“بعد السماء الأخيرة”، الألبوم الجديد للفنان أنور براهم الذي يواصل فيه السمو بموسيقاه لتتجاوز حدود الحس والخيال بينما تتجلى كلمات الشاعر الفلسطيني محمود درويش “إلى أين يجب أن تطير الطيور، بعد السماء الأخيرة”؟
بعد ثماني سنوات من ألبوم “Blue Maqams” ، يستلهم براهم مشروعا جديدا معمدا بالحرية والمقاومة والذكريات العابرة للزمان والمكان على إيقاع نغمات العود والتشيلو والبيانو والكونتروباص.
في الأنماط التقليدية للموسيقى العربية يوغل أنور براهم ويخلق أجنحة وهو يتفاعل مع العوالم التي يلامسها لتلتقي ثقافات مختلفة عند أوتار عوده.
“إلى أين نذهبُ بعد الحدود الأخيرة؟/ أين تطير العصافير بعد السماء الأخيرة؟/ أين تنام النباتات بعد الهواء الأخير؟” أسئلة لا تتزحلق من مكانها استمد منها إدوارد سعيد عنوان كتابه “ما بعد السماء الأخيرة : حيوات فلسطينية”.
لحظة شاعرية مشحونة بالنضال من أجل الأرض والحرية تحولت إلى تساؤل ميتافيزيقي النقطه أنور براهم في ألبومه الجديد حيث تصمد شجرة الزيتون ويقاوم برتقال يافا وتتناثر تأملات إدوارد سعيد وتبتسم ظلال العيون التواقة للحرية وترقص النيازك في ثنايا الحياة اللامتناهية.
عبر هذا الألبوم الذي تتخذ فيه عناوين المقطوعات شاكلة المسارات التي تنغمس في الأدب والواقع وتروي الملحمة الفلسطينية المستمرة من زوايا مختلفة شكلتها الموسيقى التي ركن إليها براهم للترجمة انشغاله بمأساة الإنسان الفلسطيني تحت الاحتلال الصهيوني.
عمل جديد يجمع براهم مع عازف البيانو دجانغو باتس وعازف الكونترباص دايف هولاند الذي شهد معه ولادات فنية منذ ما يزيد عن عقدين من الزمن لتلتحق بهم عازفة التشيلو أنيا لاشنر.
وعن دايف هولاند يقول أنور براهم إن عزفه يمنحه أجنحة وهو شعور يتكرر ويغمره خلال التسجيل، فيما يمثل البيانو الءي يداعب جانغو بيتس مفاتيحه قوة داعمة في مشروع “بعد السماء الأخيرة”
ويأتي التشيلو ليضفي صوتا جديدا على موسيقى مجموعة أنور براهم ليفتتح الألبوم ويختتمه بأنامل أنيا لاشنر التي تشبعت بمؤلفات أنور براهم واستوعبت اسلوبه على اعتبار أنها تدرجها في حفلاتها الخاصة.
حوارات الموسيقين مع آلاتهم تماهت مع السياق الأدبي لعبارة “بعد السماء الأخيرة” وإسقاطاتها على الواقع الراهن لتخلق مشهدية تتسرب معها أسئلة كثيرة في خضم الظلم والقهر والعجز أمام ما يعيشه الفلسطينيون اليوم.
حكايات البشر والحجر تراكمت في ثنايا الموسيقى وأمعنت في اختراق الروح واستنطاقها فيما تخفف أطياف الزيتون الصامد أمام الدبابات وحبات برتقال يافا وطأة الوجع وتنبئ بزوال الجور.
على اختلافات آلاتهم وثقافاتهم وتجاربهم يبدي الرباعي انسجاما تتشكل معه عوالم مختلفة تؤوي تأويلات واحتمالات تمتد على سنين المقاومة ضد المحتل الصهيوني وعلى كل مساحات الحرية التي تحاول الشعوب خلقها.
وعلى إيقاع الموسيقى التي تنهل من الروح التونسية والعربية وتوجد نقاط وصل مع موسيقى العالم، يتجلى الجنون العذب والثورة والتحرر وتتناثر قضايا الإنسان أنى كان، ويتبدى الحب في كل تجلياته.
ما أقدر هذه الموسيقى على إعادة ترتيب الفوضى في داخلنا، وتضميد جراحنا ومواساتنا، إنها تهمس في آذاننا ألا شيء يستحق كل العناء وأن الطريق إلى السلام الداخلي واضحة وجلية.
آهات العشق وانات الشوق وأنفاس الفرح تخترق كل الخلايا والمسام وتتهاطل الصور في ذهنك، تسري بك إلى أكثر من بلد وتعرج إلى أكثر من زمان، أية تعويذات تحملها هذه الألحان حتى يعم كل هذا السحر؟
تغمرك النوتات، تغمض عينيك، تعم النشوة داخلك وينتابك هدوء غير مسبوق يتزين معه الكون وتمتلئ الرؤية وضوحا وألوانا وتتحرك أبواب الأمل متحدية السوداوية على أعتاب التعبيرات الموسيقية التي يجتمع عندها كل العالم.
تجربة حسية ووجودية، يتماهى فيها الإنساني والوجودي والفكري في ألبوم “بعد السماء الأخيرة” على إيقاع معزوفات تكسر الأغلال والقيود وتروي قصصا موغلة في الحياة، في المقاومة، في الوجود …
كل موسيقات العالم اجتمعت في أوتار عود أنور براهم، وكل الحكايات الموشحة بالشغف تسللت من هيكله وتحولت إلى طاقة تزداد قوة وسحرا بمعاضدة رفاقه إذ غازلوا آلاتهم الموسيقية وبثوا من أرواحهم.
شعرية وشاعرية معمّدة بموسيقى الجاز، اختيارات متفردة تتبوأ فيها الموسيقى الشرق أوسطية والمغاربية مكانة، ممارسة موسيقية تحاكي العلاج، حيز للتشافي والتحرر على إيقاع موسيقى دقيقة غامضة ورقيقة تجمع الشجن والحنين والعنف والوداعة.