فيما تتراقص أغصان الأشجار على إيقاع الرياح للتي تحمل بين ثناياها حبات مطر ظلت طريقها إلى الثرى، يسري الدفء في البهو السفلي لمدينة الثقافة حيث ارتسمت ملامح عيد الربيع الصيني.
عيد الربيع الصيني المدرج على القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية، لاح بألوانه وأصواته وروائحه وكل ما يؤويه في طياته من جمال وأصالة ووشح مدينة الثقافة بعبق صيني آسيوي يسحر الوجدان.
على جنبات البهو السفلي للمدينة تتناثر ابتسامات الصينيين وخاصة الوفد القادم من مدينة تشنغدو للترويج الثقافي والسياحي بعنوان “نظرة على الثقافة الصينية”، وتتجلى معالم المدينة التي تُحاكي تفاصيلها الحلم.
بين الأروقة تبدت بعض من ثقافة المدينة الموشحة بالألوان والنابضة بالحياة واشرأبت الأعين إلى تفاصيل الرسومات والمعلقات وحاملات المفاتيح والأكسسوارات وحلوى السكر وغيرها من الأشياء الباعثة على الفرح.
التنين، طائر الكنز الصيني، والثعبان، كائنات رمزية في الصين تطالعك على امتداد التظاهرة التي انتظمت بالتعاون مع مسرح أوبرا تونس وتنغمس بك في حكايات مغرية وملهمة تقف في منزلة بين الحقيقة والأسطورة.
وكلما أوغلت أكثر في الأشكال والألوان وانغمست في حركات الوفد القادم من تشنغدو واتبعت حركات أنامله التي تتجانس مع ابتساماته ومع الشرح المستفيض لتفاصيل الصناعات اليدوية وما تنطوي عليه من فن وحكي.
بلغة بسيطة وسلسلة وبكلمات تراوح بين الإنجليزية والعربية المعمّدة بلكنة صينية يحاول القائمون على الأروقة تبسيط مراحل صناعة التحف والأشياء المعروضة ويسافرون بك زمانا ومكانا.
ولعل ما يميز هذا المعرض هو إقبال الأطفال عليه سواء من التونسيين أو الصينيين المقيمين بتونس حيث عززت ضحكاتهم وأصواتهم الدفء الذي قطع مع البرد اللاذع في الخارج.
“علموا الأطفال وهم يلعبون” حديث يتناهى إلى بالك وأنت تلاحق حلقات أعين الأطفال وهي تتسع على نسق الأحاديث القادمة من مدينة تشنغدو على ألسنة الوافدين منها أو ألسنة أولائهم.
ولا يكتفي الأطفال بالاستماع بل يتساءلون عن بعض التفاصيل ويلاحقون الأجوبة وهم يلتهمون الحلويات التي شكلتها أنامل تجيد محاكاة الواقع حتى أنك تخال أن للحلوى روح لدقة تشكيلها.
وبينما ترقص كل الحواس على إيقاع الجولة في ثنايا تقاليد المدينة الصينية التي تحمل الكثير من الروايات سارعت الأنظار الى الركح مع حلول سفير جمهورية الصين الشعبية في تونس “وان لي” ومدير عام مسرح الأوبرا سيف الله الطرشوني.
عن عراقة العلاقات الديبلوماسية بين تونس والصين وامتدادها على ما يزيد عن الستة عقود وعن الروابط الثقافية بين البلدين وعن التعاون في المجال الثقافي والفني تحدث السفير.
كما تحدث أيضا عن مدينة تشنغدو الآسرة التي تنبض تاريخا وثقافة وفنا وتغوي باكتشاف تفاصيلها التي تمتد على أربعة آلاف سنة جعلت منها مزارا وقبلة لا يخيب من يولي وجهه شطرها لما يتخللها من شاعرية وجمالية يتقاطع على أعتباهما الخيال والواقع.
إلى عيد الربيع والاحتفالات التقليدية في الصين تطرق السفير الذي دعا الحضور إلى الانغماس في العروض الموسيقية والراقصة القادمة من رحم تشنغدو ومن قلب الثقافة الصينية التي تجيد مغازلة الحواس.
ومن جهته تحدث مدير عام مسرح الأوبرا عن المخزون الثقافي الصيني وعن التعاون الدولي الثقافي بين الصين وتونس وعن كون تظاهرة “نظرة على الثقافة الصينية” بوابة لإبراز الخصوصيات الثقافية بمدينة تشنغدو.
كما شارك سفير الصين الرأي بخصوص تكثيف التعاون بين المدن الصينية والتونسية لإظهارها ثرائها الثقافي والفني على غرار الاتفاقية التي جمعت بين مدينة تونس ومدينة تشنغدو في هذا الخصوص.
وإثر حديثه عن رحلة الانغماس في تاريخ تشنغدو العريق وثقافتها وفنونها العتيقة رقصت كل الحواس وتكثف الإحساس فيما تعالت الموسيقى مؤذنة بانطلاق العروض الراقصة وضاعت رائحة مميزة في الأرجاء.
في كل الزوايا تطالعك الباندا التي تذكرك بقاعدة تشنغدو لأبحاث تربية الباندا العملاقة والباندا الحمراء والبحث حولها وتغازلك الألوان التي تزينت بها أزياء ثلاثة راقصات وراقص زينوا الركح بكوريغرافيا تقليدية.
