لافايات وشارع باريس والطرق الموشحة باللون البنفسجي الأخاذ، مشهدية شاعرية وجمالية تتهافت إلى ذهنك على أعتاب “جاكراندا” المشروع المسرحي الجديد الذي يجمع الكاتب عبد الحليم المسعودي بالمخرج نزار السعيدي.
عنوان العمل يحملك إلى تفاصيل متحررة من واقعها على وقع احتفاء شجرة الجاكراندا بالفضاء الذي تسكنه وتحويله إلى لوحة تتشرع معها أبواب الخيال حينما تتناثر الزهرات البنفسجية على الجنبات.
المشهدية الموغلة في الرومانسية التي تتجلى في ثناياها انسيابية الزهرة البنفسجية التي تعانق الأرصفة والحيطان والوجوه والشعور تتقاطع مع التراجيديا في ركن آخر من الفضاء المسكون بالوجع.
“تراجيديا مركز نداء” ترجمة عنوان العمل باللغة الإنجليزية CALL CENTER” “TRAGEDY تتباين معها مسارات التأويل وتحمرّ زهرات الجاكراندا على نسق المأساة ويستوي الدم وأحمر الشفاه.
على امتداد مساحة زمنية مثقلة بالأسئلة، تهاطلت المشاهد على ركح قاعة الفن الرابع في عرض أول ل “جاكراندا – CALL CENTER TRAGEDY”، نص ودراماتورجيا عبد الحليم المسعودي، وإخراج وسينوغرافيا نزار السعيدي، ضمن إنتاجات المسرح الوطني الشاب لسنة 2025.
على إيقاع زمن هش، ومكان يتلبس فيه الصمت بالصراخ تتالى القفازات في قلب الفجوة، لا نية لملئها أو طمسها كل ما في الأمر أن هذا العمل يشير إليها، يدس أصابعه في جروحها.
هذه الفجوة تختال فيها أجيال تلوّح لها السوداية من بعيد ويطالعها الركام من كل الزوايا عبر حكايات مثقلة بالاحلام المبتورة والذكريات النازفة ومستقبل لا يتزحزح من طابور المجهول.
على الركح لا شيء يحيل إلى الراحة والخفة والهدوء، وشاح من التوتر والقلق يغمر كل التفاصيل وتنهمر معه الحكايات المثقلة بالذكريات الفردية والجماعية وفي ظلال العتمة يتراءى مركز نداء مارق عن المعايير.
هذا المركز ليس فضاء وظيفيا تتناوب فيه الأسئلة والأجوبة بل مساحة تتزاحم فيها الأسئلة بطرق مختلفة وتتحسس عبثا طريقها نحو الإجابات، مرآة متشظية تتصارع فيها تمظهرات ذاكرة جماعية عالقة في فجوة الزمن وتجليات وعي فردي خنقته محاولات الخلاص.
في “جاكراندا” المشاهد ليس أمام سرد كلاسيكي بل في مواجهة سردية متشظية وتوترات عرضيّة وسط مشاهد يتماهى فيها الثبات والانهيار فيما تعترف الشخصيات ويتلاشى التواصل في تضاد مع رمزية مركز النداء.
سياق درامي مشحون بالأسئلة يتجاوز الخشبة ليمتد إلى الفضاء العام حيث يحاول الجميع أن يعيش دون أن يحيا ويرسم تراجيديا يغزوها الشك والصمت والمأزق ويصدح فيها الوعي المشتت ويتكثف فيها الضياع.
إلى ما بعد الثورة، ما بعد الأمل، ما بعد المعنى، حمل صناع العمل المشاهد إلى نهاية العشرية الثانية من الألفية الثالثة، حيث تتعاظم القطيعة بين الإنسان ومغزى وجوده وتغدو الذاكرة ذرات تتطاير في فضاء رتيب ومغلق.
مركز النداء بكل ما يحيل إليه في مخيالنا من ضجيج وصخب وأجوبة وتواصل واتصال يبتلع شيئا فشيئا كل الأصوات ويعيد صياغتها في شكل عزلة جماعية ما إن تتدانى فيها العلاقات حتى تتجافى.
في ثنايا العلاقات المتشابكة والمشاعر المعقدة والمعمدة بالزيف والخيانات ومن وراء القفازات والأقنعة يشكل هذا المشروع المسرحي المطرز بالفن والفلسفة والواقع برزخا يحفظ الذاكرة التي رفضت أن تفرط في جماليتها.
هذه الجمالية مرتبطة بجانب طفولي بريء تتهادى في دروبه زهرات الجاكراندا وزقزقات العصافير وحكايات الجدات ويتجلى فيها الوشم وكل الأشياء البسيطة التي تحصن الإنسانية من العطوب.
المسرحية على طولها وتمطط بعض مشاهدها، لا تتقاطع مع الملل فهي تغازل كل الحواس وتغوي بالتفكر والتأويل حينما تعيد تمثيل الأزمة وتسقط أوراق التوت عن ميكانيزماتها فتتحول الخشبة إلى مشرحة.
شهادات متناثرة صاغها عبد الحليم المسعودي في شكل بوح جماعي تهتز له الذاكرة في تصور جمالي يتقاطع مع الطرح الإخراجي بدت فيه الكلمات كقطع الزجاج المتناثرة عقب تشظي المرآة التي تستبطن حقائقنا.
نص مراوغ يجمع بين التصريح والتلميح، يزاوج بين اللغات واللهجات والإيحاءات وينبش في الوجع والخيبة والخيانة والرغبة والخلاص، ويعيد كتابة الاعترافات المعلقة على حافة الأزمة.
