“النغار”، حكاية فنية مدادها من تراث وحلم وعرفان خطتها الفنانة آية دغنوج على إيقاع نفحات العيساوية وموسيقى يلتقي فيها الماضي والحاضر عند صوتها الذي يحاكي في امتداد جبال “الكاف العالي”.
من الصفة المقترنة بالولي الصالح “سيدي بومخلوف” استمد العرض عنوانه، وكلمة “النغار” تعني “الغيور” في معناها الإجابي وهي ليست تسمية اعتباطية للعرض فآية دغنوج غيورة على الكاف وتراث الكاف.
من غيرتها على أصولها وعلى الأصوات التي تسربت إلى روحها وهي طفلة فحملتها في قلبها شكلت منها أحلاما تجسد بعضها على ركح مهرجان الحمامات الدولي بحضور فرقة عيساوية الكاف بقيادة الفنان محمد عبد الرحمان.
في ثنايا العرض اقتفت الفنانة آية دغنوج ورفاقها في مشروع “النغار” سواء عيساوية الكاف أو العازفين المحملين بتجارب مختلفة أثر التراث من مدائح الأولياء الصالحين إلى أغاني الحب التي تخلدت في الذاكرة الموسيقية التونسية.
تصور فني للتراث موشح بنفحات صوفية ومسحة من الغزل وبعض من جرأة المرأة في التعبير عن حبها ومطرز بتوزيع أوجده مروان الزايدي ووقف فيه في منطقة وسطى بين الهوية والأصالة والانفتاح والتجديد.
ألق التراث الكافي أشع في أرجاء مسرح الحمامات وتبدت فيه جمالية الشمال الغربي بآثاره وطبيعته وفنه الذي يعانق الحياة ويقطع الطريق على الموت في هيئاته المختلفة وتفتحت معه أبواب البهجة والفرح.
روح الأغاني على حالها لكنها توشحت بمسحة من التغيير الذي حملها إلى سبل أخرى حضرت فيها آلات موسيقية محسوبة على الأنماط الغربية استلهمت منها خصوصيتها حتى صار ” الغيتار” صوتا قادما من عمق الجبال يساير روايات “القصبة” وحكايات الطبول.
مزيج بين الأنماط الموسيقية التونسية وموسيقات العالم لم يطمس خصوصية الموروث الفني والثقافي والحضاري إذ أن الأغاني التي تضمنها العرض بات بعضا من سمات المناسبات والاحتفالات في الكاف والشمال الغربي وبعض الجهات الأخرى من تونس.
وهذه الأغاني ليست كلمات مغرية بالسماع وألحانا تداعب الروح وتراود الأجساد للرقص بل هي حكايات يتوارثها الأجيال، وسيل من الذكريات وشواهد على الحب في أبعاده المادية والروحية.
“الناقوز تكلم” ، و”عالكركار”، “النسمة الكافية”، أغاني تراثية رسخت في المدونة الموسيقية واستعادتها آية دغنوج على طريقتها في وصلة حافظت على هوية الأغاني وأصالتها وكلماتها المتفردة ببساطتها وعمق معانيها.
أغان تمت استعادتها سابقا من قبل عدد من الفنانين الذي حفروا في عمق التاريخ الموسيقي وجمعوا كلمات الأغاني ونظموها كعقد لؤلؤ على غرار منذر الجبابلي وعبد الرحمان الشيخاوي وسعاد محاسن.
ولعل عرض المنسيات للفنان لسعد بن عبد الله من بين العروض الذي وجدت طريقها بيسر إلى الذاكرة الموسيقية التونسية في علاقة بالمدونة التراثية التي ما انفكت تغري الفنانين بسبر تفاصيلها ونفض الغبار عنها ففي حين تحظى بعض الأغاني بانتشار واسع فإن بعضها مازال رهين حيز ضيّق.
