كتبت الأستاذة في علم الاجتماع فتحية السعيدي على صفحتها بموقع التواصل الاجتماعي رأيا بخصوص الجدل الدائر بخصوص البلاغ الصادر عن وزارة العدل حول موضوع “حماية الأخلاق العامة”.
وفي ما يلي نص السعيدي كاملا :
“هذا رأيي، في موضوع الساعة (لمن يقرأ ويفكر) (التيك توك والانستغرام وما سمي صناعة المحتوى)
تمّ اليوم الاتصال بي اليوم من إذاعة صفاقس-قسم الأخبار وإذاعة جوهر-برنامج بوليتيكا بصفتي أستاذة في علم الاجتماع من أجل إبداء رأيي في علاقة بالقرار أو البلاغ الصادر عن وزارة العدل حول موضوع “حماية الأخلاق العامة”. (تدخلي الأوّل كان وجيز جدا فلم يتجاوز الدقيقة لأنه سيبث في الأخبار والتدخل الثاني كان أطول (في حدود 5 دقائق أو أكثر تقريبا) فهو قد بث في برنامج مباشر. وبمعزل عن مدة التدخل، فإن رأيي الموجز كان قد تضمّن تقريبا الآتي:
– أوّلا، أنا مع مقاربة تنشيئية شاملة، وهي مقاربة تستهدف التربية على وسائل الإعلام وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، وهي مقاربة تصنع من خلال سياسات عمومية متعددة الأطراف تستهدف التوعية والتحسيس ونشر القيم الإنسانية-الحقوقية الضامنة لاحترام الكرامة والحرمة المعنوية وتنبذ العنف وتتجه إلى تغيير المناهج التربوية وتتضمّن مجموعة من التدابير الخاصة بالقضاء على كافة أشكال العنف السيبرني. وتستهدف عملية التنشئة الاجتماعية ومؤسساتها، من أسرة ومدرسة ودور شباب وثقافة وغيرها.
– ثانيا، الاتجاه إلى القائمين على منصتي توك توك وميتا Méta من أجل أمرين: الأول، عقد شراكة بينها وبين مؤسسات الدولة تمكّن الجهتين (الدولة بمؤسساتها والشركتين المعنية) من الاشتغال على مدوّنة تتضمّن كل الألفاظ العنيفة أو “الخادشة للحياء” أو المهينة أو التمييزية وغيرها، وبمقتضاها يتم حجب المحتويات المسيئة للغير. ويتمثل الأمر الثاني، في الاتّفاق على عدم تشجيع صناع المحتوى الذين يقدمون محتويات تافهة أو مسيئة أو هابطة أو ضارة ولها آثار على تنشئة الأطفال (مثلا، عدم تخصيص منح مالية لهم علاوة على حجب محتوياتهم).
– ثالثا، العمل مع الدول من خلال الهيئات والوكالات المتخصصة للأمم المتحدّة من أجل التصديق على ميثاق أخلاقي دولي-Charte déontologique يخص وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة، وأنه توجد حاليا ديناميكية دولية تخص القضاء على العنف السيبرني بكافة أنواعه
– رابعا، الحلول الزجرية يمكن أن يكون لها نتائج عكسية، والتنشئة المحافظة تزيد في الانغلاق الاجتماعي ولا يمكنها بأي حال أن تكون لها نتائج مأمولة، وفي هذا الصدد قدمت أحد تجارب كورت لوين Kurt Lewin الذي استهدف في أحد تجاربه 03 مناخات (مناخ وضع فيه مربي تسلطي، ثاني وضع فيه مربي متسيب، وثالث وضع وفيه مربي ديمقراطي يمسك العصا من الوسط) لاختبار درجة الاستيعاب والتقبل لسلوكيات دامجة. ومن بين نتائج تجربته هذه، أن النتائج الإيجابية الدامجة والتي ارتفعت فيها درجة الاستيعاب كانت في المناخ الثالث، في حين تساوى المناخين الآخرين وكانت النتائج سلبية. والغاية من هذا المثال، تتمثل في أن النتائج المرجوة لن تكون بالزجر. فالحلول التي يعتقد أنها تسلطية وجازمة وضاغطة لا تؤدي إلا للانفجار، فالممنوع مرغوب فيه حسب علماء النفس-الاجتماعي، والزجر وان كان يخلق الخوف فهو يغذي الغيظ والغضب ويدفع إلى ما لا يتوقع في مستوى السلوكيات بشكل عام. كما أن الحلول الأمنية والعقابية في هذا الموضوع وفي غيره، وإن كانت ضرورة فإنها عندما تأتي خارج حزمة من الإجراءات والأنشطة والأفعال التي تستهدف التنشئة والتربية التي تشترك فيها مؤسسات متعددة فإنه لن ينظر لها كونها منخرطة في عملية إصلاح اجتماعي. ثمّ متى كان السجن حلاّ؟ ولماذا لا توجد عقوبات بديلة، خاصة، وان النسبة الأرفع لرواد تيك توك مثلا، هي فئة يتراوح سنها بين 12 و18 سنة.
