هيبا حميدي-
“أنا يا تونس الجميلة في لجّ الهوى قد سبحت أي سباحة، شرعتي حبك العميق وإني قد تذوقت مره وقراحه“، هكذا تغنى أبو القاسم الشابي بتونس حبا في هوائها وشمسها وترابها، وأرّخ قصيدته هذه سنة 1925، وبعد أكثر من نصف قرن ترجمت تونس نص القصيد وقررت استغلال مميزات طقس تونس وثرواتها الطبيعية، وفي سنة 2005 قامت بإحداث الصندوق الوطني للتحكم في الطاقة الذي يمثل حجر الزاوية للسياسة الوطنية للتحكم في طاقة سعيا لمجاراة التغيرات المناخية والمُضي أشوطا في برنامج الانتقال الطاقي عبر التحكم في الموارد الطاقية وخلق طاقات بديلة ومتجددة، باعتبارها اصبحت أبرز اسس للاقتصاد الحديث.
ولتحقيق برنامج الانتقال الطاقي توجهت الدولة الى القطاع العام والخاص، عبر ترشيد الاستهلاك وتقديم بدائل جديدة عن الموارد الطاقية التقليدية خاصة في مجال التنوير.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار القطاع العام، يمكن القول إنّ الوكالة الوطنية للتحكم في الطاقة راهنتعلى البلديات، وسعت إلى دفعها نحو الانخراط في المجهود الوطني للتحكّم في الطاقة، عبر برنامج “تحالف البلديات من أجل الانتقال الطاقي” بهدف مساعدة البلديات على ضبط وتنفيذ إستراتيجيات محلّية للانتقال الطاقي، وذلك على مستوى البناءات والتجهيزات والمنشآت البلدية والأخرى التابعة لها.
ووفق بيانات تحصلنا عليها من الوكالة الوطنية للتحكم في الطاقة، قامت الوكالة باختيارعدد من البلدياتالنموذجية قصد التمتع بالإحاطة الفنية اللاّزمة لتنفيذ إستراتيجيات محلّية مندمجة للانتقال الطاقي ووضع علامة الجودةالطاقية “ACTE-MEA” على المستوى المحلي وتمويل مشاريع طاقية ذات أولوية.
إحداث علامة الجودة الطاقية ACTE / MEA وتجربتها مع البلديات النموذجية
عملت الوكالة الوطنية للتحكم في الطاقة على تقديم كافة أنواع الإحاطة للبلديات لدفع الاستثمار البلدي في مشاريع النجاعة الطاقية والطاقات المتجددة،وتتمثّل هذه الإحاطة عبر إحاطة قانونية ومؤسساتية فيما يتعلّق باللّجوء إلى مؤسّسات الخدمات الطاقية، وإحاطة فنيّة من خلال توفير خبراء لمرافقة البلديات، وإحاطة ماليّة من خلال آليات تمويل خصوصيّة لمشاريع النجاعة الطاقيّة بالاعتماد على القروض والمساعدات التي يمنحها صندوق القروض ومساعدة الجماعات المحلية والمنح والحوافز التي يمنحها صندوق الانتقال الطاقي.
وقد تم إسناد علامة الجودة الطاقية لفائدة 11 بلدية تونسية من جملة 14 بلدية تمت مرافقتها في هذا المسار.
ووفق البيانات التّي تحصلنا عليها والراجع تاريخها إلى ديسمبر 2024، فقد تم إنجاز مشاريع تصب في خانة التحكم في الطاقة والانفتاح عن الطاقات الجديدة، في مختلف مجالات برنامج الانتقال الطاقي (تنوير عمومي، طاقات متجددة، نقل، بناءات، …)، بالإضافة إلى مشاريع تهم كافة البلديات وتتعلق بإنجاز أدلة فنية حول الحوكمة الطاقية المحلية والتصرف في مياه الأمطار والبناءات الإيكولوجية وإعداد أمثلة التهيئة العمرانية المستدامة، وغيرها من المشاريع البديلة للطاقات التقليدية.
وتوزع المشاريع وفق الرسم البياني الاتي:
عمليات تدقيق طاقي شامل للمنشآت البلدية تساهم في خلق مشاريع طاقية جديدة
ومن خلال التوجه بالاستفسار الى الوكالة الوطنية للتحكم في الطاقة عن مدى انخراط مؤسّسات الدولة في برنامج الحفاظ على الطاقات واعتماد طاقات أخرى بديلة، والبحث عن نتائج انخراط البلديات في برنامج الانتقال الطاقي من حيث عددها وتوزعها الجغرافي وأشكاله (تنوير عمومي اسطول سيارات…. )، بيت المعطيات التي تحصلنا عليها،ان مشاريع التحكم في الطاقة تتوزع بين مشاريع تجديد شبكة التنوير العمومي والإنارة الداخلية للمباني وتجهيز المباني البلدية بأنظمة الإنتاج الذاتي للكهرباء بالاعتماد على الطاقة الشمسية ومتابعة أسطول النقل وتكوين السواق في مجال السياقة الاقتصادية وتكوين الأعوان الفنيين في استعمال التكنولوجيات الحديثة .
