يعتبر المولود الفكري الجديد، “الوصل بين الضفاف” للجامعي الدكتور توفيق بن عامر من أهم المراجع التي رأت النور في الفترة الأخيرة. حيث أن الحقول البحثية التي تناولها المؤلّف بالبحث لطالما حافظت على آنيتها وجِدّتِها وفرضت نفسها كمَباحِث لا مناص من التوقف عندها ومعالجتها دائما وأبدا.
فكتاب ” الوصل بين الضفاف”، الصادر عن دار الأمينة للنشر والتوزيع، هو طَرْح لعديد الإشكاليات في مجالات الفكر والأدب والحضارة. وهي إشكاليات يرى الكاتب أنها لاتزال محل جدل ونقاش في الأوساط العلمية والثقافية وما فتئت تشغل بالَ المثّقفين باختلاف مشاربهم واهتماماتهم وانتماءاتهم الفكرية وتوجّهاتهم الايديولوجية و الفلسفية.
لعلّ ما يضفي أهمية لهذه الإشكالات أنها تمثل نقاط تقاطع لأسئلة “تتراوح بين النقد الأدبي والنقد الثقافي وبين الفكر الديني والفكر الفني وبين الديني والسياسي كما تجسّد نقاط لقاء بين التشريع والاجتماع وبين الفكري والحضاري وبين المعتقد والتاريخ”.
عمد الكاتب خلال هذا المرجع الفكري الهام المُنْقَسِمِ الى أربعة مباحث عامّة وشاملة وهي “في الأدب والنقد” و”الفكر النقدي” و”في الفكر والمعتقد” و’في الحضارة والتاريخ” -وهي مباحث تنقسم كل منها إلى أجزاء مختلفة يقودها خيط ناظِم- إلى اعتماد منهج تحليلي وتحقيقي يقوم على التقصّي والبحث في مسائل لطالما أقضَّت مضاجع الباحثين والنقاد في سياقات زمنية وجغرافية مختلفة.
في تحديث المقاربة المقارنية
طرح توفيق بن عامر، عضو قسم الدراسات الإسلامية بالمجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون، بيت الحكمة، في بداية مبْحَثه قضية من الأهمية بمكان تتعلق أساسا بمسألة “المقاربة المقارنية” وذلك بصفة عامة ودون التركيز على اختصاص بعينه. ذلك أنه وبحسب الكاتب “تتنوع المقاربات المقارنية بتنوع الحقول المعرفية والإبداعية, فَعِلْم الثقافات المقارن وعلم الأديان المقارن وعلم التاريخ المقارن وعلم الأدب المقارن وغيرها من العلوم والفنون المقارنة لا تثير كُلّها الاشكاليات نفسها على صعيد المنهج وإن كانت تنتمي إلى جذع منهجي مشترك (…) وهو المنهج المقارني”.
ويرى الكاتب في هذا السياق أن العملية المقارنيّة باعتبارها رصيدا نقديا تسمح “بإعادة النظر في اليقينيات والتقاليد الموروثة وبإبراز عبقرية الشعوب و نفسيتها ومزاجها…”.
كما تهدف هذه المقاربة أيضا الى البحث “في المُختَلِفِ والمُؤتَلِفِ على صعيد الفكر والإبداع بين الثقافات والحضارات” مما يساهم بشكل مباشر في العلاقات بين المجتمعات والثقافات والحضارات. غير أن حملات تشكيك كثيرة أحاطت بالمقاربة المقارنية وحفًّت بها انتقادات جمّة عبر تاريخها الى درجة “التساؤل من جديد عن أهداف هذه المقاربة وعن جدواها” بل والى “الطّعن في مشروعيّتها” لما يعتري هذا المنهج المقارني من “ضعف وما يتهدده من أخطار وما يصطدم به من صعوبات”. ويرى الكاتب أن من عوامل التشكيك هو “تأثر المقاربة المقارنية بالنزعة الشوفينية والتعصّب للنزعة الايديولوجية الوطنية او القومية او الانحياز للذاتية”.
وفي السياق ذاته يرى توفيق بن عامر -الذي استند في بحثه إلى مراجع كثيرة وذات ثقل علمي ومعرفي وازِن- أنه رغم الصراع المرير بعد إعلان موت المقاربة المقارنيّة سنة 2003 وميلاد مقاربة جديدة سنة 2006 “لم توجد الى اليوم نظرية مقارنية أخرى” قادرة على فرض نفسها”.
وعلى ذلك فإن الدكتور توفيق بن عامر يدعو الى القيام ببعض المراجعات الضرورية لهذه المقاربة المقارنيّة من ذلك توسيع الاطلاع على اللغات “للوقوف على النصوص الأصلية والاستغناء عن الوسائط (…) وتوخي التحري الكامل في ضبط المدوّنة وتحديد هوية النصوص النوعية والتاريخية”. ومن ثَمَّ المرور الى مرحلة “الوصف والتشخيص الموضوعي للمظاهر”. ويشترط الكاتب هنا لخوض هذه المرحلة أوّلا “التخلص من رواسب الذاكرة ووهم المتخيل واعتماد الملاحظة المجرّدة من الانطباع والمستندة إلى الدليل” وثانيا “العمل على النفاذ الى حقيقة الأشياء عبر التفكيك اللغوي والتاريخي للمصطلحات مع إدراجها ضمن سياقاتها التاريخية”.
ويخلص الكاتب في خاتمة هذا الباب الأول من هذا الجزء إلى أن المقاربة المقارنية العربية مدعوّة إلى “تجاوز المنهج المقارني الكلاسيكي وإلى أن تواكب المستجدات في هذا المجال وتستفيد من التقييمات المنهجية الحديثة” وذلك بهدف “الخروج بها من حيز الجمود والابتذال الى مجال المعاصرة والابتكار”.
التاريخانية والحداثة
لعلّ من أهم المفكرين العرب الذين دعوا الى ضرورة استيعاب الحداثة الغربية لتحقيق النهضة العربية المرجوّة من خلال نقد التراث والقطيعة مع الماضي واتباع منهج قائم على مفهوم التاريخانية هو المفكر المغربي عبد الله العروي الذي خصّه الدكتور توفيق بن عامر بفصل كامل أتى فيه على تجليات الفكر النقدي عند العروي الذي “استمد أساسيات هذا الفكر من روافد معرفية متنوعة إذ تعددت اهتماماته العلمية والثقافية من تاريخية وفلسفية وأدبية الى سياسية واجتماعية”.