ألوان الحياة تهاطلت أمام الحاضرين وبدت الراقصات وكأنهن وردات من حديقة تشنغدو الساحرة عبر أزياء تبرز منها بتلات مطرزة بعناية أججتها دقة الخطوات وخفة الحركات.
رقصة صينية تقليدية تأسر البصر وتعاضدها الموسيقى فتسحر السمع وتغمرك ابتسامات الفريق الراقص على الخشبة فتنصهر معها وأنت تتبع انحناءات الأذرع وامتدادها والتحام الأقدام بسطح الركح وارتفاعها بسلاسة.
وبين الخطوات والنغامات تتسلل صور المدينة القادمة من عوالم خيالية على الشاشة في مشهديات تحيل إلى عوالم القصص والروايات حيث الطبيعة العذراء واناشيد الطيور وهمسات الأشجار والنباتات وبوح التربة والرمال والمياه.
بعد وصلة الرقص التي تثير ملكة الخيال على ما تحمله من بساطة يعتلي الركح رجل بزي أحمر مطرز في يمين القميص بلون ذهبي يخطف الأنظار، ويتحرك على طول الخشبة جيدة وذهاب ويستعرض سرعته وخفته.
قفزات، انحناءات، تهاو، سقوط، فوثبات، بعض من ملامح عرض دفاع عن النفس بالاسلوب التقليدي الصيني الذي رافقته صور من عمق الطبيعة وأصواتها التي اختلطت بأنفاس المقاتل الذي تسلح بسيف صار أنيسه في عرض يجمع بين الفنون القتالية والأدائية.
وعلى صدى صليل السيف غادر صاحب الزي الأحمر الركح تاركا محله لعازفة صينية تجيد مناجاة “الإرهو” وهي آلة وترية تقليدية صينية تحكي بصوت عميق وعذب تخال أنه بوح روح هائمة في عالم شاعري.
فيما تحضن العازفة آلتها الضاربة في القدم وتلتحم بها وبعصاها التي تُقبّل الأوتار فترد بألحان تخترق القلب دون إيذان وتراود الحس والحواس وهي تعلو وتخفت في نسق غير خطي يحاكي مسارات الحياة.
صوت آسر تدره الآلة التي تٌصنع من جلد الثعبان بكل ما يحمله من رمزية وهو ما يجعل صوتها متفردا مميزا غير قابل للاستنساخ، صوت عذب رنان مارق عن كل الخانات والتصنيفات.
في أكثر من وصلة موسيقية، توشحت الخشبة بابتسامة العازفة التي كانت تغمض عينيها كلما هزت العصا بأصابعها المنسابة بسلاسة، أو استعاضت عنها بأناملها وداعبت الأوتار مباشرة ليتغير الصوت تماما ولا تغادره هالة السحر.
الياسمين الصيني، الاحصنة، النساء اللاتي يشبهن الحوريات، كل الأزهار والورود وتفاصيل الطبيعة تجلت في الشاشة التي تتوسط الركح وسايرتها الموسيقى والرقصات وفن الدفاع عن النفس.
ولم تكتف تظاهرة “نظرة على الثقافة الصينية” التي تنتظم على امتداد يومي 14 و15 جانفي 2024 بلوحة راقصة واحدة وإنما تعددت اللوحات لتظهر الثراء الفني والثقافي لمدينة تشنغدو حيث تواترت الكوريغرافيا وتناثرت معها الألوان والتفاصيل اللافتة.
تصاميم الأزياء، التطريزات المختلفة، الحلي، تسريحات الشعر، تفاصيل ساهمت في خلق مشهدية نابضة بالثقافة الصينية، مشهدية عنوانها الابتسامة الدائمة التي تتزين بها وجوه الراقصين قبل ثوان من اعتلائهم الركح ولا تغيب إلا بنزولهم عنه.
ولعل من بين اللوحات الطريفة والمميزة في التظاهرة العرض الفردي الذي أجراه وافد من تشنغدو مرتديلا زيا أخضرا يحاكي الطبيعة هناك، وتحرك فيه بخفة ورشاقة وهو يغير الأقنعة التي تخفي وجهه وتغازل الحضور كبارا وصغارا.
أقنعة تحاكي رموز صينية لكائنات تقف في منزلة بين الرقة والشراسة طوعها صاحب الزي الأخضر حتى أسقطها كلها وكشف عن وجهه المبتسم وسط سيل من التصفيق وذلك بعد أن اختفى وراء المروحة الصارخة في حضورها.
ومما يميز هذه الفقرة هو تحرر صاحبها من الركح والتحامه مع الحضور في بهو مدينة الثقافة حيث صافح العديد منهم وهو يبدل الأقنعة ويحتفي بهم، وفي حركة المصافحة دعوة لزيارة مدينة تشنغدو، دعوة تجلت أكثر من كرّة.
هذا العرض الذي ترشح منه الحفاوة كان خاتمة اليوم الترويجي الأول للثقافة في تشينغدو وبعده تحلق الحضور حول أصناف المأكولات التي تشتهر بها المدينة المعترف بها من قبل منظمة اليونيسكو بصفتها متخصصة بفن الطهو وكونها عاصمة للمطبخ الصيني العريق.
*الصورة من صفحة سفارة الصين بتونس