“جرانتي العزيزة” عمل مسرح جديد للمخرج الفاضل الجزيري راوح بين الفن والسياسة وأشياء أخرى تنهل من تاريخ تونس الذي رواه على طريقته منذ الاستقلال إلى ما بعد ثورة الحرية والكرامة.
موسيقى، رقص، غناء، قصّ، فنون تواترت على المسرح وتماهت لتسرد تاريخ تونس على إيقاع قصة “ماهر” عازف كمنجة ضمن الفرقة الموسيقية للإذاعة الوطنية الذي يعرض على الركح شريط حياته.
مراوحة طريفة بين ذاتية شخصية “ماهر” وموضوعية السياقات التي جرت فيها الأحداث على امتداد عقود من العمل في فرقة الإذاعة وما راففها من خلق فني أدبيا وموسيقيا ومسرحيا.
على الخشبة يجول ماهر في دروب الزمن مع المرأة التي شاركته الحياة في تفاصيلها المتعددة وعدد من العازفين ويروي قصصا تنطلق منه لتنفتح على أحداث فارقة ومفصلية في تاريخ تونس.
في ذاكرة العازف بعض من ذاكرة الوطن تجلت في كل الحكي المتدفق من أفواه الشخصيات التي تهاوى الزمن على مقربة منها وتهاطلت حكايا السياسة والفن وتشعب الحديث وتماهى الفني والسياسي.
“خرافة” موشحة بالنقد والسخرية ومعمدة بفنون مختلفة شدتنا إليها الممثلة إشراق مطر وهي تضعها في خانة حكايات ألف ليلة وليلة بعد أن تسللت نغمات البيانو إلى أرواحنا مؤذنة بانطلاق المسرحية.
وفيما تزينت الخشبة بالبيانو والتشلو والكمنجة (الجرانة) والعود والميكروفونات وكأنها تنبئ بعرض موسيقي تظهر خمس شخصيات؛ أربعة رجال وامرأة لكل بصمته فتنتفي الفكرة الأولى وتتبدى ملامح المسرحية شيئا فشيئا
حالة من الكيمياء سرت على الخشبة رغم طول المسرحية التي امتدت لما يزيد عن الساعتين وتناثرت فيها معلومات كثيرة فبدا الممثلون متناغمين متماهين مع خيط القصة الناظم الذي يقف على تخوم “الجرانة” (الكمنجة) ويخلق بين أوتارها مساحات يلتقي فيها الفن والسياسة.
الممثلة والمغنية إشراق مطر والممثل سليم الذيب والعازفون لطفي السافي على آلة التشيللو و إلياس بلاغي على آلة البيانو ومهدي ذاكر على آلة الكمنجة تقاسموا الركخ وتحرك كل في مساحته ليلتقوا جميعا عند تاريخ تونس.
وما يحسب لهذا العمل المسرحي هو اختيار اللاعبين على الخشبة إذ راوحوا بين الشخوص والشخصيات ونسجوا ملامح عرض مداده من هزل وجدّ تخللته وصلات غنائية بصوت إشراق مطر الذي جال بين أنماط موسيقية مختلفة.
“جرانتي العزيزة” مسرحية تنغمس في كواليس السياسة والفن وتغوص في العلاقات الإنسانية وهي من إنتاج المسرح الوطني التونسي والمركز الثقافي جربة ومسرح الأوبرا تونس، سينوغرافيا وإخراج فاضل الجزيري، نص ودراماتورجيا جماعي، مساعدة مخرج سامية بن عبد الله، وأزياء جيهان بن عطية و إضاءة فيصل بن صالح وموسيقى صابر القاسمي.
أسماء كثيرة لفاعلين في مجالات الفن والثقافة والسياسة انهمرت على الركح وانهمرت معها حكايات عن الاجتماعات والكواليس والمؤامرات والمحاكمات والخيانات والخيارات والرحيل والتخلي وما بين كل ذلك من خلق إبداعي.
وعلى إيقاع الأحداث السياسية وما يتخللها من حكايات اجتماعية لم يترك الجزيري “ماهر ” عازف الكمنجة وحيدا بل آنسته صاحبة الأوتار التي طبعها عليها مشاعر وخلجات نفسه على مر السنين حينما تخلت عنه حبيبته.
حوارات، أغان، بوح، صمت، موسيقى، رقص، جولات بين العتمة والنور، لرواية تاريخ تونس وما خلفه من أغان صدقت بها حنجرة إشراق مطر التي كانت في كل مرة تحمل المسرحية إلى مساحات نابضة بالحياة.
في ثنايا هذه المساحات حيز واسع من التأويل والتفكر في المعلومات والمعطيات التي أوردتها المسرحية وذكرت أسماء فنانين وعازفين وسياسيين وشرحت العلاقة بين الفن والسياسة على امتداد عقود، هذه العلاقة الجدلية غير الخطية التي تخضع للأهواء والمصالح تقصي في بعض الأحيان النبوغ والإبداع.