كما قامت الوكالة الوطنية للتحكم في الطاقة بتكليف مكاتب دراسات قصد إنجاز (مباني وأسطول السيارات وشبكة التنوير العمومي) لـ 350بلدية.
وشملت مهمة التدقيق الطاقي للبلديات على نشاطين رئيسيين. حيث يتمثل النشاط الأول في إجراء عمليات تدقيق الطاقي للممتلكات لـ 350 بلدية ويتمثل النشاط الثاني في إحداث منظومة متابعة استهلاك الطاقة بالبلديات.
وقد مكنت عمليات التدقيق الطاقي من ضبط الممتلكات البلدية والتي توزعت خلال سنة 2021 على 3063 مبنى بلدي و9014 وسيلة نقل و708 ألف نقطة ضوئية.
وساهمت عمليّات التدقيق الطاقي من إعداد جملة من مشاريع التحكم في الطاقة لفائدة البلديات بكلفة جمليه تقدر بـ 600 مليون دينار واقتصاد في الطاقة في حدود 80 مليون دينار سنويا، أي ما يعادل 66 ألف طن مكافئ نفط سنويا، وتجنب انبعاثات تقدر بـ 147 ألف طن مكافئ ثاني أكسيد الكربون.
*ستمائة مليون دينار هي كلفة المشاريع التحكم في الطاقة لفائدة عدد من البلديات
مشاريع الانتقال الطاقي فرصة جديدة لاستغلال الثروات أماستنزاف للموارد الطبيعية؟
في ظل التحديّات البيئية الراهنة والتغيرات المناخية تسارعت المساعي من أجل خلق موارد طاقية جديدة صديقة للبيئة وتحافظ على حقوق الأجيال القادمة، وقد انخرطت تونس في برنامج الطاقات البديلة حيث تهدف بلادنا الى لبلوغ نسبة 35% من الطاقة البديلة خلال السنوات الخمس القادمة ( 2030)، ورغم انّ تونس رسمت استراتيجيّة وطنيّة لقطاع الطّاقة بهدف ضمان الأمن الطاقي وتعزيز السّيادة الطاقيّة في أفق سنة 2035،فإنها لا تزال تواجه عديد التحديات أبرزها ارتفاع عجز الميزان التجاري الطاقي وغياب الاستثمارات في قطاع الطاقات البديلة وعدم توفير مقاربة اجتماعية لاحتواء هذه المشاريع.
وفي هذا السياق اعتبرت بوصلة ان نسبة مساهمة الطاقات المتجددة المطروحة كأول بديل نحو هذا التحول الطاقي لا تتجاوز سوى 3% من المزيج الطاقي التونسي وهي نسبة ضئيلة جدا وبعيدة عن الهدف المرسوم وطنيا لسنة 2030 .
ولفتت بوصلة في دراسة منشورة على موقعها الرسمي تحت عنوان الانتقال الطاقي والاستثمارات “الخضراء” في تونس: عناوين جذّابة لتبعية متواصلة،”أن ما يطلق عليه عبارة الانتقال الطاقي في السياق التونسي لا يتضمّن مشاريع لتنويع مصادر الطاقة التي يتطلبها المجتمع التونسي، بل يشير لمواصلة نفس النموذج الطاقي مع توفير الأراضي، المياه والبنية التحتية التونسية لصالح المستثمرين الأجانب ولغاية التصدير”.
واعتبرت “أنّ هذه المشاريع مرتبطة آليا بالاقتراض من المؤسسات المالية الدولية لإنجازها وهو ما يؤدي بالبلاد إلى مزيد التداين. وقد كان آخر هذه القروض الاتفاقيات الثلاثة التي تم المصادقة عليها في “مجلس نواب الشعب” لتمويل مشروع ELMED الهادف لتحقيق الترابط الكهربائي بين تونس وبإيطاليا ولدعم انتاج الطاقات المتجددة والذي مثّل استكمال تمويله أحد بنود مذكرة التفاهم التي أمضاها قيس سعيد في جويلية 2023 مع الاتحاد الأروبي”.
ونبهت البوصلة “مثل التأثير على الإطار التشريعي أحد عناصر ال “modus operandi” الذي تقوم عليه استراتيجيات دول الشمال لاستغلال ثروات الجنوب العالمي.