ويرى الكاتب أن المرجع الأول والأساسي لفكر عبد الله العروي النقدي هو اختصاصه في دراسة التاريخ. الأمر الذي مكنه لاحقا من “الاهتمام بفلسفة التاريخ وبالفلسفة السياسية والاجتماعية وبالمسألة الثقافية والأدبية ووظيفتها في المجتمع وقد خَوّل له اطلاعه على المناهج الحديثة في العلوم الإنسانية وعلى ثقافة الآخر (…) أن يتبوَّأ منزلة المثقف العقلاني وأن يكتسب ملكة نقدية في شتى مجالات العلوم الانسانّية وان يوظِّف تلك المَلَكَةَ في إرساء مشروع اصلاحي يطمح الى تحقيقه في بلاده وفي العالم العربي بشكل عام”.
يدعو توفيق بن عامر الى القيام ببعض المراجعات الضرورية لهذه المقاربة المقارنيّة من ذلك توسيع الاطلاع على اللغات “للوقوف على النصوص الأصلية والاستغناء عن الوسائط (…) وتوخي التحري الكامل في ضبط المدوّنة وتحديد هوية النصوص النوعية والتاريخية”
فصاحب كتاب “الأصول الاجتماعية والثقافية للحركة الوطنية بالمغرب 1830-1912” لطالما اعتنى، بحسب الكاتب، “بالمناهج المختلفة للمقاربة التاريخية والرؤى الفلسفية المتنوعة لمفهوم التاريخ وسلّط عليها الأضواء النقدية مبيّنا موقفه منها”، مما حدا به في نهاية المطاف الى الدعوة الى “تجديد الدراسات التاريخية وخلق عقلية معاصرة لدى المؤرخين”. وعلى ذلك كان الإيمان “بضرورة وجود وعي تاريخي لا فقط لدى دارسي التاريخ وإنما لدى المثقفين عموما” هي اللبنة الأولى لمشروع عبد الله العروي الفكري والاصلاحي “وجوهر نظريته التي وسمها بمصطلح التاريخانية واتخذ منها منهجا وفلسفة”.
وفي تعريفه لهذا المصطلح المستحدث يرى الدكتور توفيق بن عامر في كتابه أنّ التاريخانية هي “منهج في التفكير والتحليل والنقد للظواهر التاريخية والاجتماعية والثقافية وهي فلسفة من وجهة نظر المؤرّخ”. وسعى العروي من خلال المنهج التاريخاني الذي اعتمده في كتاباته الى التركيز على “فكرة محورية مفادها أن الفكر التاريخي ضروري للتقدم وبدونه تظل المجتمعات على هامش التاريخ”.
ومن بين مكامن القوة في الفكر النقدي لدى عبد الله العروي هو ايغاله في “نقد الفكر السلفي المعادي بجموده وتحجره ولا تاريخيته للنمو والتطوّر”. ذلك أنه وبحسب الكاتب فقد “غيًّب المنهج السلفي الجانب التاريخي وغفل عن أهميته في دراسة الظواهر الدينية والثقافية عموما ومجّد الماضي وقدّس الحقيقة المطلقة والمتعالية وأهمل مفهوم النسبية في تقييم الأحداث فكان أبعد ما يكون عن أولويات الفكر التاريخي”.
ولم يكن المنهج الليبرالي بمنأى عن سهام نقد عبد الله العروي الذي يَعْتَبِرُ بحسب الدكتور توفيق بن عامر “أن ذلك المنهج هو أعمق مأساة من المنهج السلفي” لأنه واستنادا الى مقولة العروي “يتابع حركة الغرب بصورة لاهثة ويكتفي في الغالب بالمواكبة والمتابعة السطحية والنداء المُسْتَلِبِ”. وعلى ذلك فكلا المنهجين يعيشان على “تبعية غير واعية” ويعانيان “من غياب الوعي التاريخي” ومتورّطان “في نوع من الاستلاب إمّا لتراث الماضي أو للغرب. فكل منهما يمثل اغترابا عن الواقع وعن التاريخ ولا مناص والحالة تلك من تكوين العقل العربي على أساس النظر إلى الواقع والوعي بصيرورة التاريخ” على حد تعبير العروي .
ويخلُص الكاتب في هذا الباب الذي خصصه في الخوض في المرجعيات والغايات انطلاقا من دراسته لأنموذج المفكر الإصلاحي عبد الله العروي أن هذا الأخير “يعزو تردي الأوضاع السياسية والحضارية في العالم العربي إلى العادات والتقاليد الموروثة والمتحجرة والى تغلغل الثقافة التقليدية والماضوية في المجتمع”. ومن هذا المنطلق فلا مناص من تبنّي منهج الحداثة الذي يعتبره العروي “قدر كل الشعوب لأنها مرحلة من مراحل تطور الوعي البشري وتقدم المجتمعات”. غير أن الكاتب يرى أن العروي لطالما انتقد “الحداثة المفروضة من الخارج لأنها تحدث الشرخ في الكيان الاجتماعي وتنمّي النزعات المعادية لها”. وعلى ذلك، يرى توفيق بن عامر أن “الحداثة المفروضة تؤدي الى نقيض المنتظر منها ولذا لابد من من التحري في منهج التفاعل مع القيم الحداثية وذلك عن طريق المثاقفة والتكوين التلقائي والنقد الثقافي وتجديد النظر الى التراث مما يساهم في استنبات تلك القيم ويدفع المجتمع إلى تبنيها عن وعي واقتناع”.
في تأويل النص الديني
نَزَلَ الدكتور توفيق بن عامر وهو المختص في الفكر الديني بأبعاده وتمظهراته المختلفة بكل ثقله العلمي والمعرفي في المبحث الثالث من كتابه حول “الفكر والمعتقد” مستندا في ذلك إلى معارفه الشاملة ومستعينا بدراساته المتعمّقة وأبحاثه الدقيقة في هذا المجال. فكان مجال التحرّك ضمن هذا المبحث واسعا وكانت الأفكار سلسة ومترابطة والبحث عميقا في أمّهات المسائل المتعلقة بنقد الفكر الديني.
