في دقّة، حيث تحرس الحجارة ذاكرة الضوء وتراقب المدرّجات سيرورة الزمان تجلى عرض “رقوج” للأخوين عبد الحميد وحمزة بوشناق كنبتة نمت بين أخاديد التاريخ في مشهدية تقاطعت فيها التفاصيل الأثرية وحذافير عالم متخيل.
المسرح وجنباته مشحونون بعناصر بصرية تحيل إلى معالم “رقوج” الفضاء الرمزي الذي تهاطلت فيه الألوان والخيبات والعبرات والابتسامات، زخم تتمنى معه لو كان الفضاء أرحب ليستوعب كل التفاصيل دون تزاحم.
في منطقة وسطى بين الأساطير والواقع تبدى “رقوج” بجزئياته المغرقة في النوستالجيا ليعلن اختتام مهرجان دقة الدولي وولادة ثانية لحكاية عاشت على الشاشة، لتستعيد اليوم شكلها الجسدي، وتنبض من جديد على الخشبة.
قد يرى البعض أن ركح دقة لا يحتاج إلى زخرفة وأن الحجارة والأعمدة جديرة بأن تبقى على سجيتها ولكن فلسفة العرض تستمد تفاصيلها من الزخارف التي تتخذ معالم كثيرة تشكل ديكورا يحاكي البوابة المؤدية إلى أصل الحكاية.
بين الارتباك والصمت والحنين يعج الركح بالمشاعر المتناقضة التي تحاكي تونس في كل وجوهها وتترسخ الأمنية في أن يتسع الركح أكثر فأكثر في عرض غصت فيه المدارج بالجمهور.
بعيدا عن ضيق الفضاء بما رحب من أفكار ومشاعر، ما إن أطلت الشخصيات التي عرفها الجمهور وعايش تفاصيل تطورها طيلة موسمين حتى تلاشت حواجز الزمان والمكان وبدا الأمر شبيها ب “الخرافات” التي ترويها الجدات وتشدك إلى التفاصيل.
ملابس الممثلين والممثلات والعازفين وما عليها من ألوان وورود، تسريحات الشعر، الأوشحة الملونة التي تستحضر في تفاصيلها النساء اللاتي تروين الأرض من عرضها ودموعهن ودمائهن، تشكل لوحات بصرية.
هذه اللوحات تمضي بالتوازي مع لوحات سمعية تصدح فيها الموسيقى في توزيع يقوم على المزج بين أنماط موسيقية مختلفة وتتحول معها الحركة إلى سرد وتتواطؤ فيها الخطوات مع الذاكرة، وتتحول كل الحركة حتى حينما تنقلب فوضى إلى سرد.
في رقوج العرض، ظهر أصل الحكاية لكنها لم تستنسخ بل ظهرت كجذوة نهلت من الجسد والصوت والضوء فصارت مشهدية تشابك فيها التمثيل بالغناء، وسكنت فيها الموسيقى كل مشهد، وتداخلت مع الحوار وهمست أحيانا وصرخت أحيانا أخرى.
لا فراغ لا فاصل كل شيء في تداخُل دائم، كما لو أن الحكاية كلّها أنفاس متدافعة لإنسان واحد، في عرض لم يتكئ فيه النص بشكل كامل على المسلسل بل قُدّ بالجسد، بالصوت، بالارتجال، باللحن الحيّ.
حضرت جل شخصيات المسلسل التي ألفها الجمهور وغابت أخرى، وتناثرت حكايات كثيرة عن تونس بكل ما تسكنه في ثناياها من جمالية ووجع وحنين وغضب وأمل وحلم، حينما تقاطعت المسارات في “رقوج”.
لا ترف على الركح، اختيارات الألوان واعية تشبه التراب والخضرة وما بينهما من ورود وزهور والأقمشة منسجمة مع أجساد تصارع نفسها والإرهاق ومحاولات الطمس المتكررة.
الملابس في عرض “رقوج” تعري وتكشف هشاشة الشخصيات والتحامها بالحياة الحقيقيّة بعيدا عن مساحيق التجميل، تشبهها في انفعالاتها وتفاعلاتها وتغازل ذاكرة المشاهدين بتفاصيلها.
