آلة الزمن ليست محض اختراع خيالي ينأى بنا عن الحاضر سواء للماضي أو المستقبل، والعودة بالسنين إلى الوراء ليست مجرد فكرة للتخلص من ثقل الواقع وأدرانه، الأمر يتجاوز ذلك ليغدو حالة نفسية وذهنية تنتابك على أعتاب المتحف الوطني العسكري “قصر الوردة” ضمن الزيارات التي تنظمها وزارة الدفاع للصحفيين.
روح التاريخ الني تسري في المكان تطمس كل أثر لأشغال الترميم التي يشهدها المتحف الذي سيحتضن معرض الجيش في عيده والنسيمات الخفيفة التي هبت فجأة مع اختفاء الشمس وراء السحب خجلا من فرط جمال ورود أينعت بكل عنفوان لتحيل إلى تسمية القصر.
قصر الوردة تقف خارجه وترفع رأسك إلى السماء فتتوه أنظارك لين الزخارف التي وشحت المكان وامتدت من فضاءاته الخارجية إلى فضائه الداخلي فيخيل إليك أن في قلب وردة تحمل كل بتلة منها تاريخا مخصوصا لا يمحى بالتقادم.
في الفضاءات الخارجية تمضي في ممر تزينت جنباته بمعروضات تحملك إلى عوالم الحروب والمعارك ويتعالى معها دوي المدافع وصليل جنازير الدبابات التي تحمل تفاصيلها تواريخ عصية على النسيان، عربة صلاح الدين التي بدأ استغلالها سنة 1961، طائرة “Alouette IiI” فرنسية الصنع، مركب بحري” D4″، طائرة “F5″، طائرة “F86″، طائرة “L59”
طائرات ومدافع ودبابات ومراكب بحرية تتواتر على وقعها الأحداث التاريخية في مخيلتك وتتخذ في كل مرة شكل شخصية تتواءم والوسيلة المعروضة أمامك، وفي كل الحالات تتجلى المعارك البرية والبحرية والجوية.
وبين كل الشخصيات والشخوص التي تتبادر إلى ذهنك في لحظة برزخية تفصل الماضي والحاضر يتسلل صوت العميد سمير الشامي مدير التراث والإعلام والثقافة محافظ المتحف العسكري الوطني قصر الوردة وينتشلك من الخيال.
العميد سمير الشامي يتميز بأسلوب لافت في الحكي يسرد تاريخ المكان وتاريخ الوطن منذ عصور دون أن تشعر بكلل أو ملل، دراسته للتاريخ ودرايته بتفاصيل المتحف تجعله قاصا بارعا في التقاط اللحظات الفارقة دون إفراط أو تفريط.
نفحات تاريخية..
عن تاريخ المكان تحدث العميد سمير الشامي وعن بنتئه في آخر القرن الثامن عشر على يد حمودة باشا الحسيني الذي كانت البلاد التونسية في عهده قوة بحرية واقتصادية وعسكرية.
وفي حديثه عن بناء الباي للقصور وإنجازاته المعمارية في فترة حكمه التي تزامنت مع فترة الاضطرابات في أوروبا لم يفوت الفرصة للحديث عن تسخيره للإمكانيات لتجهيز البلاد عسكريا.
وأما عن اختيار قصر الوردة ليكون متحفا عسكريا، فقد أشار العميد إلى أنه كان غي البدء قصر ضيافة لاستقبال ضيوف الدولة التونسية قبل أن يتخذ مسارا عسكريا بعد فترة حكم حمودة باشا.
والفضاء الزاخر بالحكايات تم استغلاله في مهام سيادية وعسكرية ففي عهد أحمد باشا باي (1837 – 1855) وتزامنا مع الإصلاحات العسكرية آنذاك أصبح القصر ثكنة للمدفعية.
كما احتضن فرقة الخيالة التي كونها أحمد باي واسندت قيادتها للجنرال خير الدين وآوى الضباط الأوربيين الذين كانوا يدرسون في المدرسة الحربية بباردو.
وخلال فترة الاحتلال الفرنسي سكنته عدة افواج من الجيش الفرنسي واستغل ايضا كناد للضباط واثناء الحملة العسكرية على تونس (1942-1943) وظف لاغراض عسكرية من قبل قوات المحور والقوات الفرنسية.
وبعد الاستقلال ارتأت الدولة التونسية أن تجعل من قصر الوردة متحفا عسكريا وجمعت فيه كل ما تبقى في ثكنات البايات من أسلحة وملابس وأدوات ليبلغ هذا العام الذكرى الأربعين لتدشينه عام 1984 من قبل الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، وفق حديث محافظه العميد سمير الشامي.
الحديث شمل أيضا التغييرات التي طرأت على المتحف العسكري الوطني وعن المتاحف الجهوية الراجعة بالنظر له وهي على التوالي المتحف العسكري لخط مارث الدفاعي ومتحف الذاكرة المشتركة التونسية الجزائرية بغار الدماء ومتحف البحرية التونسية ببنزرت ومتحف الذاكرة الوطنية بالسيجومي وهو بصدد التهيئة ليرى النور في حلة جديدة تليق بالذاكرة الوطنية.