فكان تأويل النصّ الديني ومسألة الفكر المقاصدي والمسائل الفقهية وهي مباحث لطالما اشتغل عليها الكاتب، بالاضافة الى مباحث أخرى، في مختلف أعماله السابقة إمّا بين أسوار الجامعة أو عبر الدراسات التي أنجزها، في صلب اهتمامه وخصّها باهتمام مستفيض في هذا الكتاب. ولعلّ من أمّهات القضايا التي اشتغل عليها علماء الأمة وفقهاؤها ومفكّروها هي مسألة التأويل في علاقة بالنص القرآني.
ومن منطلق التزامه بالمنهج العلمي البحثي، انبرى الكاتب يحدثنا عن مفهوم التأويل الذي يعتبره “تجاوز الدلالة المباشرة للعلامة الى الدلالة الخفية وغير المباشرة. فالعلامات هي وسائط ضرورية في عملية التأويل, واللغة هي نظام علامي بامتياز ووسيط ضروري في النشاط التأويلي(…)”.
وفي علاقة التأويل بالنص القرآني، يرى الكاتب أن القرآن قد بوّب التأويل حسب ستة مستويات “فهناك تأويل حسن وآخر أحسن منه وهناك تأويل يبتغي أربابه الفتنة وتأويل رابع لا يتقنه إلا العلماء وآخر خامس يعرفه الأنبياء والأولياء بتعليم من الله وتأويل سادس لا يعلمه الا الله”. وعلى ذلك فإن الدكتور توفيق بن عامر يرى أنه بامكان “العقل البشري الذي راهن القرآن عليه أن يترقّى في هذه الدرجات التأويلية الى أن يصل الى أفق الغيب الذي لا يعلمه الا الله”.
غير أن مسألة التأويل أخذت لدى الدارسين وعلماء المسلمين وأتباع السلف مناحي متعددة ومختلفة حيث يرى الكاتب أن السلفيين مثلا يعتقدون اعتقادا راسخا أن لا محيد عنه في أن الله هو المؤوّل الوحيد للنص استنادا الى “الآية السابعة من سورة آل عمران بالفصل بين جزئيها ويجعلون الوقف بعد قوله (وما يعلم تأويله إلا الله)”.
يرى الكاتب أن القرآن قد بوّب التأويل حسب ستة مستويات “فهناك تأويل حسن وآخر أحسن منه وهناك تأويل يبتغي أربابه الفتنة وتأويل رابع لا يتقنه إلا العلماء وآخر خامس يعرفه الأنبياء والأولياء بتعليم من الله وتأويل سادس لا يعلمه الا الله”.
غير أن الكاتب الذي ما فتئ يدقق ويمحّص في المراجع والمصادر المختلفة، المتجانسة حينا والمتضاربة حينا آخر، يرى أن هذه القراءة السلفية الجامدة والتي تنظر الى ظاهر الأمر من ضفة واحدة دون أيلاء الضفّة الأخرى الاهتمام الذي تستحقّ بعيدا تم تجاوزها من خلال “تيارات أخرى تنتصر للتأويل وتستعيض بالوصل عن الفصل في قراءتها للآية المشار اليها”.
وفي هذا الباب يعود الكاتب الى ملامح التأويلية الكلاسيكية التي تركّزت بفعل وجود عوامل كانت للمرحلة التاريخية الفضل في ظهورها مثل “الجدل مع الملل والديانات الأخرى، والاطلاع على التراث الفلسفي اليوناني والتجربة التاريخية والاجتماعية والسياسية”. وهي عوامل كانت وراء “تنشيط حركة العقل لتدبّر النص وتأويله لغايات راهنة اذّاك”.
ويخلص الكاتب هنا الى أن التأويلية الكلاسيكية قد “انتبهت الى منزلة التأويل في القرآن فكانت امتدادا للبؤر التأويلية التي بشّر بها النص الديني فكان التأويل الشرعي منطلقا لعلوم الفقه وكان التأويل العقائدي مادة لعلم الكلام كما أن التأويل الوجودي موضوعا للفلسفة والتصوّف”. بيْد أنّ هذه الحركة التأويلية التي قطعت شوطا مهمّا باعتبارها “كانت المحرك في زمانها للنهضة الفكرية الاسلامية” شهدت منذ عصور الانحطاط تراجعا ملحوظا فـ”تكلَّسَ الفهمُ وتوارثَ المسلمون ذلك الفهم المتكلّس وغاب النص في ذلك الزحام واحتجب عن الأفهام”.
ومن هنا يمرّ الكاتب الى مفهوم التأويلية الحديثة التي تستدعي قراءات واجتهادات تتجاوز النص الديني المحض ودلالاته الحرفية. فهذه الحركة التي مثّلت في الغرب منذ القرن السابع عشر ميلادي “ثورة او انقلابا كوبرنيكيا على التأويلية الكلاسيكية” وأفضت فيما بعد الى “تحرر العملية التأويلية من عقالها الكنسي والحرفي لتتجاوز المجال الديني وترتاد مجالات معرفية أخرى متعددة مثل التاريخ والفلسفة والأدب والفن والعلوم الانسانية”، جاءت لتقوّض مفاهيم التأويلية الكلاسيكسة و”تهتم بشروط حصول الفهم وظروفه. فتم الانتقال من : ما معنى النص ؟ الى ما معنى الفهم ؟”.
وهنا يدعو الكاتب صراحة ودون مواربة -وهذا دأبه في العديد من المناسبات- الى “إعادة قراءة النص الديني والتغلب على المسافة التاريخية التي تفصلنا عن زمن توليد المعاني الجوهرية التي تضمّنتها الرسالة عبر نظام تأويلي حديث يأخذ بعين الاعتبار طبيعة النص ولغته واستقلاليته ووحدته وزمانه مع الوعي الدائم براهنية التأويل وزمن القراءة”.
ومن هذا المنطلق يستدعي المُؤلِّف نظرية “القراءة السّهميّة للقرآن” التي أوردها المفكر الفذّ محمّد الطالبي، مؤسس الجمعية الدولية للمسلمين القرآنيين- التي ترأسها الدكتور بن عامر- والتي يعني من خلالها “اعتبار القصد في النص والغاية القصوى منه والغاية المستقبلية التي يرمي اليها بقطع النظر عن وسائل الابلاغ المرتهنة بزمان الوحي”.