وعلى إيقاع “الناقوز” (توزيع محمد الرزقي) الذي تكلم ليروي حكاية الحب و”الكركار” الذي يجر ويلات الوصل مع الحبيب و”النسمة الكافية” التي رفرفت في أرجاء مسرح الحمامات قبل أن تنطلق وصلة خيمت عليها أجواء صوفية روحانية تغزلت فيها عيساوية الكاف ببومخلوف النغار والبحري بومفتاح وتصاعدت فيها ألسنة البخور وزينت رائحته الأرجاء وتعالت “سناجق” العيساوية على إيقاع الطبول والزغاريد.
عيساوية الكاف تحمل في تفاصيلها الكثير من ملامح الجهة، البساطة والفرح والكثير من الروحانيات والتصوف ومواسم الأفراح وأجواء المديح والاحتفاء بالأولياء الصالحين، وفي حضورها تلوينة مختلفة لعرض “النغار”.
“باسم الله الرحمان” و “نادانا” وماني وليدك”، مديح تعالى على الركح وتشكلت هالة من الصوفية قبل أن تنغمس آية دغنوج من جديد في التراث الموسيقي لجهة الكاف وتصدح بكلمات “يا سعدي جانا”، و”غيم العشوة” (توزيع رياض البدوي)، وصب الرشراش، ، ويا طير الحمام، زينة زينة، جيبولي خالي، مرضى الهوى.
وفي حركة عرفان واعتراف بفنانين قدموا الكثير للذاكرة الموسيقية وحملوا التراث إلى مساحات أخرى، استحضرت سعاد محاسن ومليكة الهاشمي ومنذر الجبابلي، وهي خطوة استحسنها الجمهور الذي ردد معها كلمات الأغاني التي ارتبطت بالفنانة القديرة سعاد محاسن بحضور ابنها محمد علي النهدي.
وإلى جانب امتداد صوتها وخامتها المتفردة واحساسها العميق تمتلك آية دغنوج شخصية تمزج بين الجدية والمرح والغنج وتجيد شد الجمهور إليها وتتقن تحريك خيوط العرض على الركح، تعلم جيدا متى ترقص وكيف تغازل الجمهور.
وفي عرض النغار صور كثيرة لافتة من ذلك تخفيفها لحالة التأثر التي تملكت الممثل والمخرج محمد علي النهدي وهو يستذكر مجد والدته الخالد دائما ودعوته إلى الركح، وتحيتها للفنان الهادي دنيا وصعود الفنان مهدي العياشي معها لبعض اللحظات على الركح.
بالإضافة إلى الأغاني التراثية والمدائح غنت آية دغنوج من إنتاجها الخاص “دايا يانا”(كلمات ياسين الحمزاوي وألحان وتوزيع محمد أمين قلصي)، و”ولد بلادي” (كلمات وألحان حمودة الفلاح وتوزيع مروان الزايدي) وهما أغنيتان لم تحد فيهما عن مشروعها الموسيقي الذي يستلهم من الأنماط الموسيقية التونسية.
ولا يمكن الحديث عن العرض دون ذكر حالة التماهي والانسجام مع المجموعة الموسيقية التي تضم عازفين يجمعهم الإيمان بمشروع “النغار” والشغف بالموسيقى والبحث في ثنايا في محاولة لإيجاد سبل أخرى له تمزج بين الأصالة والتجديد.
مروان زايدي، وحسين بن ميلود وأنيس حفيظ ومروان الضاوي ومحمد الهادي عوادي وبلال منصور وعزيز بالهاني وسفيان السعداوي وخليل السايبي، عازفون بثوا من أرواحهم في عرض “النغار” وأوجدوا موسيقى قادمة من عمق تونس ومنفتحة على العالم.
والشغف والمحبة تجليا أيضا في الحاضرين على الركح من عيساوية الكاف: محمد العيساوي وأحمد الجبالي وفوزي حجوني إيقاعا وإنشادا، وبلال الكلاعي “الشاوش” الذي جاب الركح وهو “يعشّق” (العاشق النبي يصلي عليه) ومحمد أمين ورغي وفارس الجبالي اللذان رفرفت “السناجق” بأيديهم.