لطالما ظلت الأفلام القصيرة، في غالبها، ملتحمة بالمهرجانات تشع خلالها وتنطفئ إثرها وهو ما دفع إلى التفكير في إيجاد سبل أخرى لتوزيعها من خلال مشروع “خمسة على خمسة”.
“خمسة على خمسة” ليس مجرد عنوان لمشروع بل هي لبنة أولى في اتجاه كسر نمطية عرض الأفلام القصيرة والتأسيس لعلاقة مغايرة بينها وبين الجمهور.
تماما كما الأفلام الطويلة تستحق الأفلام القصيرة أن يوسع لها الطريق نحو الشاشة الكبيرة وأن تغادر الرفوف وزوايا النوادي وتطالع الجمهور في مواعيد متمايزة عن المهرجانات.
هذا المشروع وليد حلم راود صاحبه حبيب الطرابلسي وظل يبحث عن فتحة يتسلل منها إلى الواقع وكانت الانطلاقة بمزحة تحولت إلى حقيقة تشكلت معها تجربة فعلية تعرض فيها خمسة أفلام قصيرة في خمس قاعات سينما مختلفة، في خطوة جريئة لإعادة الفيلم القصير إلى قلب القاعات.
احبيب الطرابلسي التقى مع رئيسة الجمعية التونسية للنهوض بالنقد السينمائي أنس كمون على قاعدة الحلم حيث ألف كلاهما عوالم السينما وطافا في تفاصيلها في تجارب مختلفة نقدا وبرمجة وبحث وتكوين وعملا في المهرجانات.
والثنائي يحمل الهاجس نفسه ؛ التوزيع، وتحديدا مصير الفيلم القصير بعد انتهاء أيام المهرجان، سؤال ظلا ينقّبان فيه ليوجدان سبلا جديدة لمنح القصير ما يستحقه خارج نوادي السينما والتظاهرات الموسمية.
وفيما تستعد الجمعية التونسية للنقد السينمائي، للاحتفال بذكرى بعثها الأربعين، تظهر هذه المبادرة التي تليق بهذا الحدث وتفتح أفقا جديدا في توزيع الأفلام القصيرة.
برنامج توزيع بديل، يحمل الفيلم القصير إلى مساحات أخرى، ويمنحه مكانا في قاعات السينما، قطعا المهمة ليست سهلة، فالسوق هشة، والجمهور لا يُغامر كثيرًا خارج السينما الطويلة، لكن المجازفة كانت موشحة بالإصرار منذ اللحظة الأولى.
وبدعم من المركز الوطني للسينما والصورة تحوّل الحلم إلى مشروع فعلي: خمسة أفلام قصيرة، تُعرض في خمس قاعات مختلفة بالعاصمة، منها “الزفير”، و”إميلكار”، و”الماجستيك” في انتظار التحاق قاعتين أخرتين.
ولأن الفيلم القصير ليس تمرينا فنيا للمرور إلى الأفلام الطويلة فحسب بل تعبيرة متجذرة في بيئتها تحمل رؤى جريئة، تجرّب دون خوف، وتحكي القصص التي قد لا تجد مكانها في بعض الإنتاجات.
والمشروع لا يكتفي بعرض هذه الأفلام، بل يسعى لأن يخلق حولها نقاشا نقديا، وجمهورا وفيا، ومنبرا مستداما يتضمن جانبا بحثيا حول أنماط التوزيع الممكنة، وأساليب الوصول للجمهور العريض، خارج الدوائر المتعارف عليها.
وفي باقة “خمسة على خمسة”، لا تكرار ولا تنميط، فكل فيلم يحمل بصمته، ورؤيته الخاصة ويروي قصة تغازل ذاكرة المشاهد ووجدانه وتنبش في زاوية ما من الواقع والمجتمع.
وفيما يغوص نهار الكيراتين لسامي التليلي، في اليومي العابر ويصنع منه لحظة بصرية مكثفة ويتحول معه صالون حلاقة إلى مختبر مجتمعي، يعيد رحلة لجميل النجار، صياغة درامية الوطن عبر كاميرا شاعرية تتقاطع على وقعها الجغرافيا مع التاريخ.
أما “فريدا” لمحمد بوحجر فيرسم ملامح إمرأة تتناحر مع أغلال المجتمع في سعيها لتعريف الحرية وفق إيقاعها الخاص في حين يتأرجح براكاج لبلال بالي، بين العنف والمساءلة الأخلاقية.
أربعة أفلام رواية تراوح بين الواقعية والدراما والكوميديا، يظهر بينها وثائقي شاعري بعنوان “كازينو” لولاء الدين ورؤى التليلي، يغوص في العوالم المنسية لمدينة حمام الأنف حيث تتآكل الأماكن وتستحيل ذاكرة.
وتجربة ” خمسة على خمسة ” لا تتوقّف عند العرض بل تمتد إلى تنظيم النقاشات، والكتابة والنقد، وتكوين أرشيف حي للأفلام القصيرة التونسية، هو مشروع ثقافي سينمائي، يُراهن على الجمهور بوصفه شريكا، لا مجرد مستهلك في عملية إعادة الاعتبار لهذا الشكل الفني الذي لا يقل أهمية عن الأفلام الطويلة.