المجتمع المستقبلي في الفكر المقاصدي
إنَّ إعادة التفكير في استقراء مدلولات النص القرآني والبحث في أصول الفقه وما استتبعها من ظهور لحقول معرفية وبحثية في علوم الدين كعلم المقاصد، كانت من أهم الحقول البحثية التي اشتغل فيها الدكتور بن عامر وأعمل فيها فكره وبصيرته واجتهاده. ذلك أن الفكر المقاصدي الذي ظهر “لفك الأزمة المنهجية التي تردى فيها علم أصول الفقه” وذلك بعد “استشراء الخلاف بين العلماء المجتهدين من ناحية وتعطُّلِ مسيرة الاجتهاد من من ناحية أخرى” جاء كمنهج إصلاحي ليُِؤسِّسَ منهجية جديدة لأصول الفقه تقوم أساسا على “أصول قطعية يقينية تتجاوز الظّنّ وتدرأ الخلاف بين علماء الأمّة وبين المذاهب الفقهية”.
عمل الكاتب خلال البحث في هذا الباب على توخي أسلوب سردي تأريخي لظهور هذا العلم المقاصدي وتِبْيَانِ مراحلَ تطوّره. فتوقّف حينئذ عند مراحل مهمة في مسار الصيرورة التاريخية لهذا العلم الذي اشتغل عليه فطاحلة علماء الأمة الاسلامية وطوّروه معنى ومقصدا انطلاقا من أبي المعالي الجويني (المرحلة الأولى) مرورا بأبي محمد الشاطبي (المرحلة الثانية) ووصولا الى محمد الطاهر بن عاشور وعلالة الفاسي (المرحلة الثالثة).
يدعو بن عامر الى إعادة قراءة النص الديني والتغلب على المسافة التاريخية التي تفصلنا عن زمن توليد المعاني الجوهرية التي تضمّنتها الرسالة عبر نظام تأويلي حديث يأخذ بعين الاعتبار طبيعة النص ولغته واستقلاليته ووحدته وزمانه مع الوعي الدائم براهنية التأويل وزمن القراءة
وبالرغم من تقدّم هذا الفكر في الزمن وتطوره إلا أنه، وبحسب الكاتب، ظل “مقصورا على بعض المبادرات الفردية ولم يحظ بالانتشار على الساحة الفكرية والتشريعية الإسلامية ولم ينل حظه الكافي من التطبيق وإنما كان يلجأ إليه عند الضرورة وظلّ علم أصول الفقه في صيغته القديمة هو المهيمن على الساحة”.
وعلى ذلك يرى الدكتور توفيق بن عامر في مقارباته أنه من الضروري والحال أنّ الفكر المقاصدي يَتَّسِم بالمواكبة المستمرة للتاريخ أن “تستدعي هذه المواكبة التحيين المتواصل وبذل المجهود النقدي لتطوير المنهج وتجويد الآلة”. ولأن التغيير والتطوير يقتضي أولا الوقوف عند الموجود فان بن عامر يرى أن “حصر العلماء للمقاصد في الكليات الشرعية الخمس (الدين والنفس والنسل والعقل والمال) لم يعد اليوم يفي بالحاجة وإن كانت تلك الكليات تُعَدّ من الضروريات التي لا غنى عنها”.
وبالتالي كان لزاما “توسيع دائرة المقاصد بما يتناسب مع المبادئ الكبرى للإسلام ويستجيب في الآن نفسه لمتطلبات الرؤية المستقبلية”. وهنا يتوقف الكاتب عند مواقف العديد من العلماء الذين رأوا ضرورة إدراج المقاصد الشرعية ضمن إطار أشمل هو إطار مقاصد الدين الإسلامي العامة باعتبارها السند المبدئي والكلي لمقاصد التشريع.
وفي هذا السياق دعا الدكتور توفيق بن عامر إلى إرساء طرح مستحدث لموضوع المقاصد ومحتواها من شأنه النهوض بالأمة والإنسانية جمعاء لتخليصها من الأزمات والصراعات الداخلية والخارجية وتهيئة الأرضية الصالحة للتعايش السلمي ولبناء الحضارة المستقبلية البديلة عما تتردّى فيه الأوضاع اليوم وتنذر فيه بخطر الدمار”.
ومن هذا المنطلق، فالطّرْح الجديد يفترض بالضرورة، والحال أن المقصد الأساسي من مقاصد التشريع هو ضمان وحدة الأمة وديمومتها، “العناية بالإنسان المسلم بتحرير طاقاته واحترام منزلته وتوفير كرامته، ولا يتسنى ذلك إلا في كنف الحرية والعدل والمساواة وضمان الحقوق والحريات العامة والخاصة وإعطاء الابعاد الحقيقية لمفهوم المواطنة”. فالكاتب هنا ومن خلال هذا الطرح المقاصدي يستقرئ الواقع المعاصر والمفاهيم الانسانية الجديدة في بعدها الدلالي والمعرفي وكذلك الواقعي. ويذهب بن عامر في هذا السياق الى أبعد حدّ حين يدعو الى “ادراج حقوق الإنسان بمعناها الصحيح المنسجم مع الفطرة البشرية في أولويات المقاصد الشرعية”. ويوغل الكاتب في نظرته التحرّرية الثائرة على السائد ليعيد الى السطح مسائل فقهية وعقائدية واجتماعية شائكة لطالما أثارت ولا تزال تثير جدلا واسعا في الأوساط العلمية والسياسية والاجتماعية ليَدْعُو صراحة إلى “تحقيق التوازن بين الأحكام الجزئية الصريحة والمقاصد الكلية العامة في بعض القضايا كقضية ميراث الأنثى ومسألة زواجها من غير المسلم (…) ومسألة القوامة واضطلاع الزوجة بالإنفاق على الأسرة”.
