“الموسيقى لا تكذب أبدا”، كلمات اختزلت بها الفنانة الغامبية الانجليزية سونا جوبارته فلسفة أغنية ترسم فيها ذاتها وكيانها وتروي فيها قصتها وهويتها التي تشكل الموسيقى جزءا منها وأفريقيا جنوب الصحراء جزءا آخر.
فعلا، الموسيقى لا تكذب أبدا ففي هذا العرض ضمن برمجة الدورة التاسعة لمهرجان دريم سيتي باحت الموسيقى بحقائق تلاشى معها وجه العنصرية القبيح وتبددت كل تلك الصور البشعة المرتبطة بها.
ففي أرجاء المسرح البلدي تبدى وجه تونس الجامعة والحالمة والساحرة على إيقاع موسيقى تمزج تلوينات مختلفة وتعانق كلمات تجد طريقها إلى القلب قبل الأذن حينما تصبغها سونا جبرته بإحساسها الذي تسرب في كل الزوايا والأركان مخلّفا حالة من الانتشاء.
وصلة تفاعلية بين عازف الإيقاعات والجمهور كانت فاتحة العرض قبل أن تطل سونا جوبارته وبقية العازفين على الركح بأشياء تسافر بك إلى العمق الإفريقي الذي تنغمس فيه أكثر فأكثر على نسق صوت أنثوي محمل بما تؤويه الأم إفريقيا في تفاصيلها من جمال.
موضوعات مختلفة طرحتها الفنانة الملتزمة بقضايا محيطها مرورا بقصص ذاتية وصولا إلى أخرى موضوعية مستلهمة كلماتها من حياتها الزاخرة بالحكايات وهي التي تمردت على العادات والأعراف وكانت أول أنثى في مجتمعها تعزف على آلة الكورا التي يحتكرها الذكور.
ولهذا السبب صدح صوتها على ركح المسرح البلدي بأغنية أهدتها لوالدها الذي دعمها وشد أزرها حينما تمردت وثارت على السائد ولكل الرجال الذين يدعمون المرأة ويشدون على يدها في قراراتهم وخياراتها.
عن المسؤولية، مسؤولية الفنان وواجبه تجاه مجتمعه غنت بعد أن تحدثت لجمهورها الذي أنصت إليها بحب وإمعان عن دور الفنان في المجتمعات وواجبه تجاه الأجيال وعن ضرورة التفكير في الأعمال الفنية وفي وقعها عليها.
لأنها تجيد مغازلة الجمهور لم تنفك تشركه في تفاصيل أغانيها وتطلب منه بكل محبة أن يردد معها بعض الكلمات فدوت الأصوات وهي تحيي كل النساء حينما أهدتهن أغنية تحتفي بكل امرأة تسعى إلى التغيير وتقاوم وتسهم في تنشئة الأبناء وبصوت يغزوه الفخر دعت ابنها لمشاركتها الركح والعزف على آلة موسيقية إفريقية تقليدية.
جمهور من جنسيات مختلفة غلب عليها التونسيات والتونسيون استسلم لسحر الموسيقى وأطلق العنان لروحه لترقص على موسيقى معمدة بنغمات روحية تعاضدها خامة صوت جوبارته الذي يبدو وكأنه يتنزّل من السماء.
أغان من ألبومها الجديد ” بادينيا كومو” الذي يجمع بين الصوت التقليدي لتراثها الغامبي وبين موسيقات الجاز والبلوز والآر آند بي والسول قدمتها على امتداد الحفل الذي تميز بتلوينات مختلفة على مستوى الموسيقى والكلمات ومواضيع الأغاني.
عازفة على الغيتار حينا وعلى الكورا حينا آخر، صدحت بصوتها العذب الأخاذ المحمل بأحاسيس صادقة تجعل المستمع إليه يتماهى مع الأغاني وإن لم يفهم كلماتها ولم تنس جدتها التي رحلت عن هذا العالم وتركت وراءها دعما لا يموت فهي أول من ربتت على قلبها واستوعب موهبتها وتنبأت لها بمستقبل فني.
الفنانة التي تحمل غامبيا في قلبها فيتبدى عشقها لها مع كل نبض قبالة جمهور مشدود إلى الأصوات الإفريقية التي ينغمس معها رقصا وهتافا وتصفيقا، توليفة تجلى معها ذلك الرابط الوثيق بين أبناء إفريقيا شمالا وجنوبا.
وحينما غنت لوطنها غامبيا بكل حب شاركها الجمهور الغناء بطلب منها كما دأبها وتعالت الأصوات حتى تجاوزت حيطان المسرح البلدي وتصاعد التصفيق حتى صار جزءا من الألحان وسكت صوت الفنانة سونا جوبارته ولم يسكت الجمهور.
لعل من أكثر اللحظات إلهاما وتأثيرا تلك التي احتفى فيها جمهور من جنسيات مختلفة بغامبيا بكل صدق وعفوية تأكيدا لمقولة جوبارته “الموسيقى لا تكذب أبدا”، وتلك التي حفظت مشهدا لبعض الجمهور الذين رابطوا أمام المسرح واستمروا يرددون “غامبيا” ويرقصون وهم يحاولون الحفاظ على نفس إيقاع الأغنية..