن السيرة الذاتية لهذا المخرج الفذّ الذي أنجز حوالي 500 ساعة تلفزية في مختلف أصناف الإنتاج التلفزي من مقابلات وندوات وعمل درامي ووثائقيات وغيرها. كما كان الفقيد رمزا من رموز الساحة المسرحية حيث ألف مسرحيات “حكم سليمان” ومجنون غرناطة” و”واد” وترجم العديد من المسرحيات وألف كتاب “الى تونس”.
ولعل أشهر مساهماته في هذا المجال هو جمعه للأعمال المسرحية الكاملة لسمير العيادي. وقد تميز مسار فرج شوشان بالعديد من التتويجات والتكريمات من ذلك أوسكار القناة الوطنية الفرنسية الثانية (1975) وجائزة الفيلم الوثائقي الأفريقي بداكار (1982) وغيرها.