إنّ المجتمع المستقبلي من وجهة نظر مقاصدية، كما يتشكّل في ذهن الدكتور توفيق بن عامر، هو مجتمع “القيم والأخلاق السامية من وجهة نظر إسلامية” وهو ايضا مجتمع “قائم على التوازن بين حقوق الفرد وحقوق المجتمع دون عدوان لأحدهما على الآخر لا تتكدس فيه الثروات عند الأفراد مهما بلغت مواهبهم ومراتبهم ويُحْرَم منها المجتمع كما لا يحتكرها المجتمع ويحرم منها الأفراد” وهو ايضا مجتمع ” يحتاج إلى التعايش السلمي للمسلمين فيما بينهم وبينهم وبين المجتمعات غير الإسلامية”. وفي هذا السياق يعتبر بن عامر الذي كان سَنَدُه وبرهانه في ذلك آيات قرآنية كثيرة منتقاة بدقة وعن قصّديّة أن “مبدأ السلم والتعايش السلمي هو مقصد أساسي للشرع الإسلامي ولا يتحقق ذلك التعايش إلا باحترام المُخْتَلِفِ والحوار معه والتسامح إزاء آرائه ومواقفه ومعاملته باللطف والحسنى لا بالعنف والكراهية”.
في الفن والدين والسياسة
حَمَلَ “الوصل بين الضفاف” في طياته، بالاضافة الى ما سبق ذكره آنفا، مباحث فكرية وفلسفية ملهمة وذات وَقْع كبير العديد من القراءات في مباحث أخرى لا تقل أهمية استند الكاتب في مجمل عمله في تسليط الضوء عليها وتحليلها واستقرائها اإلى ثلاث مقاربات أساسية وهي المقارنة والنقد والتأويل. فهذه المقاربات تبقى ضرورة ملحّة حتى تتجلى “الحقيقة في أكمل صورها تقريبا وغير منقوصة رغم أن الحقيقة تبقى دائما ضالة نبحث عنها” كما ورد على لسان الكاتب خلال تقديمه لكتابه على هامش لقاء نظمته جمعية راجح ابراهيم للبحوث والدراسات بالشراكة مع دار الثقافة وجمعية المواطنة بأكودة يوم 22 جوان الفارط.
وقد تطرق الدكتور توفيق بن عامر الى أهمية التفاعل الحاصل بين الحضارة الإسلامية وغيرها من الحضارات الأخرى كالحضارة الغربية وما حفّ هذا التفاعل من تعاون وتبادل فكري وحضاري من خلال حركة الترجمة والتعريب مستئنسا في ذلك مثلا بتجربة ترجمة نص “ألف ليلة وليلة” العالمي الذي كان محطّ أنظار المفكّرين والأدباء المستشرقين والعرب على غرار طه حسين وتوفيق الحكيم.
وفي موضع آخر من مواضع هذا المرجع الفكري والحضاري الهام، اهتم الكاتب بمسألة لم يَخْلُ الخوضُ فيها من اختلافات بلغت حد النزال الفكري في علاقة الفن بمختلف أنواعه وتجلياته بالفقه. فالفن الذي يعرّفه بن عامر بـ”نوع من النشاط والإنتاج البشري الذي ينجم عن تفاعل الإنسان بحواسّه ومشاعره وفكره مع الوجود وطموحه الى صياغة ذلك التفاعل في تعبيرات جميلة وممتعة” كان أكثر تمثّلا في الزمن الإسلامي الأول في إبداع الكلمة المتمثل في الشعر. وعرّج الكاتب على المكانة التي فقدها هذا الفن مع بزوغ فجر الإسلام ونزول القرآن الذي جاء ليصرف “المسلمين الأوائل عن الاهتمام به فخفَت صوتُه زمن الوحي وخبَا أَلَقُه وتضاءل انتاجُه فلم يبلغ شأو انتاج الفحول من الشعراء”.
وبالإضافة إلى إبداع الكلمة كان إبداع الصوت وإبداع الصورة محط اهتمام الكاتب في علاقتهما بالفقه. ويرى بن عامر في هذا الخصوص أن الفقهاء وأهل السنة، ولئن أجاز بعضهم وحرّم الآخر مسألة اللحن والغناء، فانّهم حرّموا بصفة قطعية ما يتصل بإبداع الصورة وكان مستندهم في ذلك “عقيدة التوحيد التي حاربت الأوثان وتعدد الآلهة ونزّهت الذات الإلهية عن التجسيم “.
غير أن هذه المواقف المتصلّبة تجاه مسألة الفن قد شهدت على مرّ العصور تطورا في الرؤية الفقهية خففت الى حد بعيد من هذه القيود المفروضة على الفن في علاقته بالفقه. ومن بين ما خلص إليه الكاتب في خاتمة دراسته لهذه المسألة الشائكة هو توفر “عوامل حضارية متعددة ساعدت على تجاوز موقف المنع والتحريم وفسح المجال لممارسة الإبداع الحر في صوره المختلفة ومن بينها تنوّع الموروث الفني للشعوب الإسلامية وثراء الساحة الثقافية بتنوّع الرؤى والمواقف فضلا عن دور المثاقفة في تطوير النظر ولا سيما مع فجر العصر الحديث وبوادر النهضة العربية الإسلامية”.
ولئن كانت مسألة علاقة الفن بالفقه قد حُسِمت تقريبا بشكل ضمني مع مرور الزمن فقد ظلت معضلة علاقة الديني بالسياسي تراوح مكانها والحال أن الاعتقاد كان سائدا “أنها قد حُسِمت لا سيما بعد نشأة الدولة الوطنية الحديثة”. فكان تساؤل توفيق بن عامر حول استمرار هذه المشكلة وتأخر الحل منطلقا للنّظر والتمحيص في هذه العلاقة التي تميزت “بالتدابر والتنافر طوال التاريخ العربي الاسلامي الحديث والمعاصر”.
ويرى بن عامر أنّ من بين عوامل عدم الحسم في مسألة إرساء علاقة واضحة المعالم بين الديني والسياسي في الوطن العربي والاسلامي هو “ما ترسَّب في الذاكرة الجمعية من مخلفات الأنموذج القديم للعلاقة بين الديني والسياسي وهو أنموذج العلاقة الاندماجيّة التي تواصل وجودَها عبر التاريخ الإسلامي الى سقوط الخلافة العثمانية. ذلك أن السلطة التي وقع تكريسُها طوال عدة قرون قد قامت باسم الدين ثم سرعان ما تقمّصت شكل الملكية الوراثية المسنودة والمدعومة بالمسوّغات والمبرّرات الدينية وهو ما نظّر له الفقهاء بنظام الخلافة “.
