صوت رئيس المجلس العسكري الانتقالي السوداني سابقا الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان في أفريل 2019 يصدح بالبيان الذي وعد فيه بتسليم إدارة السودان لحكومة مدنية يفتتح فيلم “مدنية” للمخرج محمد الصباحي.
نفس المشهد يتكرر في نهاية الفيلم ليعزز اليقين أن السودان والسودانيين محاصرون في دائرة مفرغة من الآمال والوعود الخاوية التي لا تضاهي حجم التغيرات التي شهدها الشارع السوداني.
تحولات كثيرة وانتفاضات وتغييرات عرفها السودان الذي يرزح اليوم تحت وطأة الحرب منذ العام الماضي على وقع الاقتتال والتناحر بين الجيش وقوات الدعم السريع وهو ما يوثقه فيلم “مدنية” انطلاقا من خلع عمر البشير وصولا إلى هذه المرحلة الدامية.
“مدنية” أو “مدنياااو” شارك في الدورة الخامسة والأربعين لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي ضمن مسابقة (آفاق السينما العربية) في عرضه الأول بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا ويستمد أهميته من تجذره في قلب الوضع السوداني.
على إيقاع يوميات ثلاثة مواطنين سودانيين آمنوا بالتغيير عبر الحراك الشعبي تشكلت ملامح الفيلم المفعم بالعاطفة التي تتجلى عبر انفعالات الشخصيات في الفيلم خاصة على أعتاب توشح الثورة من أجل دولة مدنية بدماء الشهداء.
منذ ملامح التغيير الأولى في السودان كان كل شيء مهتزا ومتغيرا بدءا بتباين وجهات النظر وصولا إلى فض اعتصام القيادة العامة للجيش بالقوة وهو ما أحدث شروخا وجروحا في دواخل الشخصيات.
وحده الفن كان ثابتا في الثورة السودانية وخير دليل على ذلك صناعة فيلم “مدنية” الذي ينقل أحلام السودانيين وهواجسهم وحياتهم ويفتح أعين العالم على تراجيديا السودانيين الذين هاجروا قسريا.
وفي “مدنية” يتشكل عالمان أحدهما عنيف ودام والآخر موشح بالفنون تتشكل على تخومه المقاومة غناء ورسما على الجدران ومسرحا وغيرها من التعبيرات الفنية التي ظلت صامدة رغم امتداد يد السلطة لمحوها وطمسها.
ويراوح الفيلم بين لقطات التقطها الكاميرا وأخرى وثقتها الهواتف الجوالة لبعض المتظاهرين ومقتطفات لكلمات متلفزة لعدد من الساسة والقيادات العسكرية ولعل ما يميزه هو متابعة مخرجه للحراك ومتابعته لجيل مختلف قادر على رواية السودان دونما تحريف.
شخصيات بسيطة واضحة يحركها إيمانها بحب السودان والسعي من أجل تغييره والمناداة بمدنيته استدعاها الصباحي في فيلمه وترك لها مساحة واسعة للتعبير عما يختلج دواخلها.
محمد عبد الرحمن، مؤمن الفنان وإسراء ثلاثة شخصيات اجتمعت عند الثورة على رغم اختلافاتها ورابطت بمقر الاعتصام وسعت إلى التغيير بكل ما أوتيت من جهد كل منها على طريقته ولكن رياح السياسة جرت بما لا تشتهي أنفسهم
سيل من الأحداث التي تختلط فيها المشاعر وتلاشى على وقعها الإحساس بالنصر لاقتراب تحقيق الهدف من الثورة ويحل محلها الدم والفوضى والنزوح والتهجير وغيرها من أمائر الحرب التي لا تسقط بالتقادم.
النزاع متواصل في السودان، والتراجيديا تتعمق يوما بعد يوم، والسودانيون يقاومون وهم يلمحون تزعزع الثورة حتى انهيارها على عتبات الدم والدموع والصرخات المدوية التي حملها المخرج في قلبه وفيلمه ليلفت نظر العالم إلى المعاناة في وطنه.
وإن كانت اللغة السينمائية للفيلم متذبذبة إذ تغيب الحبكة في تجميع المادة الفيلمية وفي توزيع الشهادات فإن صدق الشهادات وانخراط المخرج في حالة الثورة خدمت الفيلم فتعالى صوت السودان رغم محاولات التعتيم.
ولأن الفيلم نابع من رغبة المخرج في توثيق مرحلة مفصلية في تاريخ السودان عبر شهادة ثلاثة سودانيين مازال يحدوهم الأمل في التغيير رغم الدموع الساكنة في أعينهم فإنه اختار أن يشرح تطورات الوضع في السودان بنصوص مقتضبة تظهر على الشاشة لتنير أذهان غير المتابعين للوضع هناك.