من معارك حنبعل إلى ملحمة بن قردان.. الحرية تُفدى بالدم
بأسلوبه البسيط والأخاذ في الآن ذاته أمعن في التطرق إلى الغايات من بعث المتحف ومنها العناية بالتراث العسكري وتخليد ذكرى شهداء الوطن والسرد التاريخي لأهم التحولات ولأهم مراحل تاريخ تونس العسكري والسياسي والاجتماعي والثقافي.
وعن الخيط الرابط بين قاعات العرض في المتحف، قال العميد سمير الشامي إنه النضال من أجل الحرية من معركة حنبعل إلى ملحمة بن قردان، مشيرا إلى كونها تضم شواهد على تطور الدفاع في تونس والاستماتة في الدفاع على أرضها.
ورغم أن المتحف يشهد أشغال تهيئة في بعض القاعات إلا أن العميد نجح في أن يشكل خطا سرديا واضحا يجعل المستمع إليه غير مبال بالأشغال بقدر انغماسه في تفاصيل التاريخ التي يؤويها 15 فضاء يتيح لك إمكانية السفر عبر الزمن.
من التاريخ الغابر إلى التاريخ الحاضر يلقي بك المتحف في مسارات متشعبة لعهود مختلفة وانت تجول بين اللوحات الزيتية التي يستنطقها الحكي وتأسرك تفاصيلها حتى تغدو جزءا منها وتستحضر دروس التاريخ التي مازال بعضها عالقا في الذاكرة.
الأسلحة النارية والأسلحة الثقيلة والدروعي ترمي بك في أتون معارك سالت فيها دماء الشهداء فتخضب أرض تونس وتسقي رايتها لتزيد احمرارا وتشهد على أن هذه الأرض المقدّسة بحب أبنائها تفدى بأرواحهم.
المجموعات الأثرية والأزياء توغل بك في عصور مختلفة فتقف وجها لوجه مع مقاوم تونسي تشعر لوهلة أن زيه مازال يحمل آثار الانتصار على الاستعمار وتتمنى لو تحضنه فيما تلعن “صبايحيا” و”مرتزقا” باعا ذمتهما فلفظهما الوطن عاجلا.
في القاعة التي تؤوي العهود القديمة ترحل إلى العهدين القرطاجي والبيزنطي ويروح لك القائد حنبعل وتكتيكاته الحربية الاستراتيجية في نصره على الرومان ونبوغه العسكري الذي تجسده معركتا “ترازيمان” و”كانه” وأما قاعة العصر الوسيط فتحملك إلى الفتوحات الإسلامية في إفريقية والصراع العثماني الاسباني على إيقاع خرائط ووثائق تتحدى الزمن.
وفي قاعة العهدين العثماني والمرادي تتوه أنظارك بين الرايات والأزياء العسكرية المتنوعة ومجسمات المراكب والاسلحة المختلفة التي توثق للنشاط البحري العثماني في البحر الابيض المتوسط، فيما تتزين قاعة العهد الحسيني باللوحات الزيتية إذ تطالعك نظرات
خير الدين باشا وتصفح نظراتك الجنود التونسيين العائدين من معركة القرم وصور البايات الحسينيين.
أما في فضاءي العرض الخاصين بالمقاومة المسلحة للاحتلال الفرنسي فتعترضك أزياء بعض المقاومين وتأسرك تفاصيلها وتخال للحظة أن الروح بعثت في التماثيل التي ترتديها كما تقف مشدوها أمام صورة المقاوم مصباح الجربوع والرشاش الذي واجه به المستعمر.
وأما بقية الفضاءات فتستعرض أحداثا في علاقة بالجيش الوطني التونسي من النواة الأولى لنشأته وتمظهراته خلال السنوات 1970-1960 والرموز العسكرية والنواة الاولى لجيش الطيران والنواة الاولى لجيش البحر ومشاركة الجيش الوطني في عمليات حفظ السلام وصولا إلى ملحمة بن قردان.
مزيج من الفخر والاعتزاز ينتابك على أعتاب الأحداث التي تزخرف بها الفضاءات والتي يجيد العميد سمير الشامي تبويبها وتقطع الطريق على دموعك وانت تتذكر صوت والد الشهيدة سارة في ملحمة بن قردان وهو يقول “وطني قبل بطني”.
على وقع صور شهداء الجيش الوطني التي تمر أمامك في احدى قاعات العرض نتذكر كل الملاحم التي عاشتها تونس وصولا إلى العمليات الارهابية الصادرة والتي سألت فيها دماء أبناء المؤسسة العسكرية.
فيض من الأحاسيس المتناقضة يجتاحك في متحف قصر الوردة، تشعر أنك حي وحر ومنتصر، تزداد رغبتك في القتال من أجل الحياة، يتعمق انتماؤك إلى هذه الارض، تريد أن تبكي ولكن قاعة أسلحة القرن 19 تحلق بك بعيدا إلى عوالم فنية اجتمعت فيها الأسلحة لتشكل مجسمات فنية تأسر الأنظار.