بعد تقديمها لأول مرة عام 2000، وبعث الحياة فيها مرة أخرى عام 2017، يستعيد المخرج توفيق الجبالي مسرحية “مجنون” وسط الحاجة الماسة إلى صوت يمحو آثار العنف والظلم والجبروت والإقصاء والعنف، صوت روحاني يعتنق الإنسانية.
على إيقاع نص “المجنون” لجبران خليل جبران الصادر في الربع الأول من القرن العشرين باللغة الانجليزية وترجمه فيما بعد انطونيوس بشير إلى العربية، جعل توفيق الجبالي من الركح مساحة فلسفية وجودية تظافر فيها التمثيل والرقص والموسيقى والسينوغرافيا.
مع تواتر المشاهد، يتحرر نص “المجنون” من طابعه الأدبي الخالص ويتوشح بمسحة جنون تشكل جوهر الخطاب المسرحي الذي أصبح عليه وتتهافت الرقصات والمؤثرات الصوتية والبصرية لتوغل بك في العمق الإنساني.
على الخشبة تسربت كلمات عن الجنون من أفواه شخصيات المسرحية، قصص وأساطير عن هذه الظاهرة تتلوها صرخات الجنون الأولى لتحرر على وقعها الخلايا والمسام والحبال الصوتية وتتدفق تفاصيل رؤية مسرحية حملت “مجنون” جبران إلى مدى آخر.
آمال العويني وياسمين الديماسي وأمينة البديري ومروان الروين وهبوا أجسادهم وحركاتهم وإيماءاتهم وتعبيراتهم قرابين للجنون ورافقتهم أصوات توفيق الجبالي وهندة بن رحيم ونضال قيقة ودرة زروق وشاكرة الرماح.
مسارات ذاتية وموضوع تتشابك على الخشبة لتعيد صياغة العلاقة بين الفرد والمجتمع وتتهاطل معها أفكار ذات أبعاد اجتماعية وثقافية وانسانية يتعاظم معها الإحساس بالاغتراب وتتسع فيها الهوة بين الأفراد.
تناقضات كثيرة وثنائيات متعددة تتناثر على ركح مسرح التياترو على نسق الخطوات والإيقاعات والأنفاس التي تستلهم روحها من النهج النقدي لجبران خليل جبران الذي يقوم على رؤية فلسفية تنغمس في دواخل الإنسان وتسبر أغوارها.
نقد في كل الاتجاهات يفضي في النهاية إلى تفكيك منظومة الازدواجية التي تحكم الأفراد في التعامل مع واقعهم ومع الآخر وهدم كل الأطر والقيادة التي تحد من حرية الأفراد وتجعلهم متشابهين ظاهريا كقوالب السكر.
من عوالم نص جبران خليل جبران، إلى عوالم مسرحته من قبل الفنان توفيق الجبالي، يمسك “المجنون” من يدك ويمضي بك إلى ثنايا جنون موشح بالحفيف ويهمس في أذنك “أنت حر مادمت مجنونا”.
لوحات كوريغرافية تترجم الحالات النفسية والذهنية والانفعالات وتحيك الرمزيات والدلالات وهي تشرح الوجدان والذاكرة وتنبش في الرغبات والخيبات والمسرات وتثأر من الوصايا والنواميس والأعراف.
الصراعات النفسية التي يعيشها الإنسان داخله ومن حوله تجلت في الرعشات التي سرت في الأجساد وبدت مضطربة كطيور محبوسة تروم الخلاص، اضطراب معمد بجمالية تشدك إلى أجساد الممثلين من أخمص الأقدام إلى أعلى الرؤوس حتى تستشعر نبضات قلوبهم وتحسس قطرات العرق التي تشع على وجوههم.
طقوس تروي التحرر والانعتاق، تحاكي رقصات الدراويش حينا والنحيب حينا آخر، وكلما تسارعت الحركات في خاتمة كل لوحة تربكك أكثر فأكثر وتلتبس مشاعرك ولا تعي إن كنت في فضاء جنائزي أم فرائحي فتغمض عينيك وتسمو مع موسيقى الأرواح.
وفي ذروة الاضطراب والتوتر يتسلل الصوت الراوي ناعما تارة ومخشوشنا مرحبا تارة أخرى ويلازمه صدى يبدو وكأنه قادم من داخلك، يهزك ويزعزعك وتصارعه وأنت تحاول أن تحسس كلمات الممثلين على الركح وقد أثقلت الهواجس رأسك.
وعلى وقع دوران الممثلين حول أنفسهم فيما تملأ الموسيقى الصوفية الأثير، تدور في مقعدك حول نفسك وتتربع وسط ذكرياتك وتدور هي من حولك ويتسرب الدوران إلى قلبك وتنتشلك بقعة ضوء من دوامة الذات.
فالضوء أحد العناصر التي كثفت الجنون على الركح في مراوحة بين النور الخافت والظلمة، في محاولة لاستدراج المشاهد إلى نقطة تصبح فيها تفاصيل الوجوه بلا معنى، نقطة تحضر فيها الزلال بقوة ويتمثل فيها الكل نفسه.
تقنية الفيديو حضرت أيضا في مسرحية “مجنون”، ورسوم جبران خليل جبران التي كانت منطلقا لمشهد تماهت فيه فنون كثيرة في حضرة أبي الفنون حتى غدت أجساد الممثلين جزءا من الرسومات التي تعكس تفكر جبران وتأمله في الإنسان والحياة.
على نسق العتمة والنور تتأرجح الملابس بين الأبيض والأسود في إحالة إلى مسارات الحياة التي تمتد بين الجنة والجحيم وبين الوجود والعدم وبين الفرح والترح وبين الأمل والقنوت، ويتواتر السواد والبياض فتحاكي الخشبة رقعة الشطرنج….