في مفترق بين اللغوي والوجداني يتنزل النص الذي يتشابك فيه الشعري بالفظ والنخبوي بالعامي والذاتي بالموضوعي والفردي بالجماعي والريفي بالحضري وغيرها من الثنائيات التي تغذي السرد.
كلمات تسائل المعنى والهوية والجيل دون محاكم أو مشانق، يتحرر فيها الحوار من السائد وتتخذ المونولوغات والحوارات الثنائية والجماعية على قلتها هيئات مختلفة ؛ مناجاة وعتاب ولوم وبوح وانعتاق وصمت مدقع وانكسار وعويل أشبه بالزغاريد.
سيل من الكلمات المعتقة ينساب من أفواه الممثلين ويتكرر بعضها ويرتطم بالخشبة ويتفتت ويستحيل حروفا تتحرر من معناها وتتشكل من جديد لتعود إليه بوجه آخر يتخذ هويته من صراعات جيل يترنح من فرط الخيبات.
هذه الصراعات رسمتها الشخصيات بصور مختلفة في أداء لافت للممثلين حمودة بن حسين، وأصالة كواص، وأنيس كمّون، وثواب العيدودي، وحلمي الخليفي، ومريم التومي، ومحمد عرفات القيزاني، وحسناء غنام.
حضور جماعي متناسق يتخذ فيه الأداء الفردي شرعيته ومشروعيته وسط اللعب الجماعي ويتقمص فيه الممثلين حالات وجودية تذكرنا بين المشهد والآخر بأن فكرة الخلاص الجماعي هي الأصل وإن بات الأمر اليوم طوباوية صرفة.
الممثلون مثقلون بالشخصيات المرهقة، حركاتهم تنهل من التوترات والتشظي ونظراتهم تائهة وأصواتهم تحاول طمس الصمت المدوي وأجسادهم باتت مساحة للتراجيديا الصاخبة التي تحرك العصف داخل المتفرج.
معا يشكل الممثلين أوركسترا تعزف نغمات مختلفة وتخلق فوضى صوتية تنهل من الواقع تعاضدها أخرى بصرية يصنعها التدافع الناعم على الخشبة حيث تجسد كل شخصية حالة متفردة ويحمل كل جسد أثرا من البلاد، من الإحباط، من الأمل المؤجل.
الحركات في ثنايا الركح تحاكي رقصات ثقيلة تنسج ملامح محاولات مستحيلة لاختراق الجدران الممتدة إلى ما بعد الخشبة حيث لا ابتسامات ولا فرح، لا شيء غير مزيج من الصدمة والرغبة في الهروب.
إيقاع متماسك للممثلين على الركح رغم التشظي والتفكك يروح بين لحظات العبث والاعتراف والتهكم والحزن العاري على إيقاع إضاءة باهتة تهرع إلى العتمة كلما دنت لحظة المواجهة.
كل شيء على الخشبة يحيل إلى أن الحياة في مكان آخر وأن حركات الممثلين وسكناتهم وإيماءاتهم ووقع أقدامهم وصخب كلماتهم بث متكرر لفشل قديم متنكر في هيئات كثيرة تتأرجح بين المال والسياسة والثقافة والإعلام.
ركح بارد تدور فيه شخصيات رافضة للموت عاجزة عن الحياة، لا بوادر لخلاص درامي، أصوات كثيرة تقتفي أثر المعنى والصدق، أثر وطن لا يتجاذبه الشك والصمت، أثر فضاء مفتوح بعيدا عن البنية الهندسية المغلقة رغم كل المنافذ المحتملة.
وعلى وقع الإضاءة الخانقة يحرر نزار السعيدي النص من مجاله النظري ويحمل الممثل ثقل شخصياته ويقحم المشاهد في صراع لا انفراج فيه فيغرق في حلقة مفرغة يجتر فيها الأزمة على دفعات دون قدرة على تجاوزها.
إخراج مُربك، يتمرد على الخط الدرامي المتسلسل ويتعمّد التشظي وكسر الانسياب ليعيد صياغة الزمن والفضاء وفق فوضى مدروسة تحل فيها الدلالات محل التسميات وتختفي البداية والنهاية وينفتح كل شيء على القلق والشك.
فيما ينساب الوجع من ثنايا النص ويطرزه الممثلون بالشعور وتعري الإضاءة مكامن الوجع يبحث المشاهد عن حضن يحتويه ويهرع إلى الركح فيلفظه مع كل المواجهات المتوترة مع المعنى واللامعنى.
والصوتيات تُضاهي الضجيج الذي يغلي في دواخلنا ولا يجد طريقه إلى التبخر، الموسيقى تحاكي الخيبة، تتعثر في الرماد تتضادد مع الألوان وتكتظ بالإيقاعات المشروخة والآهات المكتومة.
الموسيقى في هذا المشروع المسرحي ليست مرافقة صوتية كلاسيكية بل هي تقطيع صوتي موجع، وطنين، ورجع صدى، ونبضات متقطعة وأصوات أخرى تمزق ما تبقى من استقرار على قارعة الانتظارات التي باتت قدرا مشتركا.
بكل عناصرها المسرحية تبدو “جاكراندا” أو “تراجيديا مركز نداء” مانيفستو فنيا ضد الإنكار وضد الروايات الرسمية والسرديات المتكلسة، مساحة للمواجهة، للاعتراف، للمساءلة حيث تشهد الخشبة على وضع عصي على الشرح.