هل جربت أن تكون أنثى وذكرا في الآن نفسه؟ هل خبرت معنى أن يحمل جسدك خصائص أنثوية وذكورية في الوقت ذاته؟ هل عشت شعور التأرجح بين جنسين وحُبين واختيارين؟ قطعا لن تخبر هذه الأحاسيس مادامت يد الذات الإلهية لم تترك فيك “عيبا” خلقيا يزعزع سلامك الداخلي.
ولكن إن أردت أن تستشعر بعضا من معاناة أولئك الذين يطال الاضطراب تطورهم الجنسي فيقفون في مفترق طرق بين الذكورة والأنوثة فلاهم بنساء ولا هم برجال يتيح لك فيلم “الما بين” للمخرجة ندى المازني حفيظ أن تغوص في دواخل شخصية “شمس” ثنائية الجنس.
“شمس” خياطة شابة تؤوي سرها بين ضلوعها وتخفيه عن أعين الكل حتى تأمن ألسنتهم التي تغدو سياطا ورصاصات تخترق جسدها المحمل بحكايات مزدوجة، تختبئ خلف الأقمشة التي تحيكها لحريفاتها وخلف سراويلها الفضفاضة وقمصانها الطويلة.
في منطقة وسطى مستعرة بأحكام العائلة والمجتمع وبالصراع الذي يتعاظم داخلها تقف “شمس” وتضيء خيباتها من حولها وتتشبث ببذرة أمل تجلت وسط العتمة وحينما اقتفت أثرها تلاشت وصارت سرابا وانفض كل شيء من حوله.
هذه الفتاة التي اختارت لها والدتها من الأسماء “شمس” كان تحترق في عمقها وكان نورها يجذب إليها كل مظاهر قسوة المجتمع وجهله في التعاطي مع المسائل التي تخص الهوية الجنسية للفرد لينتهي بها المطاف دوما عند مجرى الدموع.
حتى خالها “حبيب” الذي اصطفته ملاذا آمنا وأطلقت العنان للأنثى داخلها وهي في حضنه لم يكن سوى انعكاس لمجتمع لا يلقي بالا إلى جوهر الامور بقدر تعلقه بالسفاسف ومنعرجا في حياتها المتقلبة كثيرا كتقلبها بين الشعور بكونها رجلا وبكونها امرأة.
نبذ الاختلاف والنفور من الآخر، الوصم والنظرة الدونية بعض المسائل التي أثارها فيلم “الما بين” وهو ينغمس في معاناة ثنائيي الجنس الذين يخوصون الحرب داخلهم منذ أن يعوا وضعهم ثم داخل العائلة فالمجتمع لتتحول حيواتهم إلى سجال مفتوح ودوامة من العنف في تجلياته المختلفة.
مسائل أخرى طرحها الفيلم على غرار البطالة والهجرة غير النظامية والاستغلال الجنسي والمشاكل الزوجية والفساد في أشكال مختلفة، تمظهرات قبيحة لمجتمع تنخره العلل تتبدى في ثناياها جمالية التصوف الذي مثل الملاذ الوحيد الذي آوى كل المختلفين وآمنهم من الوصم.
هذه الجمالية تجلت أيضا في الصورة التي أوجدها مدير التصوير محمد المغراوي الذي اقتفى أثر ضوء “شمس” على الأرض وفي السماء وفي عمق البحر وفي تعبيرات الوجوه وحديث العيون وتفاصيل الأجساد على إيقاع موسيقى من مدونات مختلفة تحاكي صراعات الشخصية مغ نفسها ومع الآخر.
جمالية تتبدى في الصورة والموسيقى وفي مواقف درامية يظهر فيها صراع الشخصية الداخلي في ذروته بأسلوب إخراجي يقوم على نسق غير خطي يراوح بين الفضاءات المغلقة والمفتوحة في انعكاس لما تعيشه الشخصية من كبت وانفجار يحضران دون إيذان.
وإن نجحت المخرجة في رسم ملامح معاناة ثنائيي الجنس إلا أنها أفلتت إبرة التطريز من يدها لتسقط بعض التفاصيل التي تبدو مهمة في سياق التراجيديا التي تعيشها “شمس” كما أن بعض المشاهد وبعض الجمل تبدو في غير محلها بل ومسقطة أحيانا.
وبعض الملاحظات التي تتعلق السيناريو والحوار لا تنفي أهمية الموضوع وجمالية الطرح الذي رجح كفة البساطة ليصل مداه الجمهور الواسع كما أنها لا تؤثر على النسق الدرامي للفيلم لكنها تقطع انغماسك في تفاصيله أحيانا.
وأكثر اللحظات التي تقحمك في الفيلم هي تلك التي يبلغ فيها الصراع الداخلي لشمس ذروته وتقف مشدوهة بين الذكر والأنثى داخلها وحتى اسمها يخونها ولا يرشدها لأي اختيار، مشاهد أجادت أمينة بن اسماعيل تجسيدها دون مبالغة في الأداء أو تكلف.
طيلة الفيلم بدت الممثلة أمينة بن اسماعيل التي تؤدي دور شمس بعفوية غير متصنعة منسجمة مع الكاميرا حتى بدت المشاهد في بعص الأحيان وكأنها مقتطفة من وثائقي يرصد حياتها في الواقع لفرط تماهيها مع تفاصيل الشخصية.
على إيقاع ثنائية الجنس تأرجحت وأفلحت في محاكاة البناء السيكودرامي للشخصية وأقحمت المشاهد في تفاصيل معاناتها النفسية وهي تراوح وتتنقل بسلاسة بين الأحاسيس التي تستدرها الأنوثة والأخرى التي تستدرها الذكورة.
ملامحها ناعمة بمسحة من البراءة تعلو محياها تشدك إلى أدائها في تخبطها وتذبذبها وفي لحظات الاختيار والقرارات الواهية التي تذوي عند أول منعرج تماما كما يشدك محمد مراد في شخصية حبيب إذ بدا مختلفا ومقنعا في تقمصه.
شخصية حبيب شخصية بعيدة عن الشخصيات التي أداها محمد مراد سابقا سواء في المسلسلات أو الأفلام، شخصية تجمع بين النعومة والقسوة وبين ثقافة الحوار وثقافة العنف وبين قبول الآخر المختلف والنفور منه.
ويبدو أداء بقية الممثلين لافتا بدرجات متفاوتة مع غياب واضح لإدارة الممثل في بعض المواضع، فتحي العكاري وفاطمة سعيدان وأمين بن حميدة وسناء بالشيخ ومحمد الداهش وغيرهم رسميا ملامح شخصيات مختلفة.
وبعيدا عن أداء الممثلين فإن هذه الشخصيات كُتبت بطريقة تجعل الفيلم بعيدا عن منطق المساءلة والمحاكمة إذ تحضر فيها الجوانب الخيرة والشريرة وتعيد إنتاج الواقع بما يحمله من جيد وسيئ من زوايا مختلفة.
وفي كل بقعة ضوء خيوط من السواد تخفت وتحتد على إيقاع الأحداث التي بدت في بعض منها سريالية وغير منطقية لكنها شكلت في النهاية عملا سينمائيا نفض الغبار عن المسكوت عنه وصور بعضا من معاناة ثنائيي الجنس.