الماء يغمر كل الزوايا والأركان من حولك .. شيء ما يشدك إلى الأسفل.. كل شيء يتلاشى فيما تتراكم خيوط الماء.. وتصرخ لكن صوتك يغدو فقاعات.. وتذوي شكواك في خضم التيارات المائية… وتتبعثر صرخاتك على قارعة العدم ..
مشهد تتشكل ملامحه على إيقاع كلمات الممثلة لبنى مليكة حينما تتحدث عن تحول صوتها إلى فقاعات وسط الطوفان، هذه الكلمة التي اتخذت معاني أخرى على ضوء الإبادة الجماعية التي تشهدها غزة.
في الواقع هذا الطوفان لم يؤرق الاحتلال فحسب بل أيضا أقض مضاجع المتابعين لهذه التراجيديا فتملكهم الحزن واليأس وغدت أصواتهم فقاعات وسط سيول مياه الخيانة والتطبيع والإنسانية العرجاء التي لا تقف إلا من جهة الكيان الصهيوني.
الطوفان يتخذ عدة هيئات في مسرحية “حلمت بك” للبنى مليكة وابراهيم جمعة ويمتد اجتياحه من الذاتي إلى الموضوعي في مراوحة بين الواقعي والمتخيل وبين الزمن المسرحي والزمن الفعلي حتى غدت الخشبة برزخا بين عالمين.
وسط عتمة ملهمة لا تقطعها إلا بعض أنوار الفوانيس التي تشكل بعضا من عناصر السينوغرافيا، تلوح ملامح فضاء مختلف للعرض، لا ركح ولا مسافة “شاسعة” بين الجمهور والممثليْن بل إن الجمهور يحاوطهم من من ثلاثة جنبات.
تجربة تخاطب كل حواسك وتستنطق الصمت داخلك ومن حولك وتنسج منه حكايات لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد وتراود مكامن الألم فيك على إيقاع موسيقى لجهاد الخميري تغزوك وتملأ ذهنك بصور كثيرة عن الإنسانية عن الأمومة عن البنوة.
سيل من الحكايات يتخللها حكي صامت، كلمات تنهمر لتروي الدراما في وجوهها وجسدان يتكلمان في لحظات السكوت وحواجز ممتدة في الزمان والمكان تتلاشى عند مخاض الولادة وتخلفها صور تستدر دموعك.
على إيقاع حكاية من قلب الواقع، ذلك التلميذ الذي قطع أوصال أستاذه، تنسج المسرحية ملامحها المختلفة والمغايرة للمتعارف عليه، فالتمثيل لا يمتد على كامل المسرحية بل تتخلله فترات مستقطعة يهرب فيها الممثلان لبنى مليكة وإبراهيم جمعة من النص المسرحي ليعانقا الواقع.
لبنى مليكة أم وتلعب دور أم وتعلم الجمهور بذلك ويحدث أن تهرب من الشخصية إلى نفسها وتسامر ابراهيم جمعة ويمضيان خطوة خطوة إلى قضايا راهنة في بلديهما تونس وسوريا وتتسرب من شفاههما ضحكات تحاكي عبرات ظلت طريقها.
والموسيقى تواصل اختفاء المنطوق ولغة الجسدين على الخشبة ويتراءى لك في ذروة السرد أن النوتات تربت على روحيهما اللتين لا تجدان طريقهما إلى الخلاص وكل منهما يحمل بعضا من الآخر داخله وكأن حلم لبنى مليكة وهي تحمل ابراهيم جمعة داخلها قد تحقق.
هالة من الحزن والشجن تحاوط الثنائي الذي تناثرت حكاياته والتقت عند أكثر من مشترك وتظهر على الركح كرة دم مرفوعة على كتفي ابراهيم جمعة تحيلك إلى كل المجازر التي ارتكبت ومازالت ترتكب تحت عدة مسميات وإناء تتسرب منه قطرات ماء تحاكي الطوفان.
حتى ذلك الحوار الذي تخاله في البدء مسليا ومضحكا موجع جدا، وكل ما في الأمر أنه طريقة غير مباشرة لمواصلة رسم واقع مرير تشكلت ملامحه مشهدا وراء مشهد على إيقاع تنقل الأنظار يمينا وشمالا وملاخقة التفاصيل والنبش في الزوايا والتقاط الذكريات المبعثرة على قارعة البوح.
وبعيدا عن الحبكة المسرحية التي تتجلى في المراوحة بين الشخوص والشخصيات وفي بسط موضوعات فلسفية ووجودية ببساطة، يبدو الثنائي لبنى مليكة (تونس) وإبراهيم جمعة(سوريا) منسجمين ومتناغمين في رواية المآسي دون بكائيات ولا لطميات.
على نسق حركة الضوء الخاصة جدا في الأرجاء، حركة مراوغة مشاكسة تنهل من خطاب الروح والجسد، فكلما تكلم الضوء حل منعرج وتبدى وجع وكلما سكت فاضت الخلايا والمسام حديثا بأسلوب يجمع بين البساطة والعمق ويفصح عن التواصل الروحي والذهني بين لبنى مليكة وإبراهيم جمعة
كلا الثنائي يشد إلى تفاصيله شدا، نظراتهما إيماءاتهما أنفاسهما نبرة صوتيهما سكناتهما حركاتهما حتى أنهما يأسرانك في تلك الزاوية الخاصة بكل منهما ويجعلانك تعيش حالة من الانفصام وانت تحاول أن تتابعهما في ذات اللحظة في ذروة الحديث.
السينوغرافيا، أيضا، من طينة التفاصيل الاخرى، بسيطة بدلالات كثيرة، إذ اعتمدت على متممات ركحية على غرار مقعدين خشبيين بلونين مختلفين في إحالة إلى اختلاف الروايات وتعددها وشيئا يحاكي الشماعة يتدلى منه فانوس تنهمر منه الحكايات ، وطاولة تجمع المختلفين وإناء يرشح ماء إذ انساب غدا طوفانا وحبات طماطم بلون الدم وسكين ولحاف أسود تارة تبتلعه لبنى مليكة وتارة يلدها.
فيما تؤدي لبنى مليكة دورها في الحياة ودور أم سفك ابنها دم أستاذه، فتلفظه تارة وتردها إلى أحشائها تارة أخرى وتقذفه إلى الحياة أكثر من حين تتراءى لك مشاهد الأمهات الثكالى في غزة وهن يرثين أبناءهن وبناتهن من الشهداء.. ويتعاظم الوجع على إيقاع أسئلة لا أجوبة لها.
ولما ينساب الحكي من فم ابراهيم جمعة تتسلل من وسط العتمة مشاهد الدمار وسيول الدم وأكوام الركام وأصوات القصف وصرخات الوداع الأخير وأنين الإنسانية المكلومة ويتكدس الوجع في حنجرته وتفيض عيناه كلاما.
ولما يهرب الثنائي من المسرحية إلى ذاتيهما تقص لبنى مليكة على ابراهيم جمعة رؤياها التي تحاكي الواقع وتسكت عن الكلام ولا تبوح بالمشهد الذي كان على شاشة هاتف رفيقها على الركح حينما صار جنينا يحتمي بأحشائها وحينما يغرق المكان في العتمة تترك لك المسرحية مجالا لتخيل المشهد فتتهاطل عليك صور الإبادة الجماعية في غزة …