ويرى الكاتب أنه وبالرّغم من المحاولات الجادّة في القيام بمراجعة هذه العلاقة خصوصا على يدي بعض المصلحين والمفكّرين إبّان عصر النهضة وقُبَيْلَ سقوط الخلافة العثمانية أو بعد سقوطها خصوصا من قبل المناصرين لفكرة الفصل بين الدين والدولة، إلا أن هذه المحاولات باءت بالفشل. بل أكثر من ذلك. اذ أن الطرح السّجالي الإيديولوجي الذي ظهر بُعَيْد سقوط الخلافة “اتخذ شكلا ثالثا مع ظهور حركة الإخوان المسلمين”. ويرى الدكتور توفيق بن عامر أن ذلك الطرح تمثّل في “تغليب الديني على السياسي من ناحية وفي نشر الدعوة لذلك المنهج ترغيبا وترهيبا وهو المنهج الذي اتخذته أغلب طوائف الإسلام الحركي في التاريخ العربي الإسلامي الحديث والمعاصر. وقد آل ذلك الطرح الى المناداة بالحكومة الدينية استنادا إلى نظرية الحاكمية”. وهي نظرية ذاع صيتها وبلغ صداها الآفاق خصوصا في مرحلة ما عرف بالربيع العربي في دول شهدت صعودا مفاجئا وسريعا لحركات الإسلام السياسي وخصوصا حركة الإخوان المسلمين في مصر والسودان وليبيا وتونس (حركة النهضة التي تنكر الانتماء العضوي إلى هذا التيار الديني).
من بين عوامل عدم الحسم في مسألة إرساء علاقة واضحة المعالم بين الديني والسياسي في الوطن العربي والاسلامي هو “ما ترسَّب في الذاكرة الجمعية من مخلفات الأنموذج القديم للعلاقة بين الديني والسياسي وهو أنموذج العلاقة الاندماجيّة التي تواصل وجودَها عبر التاريخ الإسلامي الى سقوط الخلافة العثمانية.
ولتجاوز هذا المأزق الذي لعبت فيه القوى الدولية دورا كبيرا حيث ساهمت في “تأجيج الصراع الأيديولوجي الداخلي وتوتير العلاقة بين الديني والسياسي من أجل مصالحها المرتبطة بالهيمنة على الثروات العربية”، كان لزاما تصحيح العديد من المفاهيم التي حفّ بها لُبسٌ كبير من ذلك مفهوم الهوية بوصفها “كائن حي متحرّك ومتطور” والجهاد في علاقته الملتبِسَةِ بمفهوم الإرهاب والعلمانية التي لطالما تم اعتبارها منطلقا للقطيعة مع الدين.
شذرات حضارية
لم يكن المبحث الحضاري والتاريخي بمعزل عن اهتمامات الدكتور توفيق بن عامر اذ خصّه بجزء مهم في هذا الكتاب الوارد في 209 صفحة ويقسّمه إلى أربعة فصول أوّلها تعلّق بمسألة تٌعَدّ من بين أكبر المسائل التي شغلت أذهان علماء الأمة وفقهاءها وهي ما اصطلح على تسميته بمسألة حركة التدوين أو الانتقال من المشافهة إلى الكتابة وما لها من تأثير على مسار العقل العربي. ومن منطلق اهتمامه وشغفه بهذا المبحث الذي كان من جملة المواضيع التي اشتغل عليها الدكتور توفيق بن عامر خصص جزءا من كتابه للحركة التدوينية التي شهدت اختلاف العلماء حول تاريخ انطلاقتها الحقيقية إمّا في منتصف القرن الثاني للهجرة أو في القرن الثالث. غير أن بن عامر يعتبر أنه “لا يمكن أن تكون حركة التدوين وليدة منتصف القرن الثاني للهجرة (…)”. ومردُّ هذا الراي أن “تلك الحركة قد كانت بمثابة المشروع الذي استغرق انجازه مُدّة من الزمن ليست بالقصيرة وقد امتد ذلك الانجاز على مراحل وتدخلت في مصيره عوامل شتى وترعرع في أحضان البيئة الشفوية التي واكبته مدة من الزمن تواصلت حتى بعد منتصف القرن الثاني للهجرة”.
وعلى ذلك فالدكتور توفيق بن عامر يقرّ بأن حركة تدوين العلم “هي بمثابة نسق له طرفان : طرف النشأة وطرف الاكتمال”. ويعتقد بن عامر ضمن فرضيّات طرحها أمام كل مؤرخ يروم الغوص في هذا المجال، أن مشروع حركة التدوين كان “في جانب كبير منه ببلاد الشام في ظل السلطة الأموية بدمشق خلال القرن الأول للهجرة”. وقد شهد هذا المشروع تطورا كبيرا على المستويين الكمّي والنوعي “في مواده وحوامله وفي أشكاله ومحتوياته إذ حدث الانتقال في التدوين من الصحائف الى الكراريس الي الدفاتر ومن البردي والرق الى الورق والكاغد، ومن الأخبار والأحاديث الى سائر العلوم الاسلامية”.
ويقرّ بن عامر أن الفضل في هذا التطور الملحوظ في حركة التدوين يعود أساسا الى لإرادة السياسية للخلافة الأموية بداية بمؤسس الخلافة معاوية بن أبي سفيان (حيث تذكر المصادر حسب الكاتب وجود مؤسسة بيت الحكمة في عهده) مرورا بعهد عبد الملك بن مروان وصولا الى الخليفة عمر بن العزيز، الذي كان “بمثابة المحرّك لعملية الجمع والتدوين” ثم الخليفة هشام بن عبد الملك من بعده. وعزا الكاتب هذه الإرادة السياسية القوية الى أربعة عوامل صنّف ثلاثة منها الى مستويين : أولهما سياسي ومن ذلك “الوعي بضرورة نشر الدعوة الجديدة في المجتمعات العربية والأقاليم المفتوحة ومواجهة مقالات الخصوم من المعارضين السياسيين” مثل القدرية كغيلان الدمشقي والجعد بن درهم وقتادة بن دعامة السدوسي، وثانيهما التشريعي ومن ذلك “الاستجابة لحاجة المؤسسة القضائية إلى النصوص التشريعية والى علم القضاء السابق والمنقول عن معاذ بن جعل وعلي بن أبي طالب وغيرهما من قضاة السلف”. أما العامل الرابع الذي يعتقد الكاتب أنه ربما يكون “الجسر الذي مكن هذا المشروع من العبور من مرحلة الارادة والتصور الى مرحلة التنفيذ والانجاز” فهو تطوّر مؤسسة الديوان. ذلك أن الكاتب يرى أن “حركة التدوين تزامنت مع نشأة الدواوين وفي طليعتها ديوان الرسائل وديوان الخاتم (…)”.