تحذيرات من مخاطر إنتاج الهيدروجين الأخضر
حذرت البوصلة ممّا أسمته خفايا ومخاطر إنتاج الهيدروجين الأخضر ، وقالت “وقّعت تونس مذكرة تفاهم يوم الاثنين 27 ماي 2024 مع مجمع الشركات الفرنسية “توتال للطاقات” والنمساوية “فاربوند” لتطوير وإنجاز مشاريع للهيدروجين الأخضر في تونس، وبمقتضى هذه المذكرة، ستحصل أوروبا على الهيدروجين الأخضر ما يمكنّها من تحقيق أهدافها المتمثلة الترفيع من نسبة الطاقة من مصادر نظيفة ومن تخفيض التبعية تجاه الغاز الروسي مع تحقيق أسواق جديدة لاستثماراتها بما أن الشركات الأروبية ستستفيد من التصنيع وبيع التّكنولوجيا والخبرات اللازمة لهذه المشاريع، “في المقابل، ستوفر تونس الموارد الطبيعية اللازمة لإنتاج الهيدروجين الأخضر، مثل المياه والأرض بتكاليف منخفضة للغاية، ومع ذلك، ستتحمل تونس التداعيات البيئية والاجتماعية الناتجة عن هذه المشاريع، مما يعكس، مرة اخرى، تقسيمًا عالميًا غير عادل للعمل والثروات”.
ولفتت بوصلة الى ان “بلادنا تواجه أزمة مائية حادة، حيث تُصنف من بين الدول التي تعاني من ندرة المياه. بلغ نصيب الفرد من المياه في تونس حوالي 390m3 متر مكعب للفرد سنويًا (حسب منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة سنة 2020)، وهو أقل بكثير من حد الفقر المائي العالمي البالغ 1000 متر مكعب. في هذا السياق، يشكل إنتاج الهيدروجين الأخضر تحديات إضافية، إذ يتطلب كميات كبيرة من المياه لإجراء عملية التحليل الكهربائي”
وأشارت الى انّ “عملية إنتاج كيلوغرام واحد من الهيدروجين الأخضر، تحتاج من 10 الى 15 لترا من الماء ومع ذلك، يقدر أن الكيلوغرام الواحد قد يحتاج من 20 إلى 30 لترا، ويرجع ذلك أساسا إلى عدم فعالية بعض طرق معالجة الهيدروجين في الظروف الطبيعيةفي ظل شح المياه في تونس، سوف يُلجأ إلى تحلية مياه البحر كحل بديل لتلبية احتياجات إنتاج الهيدروجين الأخضر، إلا أن هذه العملية تحمل آثارًا بيئية سلبية. ينتج عن تحلية مياه البحر ما يعرف بالمحلول الملحي المركز، والذي يتم التخلص منه في البحر. هذا يؤدي إلى ارتفاع نسبة الملوحة في المياه البحرية، مما يؤثر سلبًا على الحياة البحرية والتوازن البيئي. الدراسات تشير إلى أن التخلص من المياه المالحة المركز يمكن أن يرفع نسبة الملوحة في المناطق المحيطة بمحطات التحلية بنسبة تصل إلى 50%”.
وواصلت المنظمة بالإشارة الى أنّتقنيات الطاقة الشمسية هي الأخرى،تتطلب كميات كبيرة من المياه لغسل العاكسات الشمسية ولعملية التبريد باستخدام المياه في بيئة صحراوية وهو ما يمثل تهديدا كبيرا للموارد المائية في تونس. في مقارنة بالتجربة المغربية، دعت العديد من الشركات الألمانية الكبرى في مشروع مجمع نور للطاقة الشمسية في المغرب الى اعتماد تقنية CSP وتم اعتماد هذه التقنية دعما لمصالح الشركات الألمانية المصنعة ودعمت من البنك الدولي وبنك التنمية الألماني رغم الاستخدام المكثف للمياه التي تستجوبه هذه الطاقة. يجدر بالذكر ان المغرب، كنظيرته تونس يعاني من “ازمة مائية هيكلية”، وفقًا للبنك الدولي”.
لئن تعدّ مشاريع الانتقال فرصة واعدة نحو الاستثمار في الموارد الطبيعية وخلق مشاريع استثمارية ناشطة ومواطن شغل جديدة والتطور بالميزان التجاري الطاقي للخروج من العجز والتبعية، إلا أنّها مشاريع يجب أن تتمّ في إطار مقاربة اجتماعية واقتصادية متكاملة لتكون مشاريع تونسية خالصة لا تسقط في فخ التبعية للخارج ولا في مأزق استنزاف الموارد الطيبعية..
*أنجز هذا العمل في إطار دورة تدريبية مدعومة من مركز تطوير الإعلام