الأوشحة الملونة، قطع القماش التي تُربط حول الرأس في الحقول بسيطة، زاهية، وموجعة، هي ليست مجرد إكسسوارات، بل بيان شعري يحتفي بالعاملات الفلاحيات فيما تستحضر الشاشة وجوههن ويعيد الركح صياغة المأساة التي ما انفكت تصدّرها شاحنات الموت.
في لحظات رمزية رفعت النساء على الركح الأوشحة الملونة التي تقيهن الشمس والغبار لتبدو كراية تروي ملاحم العاملات الفلاحيات حاضرات في الجسد الجمعي، وفي الذاكرة، وفي كل الحقول التي تُثمر على قارعة وجعهن.
تونس بكل تمظهراتها وكل دروبها الممتدة بين الحياة والموت وبين الأمل والقنوت وما بينها من انتماء وهوية أطلت من التفاصيل عبر ممثلين وممثلات لا يؤدّون أدوارًا فقط، بل يغنّون، ويرقصون، ويجرّبون، ويتلاعبون بالزمن واللغة والفرجة.
وفيما تحرس الموسيقى الإيقاع الداخلي للعرض وتشحن الصمت بالمعاني تحضر الكوريغرافيا بإمضاء أميمة المناعي في هذا النسيج المسرحي المعقّد، كعنصر سردي بامتياز. ومع كل حركة يتبدّى احتجاج أو رقص على الجرح أو هدهدة للذاكرة.
اللوحات الكوريغرافية في العرض تشكل لغة مستقلة بذاتها فكل خطوة تحمل فكرة، تقاوم، تعاتب، تحب، ويعيد معها الجسد صياغة المعنى على طريقته متخلصا من كل أشكال الوساطة.
وخلف الأجساد الراقصة تمتد فكرة رقوج المدينة الحالمة التي تؤمن بالأرض والجذور تطل وجوه زينها عرق الشقاء ليتجاوز العرض المسرح إلى حقول خزنت ملاحم النساء في صمت صارخ.
وفيما تمنح الموسيقى العرض تنفسا إيقاعيا متواترا، وتُوجد تناغما بين المرئي والمسموع، ينفلت العرض من زمنه حينما يعلو صليل الشقاشق مستحضرا إيقاعات السطمبالي والأعياد تهتز من حولها.
محاولة لاستدعاء طقوس تداعب الذاكرة وتحاكي النداء العميق أو الانفجار بعد غضب مكتوم، عاضدها حضور فارس على صهوة جواده قبالة الركح فيما تعالت الزغاريد في المدارج، في طقس يستحضر “الزردة”.
في مساحة ضيقة تحرك الجواد وأجساد الفارس التحكم في الفضاء واحتواء رفيقه في مشهدية تدفع إلى التساؤل ماذا لو كان الفضاء أرحب؟ ولكن يظل الأمر فارقا في العرض لما في ذلك من مغامرة.
وفي لحظة صمت فيها الضوء، أنار صوت أحمد العبيدي “كافون” الركح وارتسمت صورته على الشاشة عبر تقنية الذكاء الاصطناعي، وترقرقت الدموع في أعين الجمهور وفي أعين الممثلين محمد السعيدي ومحمد السويسي وعصام عبسي.
عرفان واعتراف بفنان ترك بصمته فنيا وإنسانيا إذ كان يجيد التعبير عن مشاكل الهامش والمهمشين، غادر جسده هذا العالم ولكن ذكراه حية في أعماله وفي ذاكرة جمهوره الذي ردد بصوت واحد “المحبة صنعك يا ربي والكره زمان صنعته الناس”.
والجمهور في عرض “رقوج” حكاية تستدعي الرواية فقد كان يستبق المشاهد ويحفظ نصوص الشخصيات، يردد الأغاني، يصرخ ويحاكي تقلبات العرض كما أنه لزم المدارج نصف الساعة بعد منتصف الليل.
وفي احتفاء بالجمهور أطلقت بندقية شظايا ملوّنة تفتّحت في سماء دقّة وتناثرت الألوان فوق رؤوس الجمهور وانطلقت حمامات بيضاء من قلب الركح، وارتفعت في خطّ دائريّ نحو المدرجات، ولامست الجمهور قبل أن تمضي في طريقها إلى القمر الذي يغازل الأعمدة الأثرية.
صورة رفبق بودربالة