ويرى الكاتب أن من أبرز العلماء الذين ساهموا في مشروع حركة التدوين وأشهرهم هو محمد بن شهاب الزهري (ت124 هـ) الذي لُقِّب بـ”عالم الحجاز والشام”. وقد نقَل عن الزهري تدوين الحديث والسيرة والمغازي علماء أفذاذ آخرون من بينهم محمد بن إسحاق والواقدي.
أما الفصل الثاني في هذا الجزء الرابع من كتاب “الوصل بين الضّفاف” فقد سلّط فيه الكاتب الضوء على “ملابسات قرار إلغاء الرقّ بتونس” في عهد المشير الأول أحمد باشا باي سنة 1846. وقد تناول الدكتور بن عامر هذا الموضوع من خلال مقاربة تأريخية ولكن أيضا اجتماعية ودينية وثقافية تناولت بالدرس الظروف التي حفّت بهذا القرار وتداعياته وهو قرار “منع بموجبه بيع العبيد في الأسواق وأمر بهدم الدكاكين المخصصة لذلك في المكان الذي يعرف اليوم بسوق البركة وبمنع تجارة العبيد في الموانئ التونسية”.
ويأتي هذا القرار بحسب الكاتب ضمن مسار كامل من التحوّلات الجيوستراتيجية الكبرى التي عرفتها المناطق الواقعة حول البحر الأبيض المتوسّط خلال القرن التاسع عشر. وقد كان لهذه التغيّرات الاقليمية والدولية تأثير كبير على رؤية المشير الأول أحمد باشا باي (1806-1855) وسياساته الاصلاحية حيث “اعتمد على سياسة الانفتاح على الغرب والتقارب مع الدول الأوروبية لا سيما مع فرنسا”. ويرى بن عامر أن هذا لتقارب كان له الأثر الكبير في “بعث حركة تحديثية شاملة تهدف إلى جعل تونس دولة عصرية على مختلف الأصعدة على غرار ما قام به محمد علي في مصر”. ولعلّ من بين مظاهر هذه الاصلاحات “تأسيس المدرسة الحربية بباردو (1840) وانشاء العسكر النظامي وبناء الثكنات ومصانع البارود”.
أما على المستوى الاجتماعي فيرى الكاتب أن قرار إلغاء الرق كان أحد أهم تجلّيات الحركة التحديدثية التي قادها المشير أحمد باشا باي، غير أن هذه الخطوة “لم تكن مجرّد بادرة تحديثية نابعة من ارادة محلية أو نتيجة تطور للأوضاع الاجتماعية أو حتى إجراء سياسيا مستقلا بل كان اتخاذه خاضعا لضغوط خارجية وإملاءات القناصل الأجنبية وخاصة قنصل بريطانيا”. ذلك أن هذا البلد كان يقاوم في تلك الفترة العبودية وتجارة الرقيق في المتوسّط. وبالتالي فالبعد السياسي هو العامل الرئيسي بحسب الكاتب، بالاضافة الى عوامل ثانوية أخرى، وراء إقرار نصّ إلغاء الرق بتونس.
ولم يغفل الكاتب في هذا الجانب من الوقوف عند صدى إلغاء الرقّ بتونس في أوساط العلماء والمشايخ والمُفْتين، حيث اعتبر أن ردودهم كانت “متنوعة ومواقفهم منه مترددة بين المساندة والاحتراز”، من ذلك الموقف المتحفّظ الذي أبداه كل من شيخ الإسلام الحنفي، محمد بيرم الرابع، وشيخ الإسلام المالكي، إبراهيم الرياحي. حيث كان موقفهما “يدل على الموافقة التي مبعثها طاعة ولي الأمر دون تحمّس واضح ودون تبرير شرعي أو تصريح بأن قانون الإلغاء يطابق الأحكام الشرعية”. أما الموقف المعارض صراحة فقد تبنّاه المفتي المالكي الشيخ محمد بن سلامة. أما الموقف المساند “قلبا وقالبا سياسيا وشرعيا” فقد تبنّاه بالأخص الشيخ أحمد ابن أبي الضياف، كاتب سرّ الباي.
وبالاضافة الى الاختلافات حول شرعية هذا القرار التاريخي الذي اتخذه أحمد باشا باي فقد كان لإلغاء الرق، بحسب الكاتب، تداعيات أخرى منها اعتراض أهل الجنوب وخاصة منهم أهل جربة والفلاحون بالواحات وعدم امتثالهم له. ويرى الكاتب أنه وبالرغم من تعثّر هذا المسار إلا أنّه “تواصلت مجهودات التأصيل الشرعي لذلك القرار والاجتهاد الديني المعمّق في هذه المسألة” مدعومة بإرادة سياسية من قبل الجنرال حسين “الذي ساهم في هذا المجهود التأصيلي”.
التجربة الصوفية بتونس
لم يكن من الهيّن على الدكتور توفيق بن عامر أن يُتِمَّ كتابه دون الوقوف عند قضيّة التصوّف وهو مبحث لطالما كان من اختصاصاته التي تكاد تكون حصريّة في تونس. فهو من المختصّين القلائل في مجال الدراسات الصوفيّة الذين أحاطوا بهذا الاختصاص في جوانبه الشاملة. فصاحب كتاب “دراسات في الزهد والتصوّف” وكتاب “التصوّف الإسلامي إلى القرن السادس الهجري”، ومؤسّس الجمعيّة التونسيّة للدراسات الصوفيّة قسّم مراحل تطوّر التجربة الصوفية في تونس إلى أربعة محطات رئيسية فارقة وهي مرحلة التمهيد ومرحلة التأسيس والمرحلة الولائية والمرحلة الطرقية.
فأمّا عن مرحلة التمهيد، فيرى توفيق بن عامر أنها مرتبطة “بحركة الزهّاد والنسّاك التي نشطت وازدهرت بإفريقية في القرن الثالث للهجرة في ظل الدولة الأغلبية إرهاصا وتمهيدا لنشأة الظاهرة الصوفية بتلك البقاع في العصور الموالية”. ويرى بن عامر أن أعلام الحركة الزهدية التي نشأ من رخمها التصوف قد تميزوا بخاصيتين وهما “ترك متاع الدنيا والتخافي عن أصحاب الجاه والسلطان” و”الجمع بين العلم والعمل”.
“الوصل بين الضفاف” للدكتور توفيق بن عامر من شأنه أن يساهم في إزالة الغشاوة عن عدد من أمّهات القضايا واعادة طرحها من جديد والنظر إليها من زوايا متجددة ومختلفة تُراعَى فيها كل القراءات والاستنتاجات بعيدا عن الإقصاء وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة. فالمعرفة ذات بعد تعددي وتمظهراتها راسية على ضفاف الحقيقة.
وأمّا مرحلة التأسيس لنشأة الظاهرة الصوفية التي تواصلت خلال القرنين الرابع والخامس للهجرة، فيشير الدكتور بن عامر أنها ” تميزت بعدم الاكتفاء بمراعاة حياة الزهد والفقر والمواظبة على التقوى والعبادة والتجافي عن المعاصي والذنوب” بل الانتقال الى “مجاهدة النفس وتزكية الباطن وخوض التجربة الروحية وهي من أبرز علامات الانتقال من الزهد الى التصوّف”. واعتبر الكاتب أن هذه الفترة قد شهدت، كما أشارت الى ذلك المصادر، بداية انعقاد مجالس خاصة للصوفية في بعض المساجد مثل مسجد السبت بالقيروان الذي كانوا يجتمعون فيه للمذاكرة كما انتشرت بعض آرائهم وطقوسهم في الأوساط الدينية كاعتقادهم برؤية الله في الدنيا حقيقة وتنظيمهم لحلقات لسماع الصوفي”. غير أن المناخ الثقافي والاجتماعي والسياسي في تلك الفترة جعل التيار الصوفي “يكتسي طابعا خاصا ويصطبغ بلون محدد منذ مرحلة التأسيس اذ التزم منذ نشأته بمبادئ السنة ومارس نشاطه ضمن حدودها”.
وقد أعقبت مرحلة التأسيس العصر الولائي الذي شهد خلال القرنين السادس والسابع بروز “المدرسة الصوفية التونسية مع كبار المتصوفة بافريقية الحفصية”. ويرى الكاتب أن من بين أسباب ازدهار المدّ الصوفي هو “دعم الموحدين وخلفائهم الحفصيين للحركة الصوفية بعد أن قاومها المرابطون”.
أمّا في ما يتعلق بالمرحلة الرابعة فقد تميّزت فيها الطرق الصوفية في تونس بالانتشار الواسع منذ القرن السابع للهجرة. ويعدّد في هذا السياق توفيق بن عامر الطرق الصوفية فنجد “القادرية والسلامية والعيساوية والشاذلية والرحمانية والتيجانية”.
وفي سياق حديثه عن تطور مراحل الحركة الصوفية في بلادنا، عرّج المؤلّف عن مآلات الطرق والزوايا الصوفية بعد الثورة. حيث واجهت العديد منها اعتداءات مختلفة خصوصا مع تنامي خطر المد السلفي وما رافق ذلك من حملات تكفير وهدم لأضرحة الأولياء الصالحين.
وفي ختام “الوصل بين الضفاف” ارتأى الدكتور بن عامر تخصيص هذا الفصل الأخير لتقديم قراءة موجزة لكتاب “أيام محمد الأخيرة للباحثة التونسية هالة الوردي. وقد أثار هذا الكتاب موجة من التفاعلات بين مرحّب بمضمونه وساخطا عليه لما تضمنه من معطيات يرى البعض أنها تتضارب مع البعض من المسلّمات التاريخية والدينية.
وبعد التقديم المادي للكتاب وعرض محتواه وفقراته وابرز ما جاء فيه من أفكار، عرّج على المعالجة الانتقائية التي اتسم بها هذا البحث من ذلك “انتقاء الروايات والأخبار التي تنسجم مع الصورة السلبية التي أرادت رسمها وتقصي غيرها من الروايات التي تبرز الجانب الإيجابي من الصورة”. كما توقف الدكتور بن عامر في قراءة نقدية مستفيضة لهذا العمل الصادر في فرنسا عند مستويات التناقض في طرح المسائل من قبل الباحثة مثلما هو الأمر في مسألة القرآن. وقد بلغ هذا التناقض حدّا “ما يفضي الى نسف البحث برمّته ونقضه من اساسه”.
لعلّه ليس من المبالغة في شيء القول أن كتاب “الوصل بين الضفاف” للدكتور توفيق بن عامر من شأنه أن يساهم في إزالة الغشاوة عن عدد من أمّهات القضايا واعادة طرحها من جديد والنظر إليها من زوايا متجددة ومختلفة تُراعَى فيها كل القراءات والاستنتاجات بعيدا عن الإقصاء وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة. فالمعرفة ذات بعد تعددي وتمظهراتها راسية على ضفاف الحقيقة.
تجدر الإشارة الى أن كتاب “الوصل بين الضفاف” سيكون محور لقاء فكري يلتئم يوم السبت 17 أوت بقصر بلدية القلعة الكبرى. ويندرج هذا اللقاء الذي سيضم نخبة من مثقفي الجهة في إطار الدورة التاسعة لمهرجان “مرايا الفنون بالقلعة الكبرى” من تنظيم جمعية إشراق للثقافة والفنون. كما سيتم في السياق ذاته تقديم كتاب “« Le miroir et l’horizon- Rêver la Tunisie» لمحافظ البنك المركزي السابق توفيق بكّار، وذلك يوم 24 أوت. علما وأن سهرة الافتتاح لهذا المهرجان السنوي التي تحمل عنوان “أنغام في الذاكرة” سيحييها كل من الفنَّانيْن، أصيليْ مدين القلعة لكبرى، نبيل خليفة وسيف الدين معيوف، وذلك يوم 16 أوت المقبل.