– خامسا، ما يسمى بظاهرة “صناع المحتوى على وسائل التواصل الاجتماعي”، هي ظاهرة مرتبطة بظواهر اجتماعية أخرى ومتنوعة، وما لم يتمّ فهم الأسباب جميعها ومعالجتها من خلال السياسات العمومية فإن ما يعتقد “معالجة” يصبح شيء آخر غير ذلك.
في معرض هذا التدخل الإعلامي، سألني الصحفي-المنشط، حول “الأخلاق العامة” وحول الضجة التي أثيرت حول القرار، وكان الجواب كالآتي: الأخلاق العامة موضوع معياري قيمي Sans substance، بمعنى آخر، ما يسمى لا أخلاقي عند المحافظ هو أخلاقي عند الليبرالي، مثلا. فالمجتمع متنوّع، وطرق التنشئة مختلفة من أسرة إلى أخرى ومن محيط إلى آخر، وهي تتأثر بعوامل متنوعة وجديدة ومتغيرة وتتدخل فيها مؤسسات تنشئة متنوعة. بمعنى أخر، لا يوجد بشكل عام اتفاقا كليا حولها، لانها تدخل في مجال النسبية. أما الضجة التي ارتبطت بالضغط على الحريات حسب البعض، فهي مرتبطة بموضوعين:
– الأول أن القرار جاء خارج حزمة كاملة من الإجراءات الشاملة المنخرطة في سياسات عمومية متعددة الأطراف.
– الثاني، لأن غالبية أفراد المجتمع يخلطون بين الحد الفيصل بين حرية التعبير وممارسة العنف على الغير، فالألفاظ النابية مثلا، تمثل عنفا معنويا بالنسبة لأفراد وجماعات في المجتمع، والتمييز يمثل عنفا بالنسبة لأفراد وجماعات أخرى. وهذا مرتبط بشكل عام، بضعف ثقافة الحقوق الإنسانية والتربية على حقوق الإنسان.
فكان سؤال الصحفية-المعلقة لي حول: أن إعلان حقوق الإنسان صدر سنة 1948، بما يعني أنه قديم كما سألت ما العمل في ظل غياب الميثاق الأخلاقي الدولي.
وكان الجواب هو: أن الإعلان العالمي، هو فلسفة عامة تتضمن مبادئ وقيم تؤطر مختلف الاتفاقيات الدولية الملزمة عند التصديق عليها وأن هذه الاتفاقيات تصدر كإجابة على المتغيرات والتطورات التي تحصل في المجتمعات في كل الأزمان. وموضوع وسائل التواصل الاجتماعي وآثاره على المجتمعات، ومنها بروز ظاهرة العنف السيبرني، هي محل نقاشات دولية واتفاقيات تتضمن تدابير خاصة.
ووطنيا، من الضروري تبني رؤية اجتماعية شاملة حول هذا الموضوع وبناء السياسات العمومية القادرة على استيعاب هذه الظاهرة والحد منها. فمثلا، تضمن القانون عدد 58-2017 مجموعة من التدابير التي تستهدف الوقاية من العنف المبني على الجنس، وإلى اليوم نتساءل، عن البرامج التي وضعت لمقاومة العنف من زاوية الوقاية. وعليه، تبقى الوقاية في الموضوع المطروح الخاص بصناعة المحتوى، موضوع يحتاج تدابير وسياسات اجتماعية وتربوية ناجعة تشمل كل مظاهرها وآثارها من أجل بناء مجتمع تحترم فيه الحرمة المعنوية والكرامة واحترام الغير في اختلافه والقضاء على كل مظاهر العنف الذي استشرى.
وباختصار، هذا الموضوع المثار، هو موضوع جدي ويتطلب رؤية إصلاحية متكاملة هدفها الحماية والوقاية، وهو ليس موضوع بوز وتشهير، أو موضوع مجاملة وانتصار لا لهذا ولا لذاك. فقد شاهدت فيديو طرح فيه التعليق على موضوع الساعة بث على أحد القنوات، قد سقط هو الآخر في التشهير وفي صرخات ظاهرها دفاع عن “الأخلاق والمجتمع” وعن دور وسائل الإعلام، وعمليا هو فيديو لا يختلف عن فيديوهات “صناع المحتوى” والفرق بينها، أحدهما استعمل ألفاظ نابية، والثاني باسم الدفاع عن الأخلاق سقط في اتهام الغير، معتقدا أنه “مصلح” ويفهم في الظواهر الاجتماعية المركبة-Complexe بطبيعتها، في حين أن ما أتاه يدخل في باب التشهير وبعيد جدا عن أخلاقيات المهنة الصحفية، وليس له من أثر سوى إثارة الانفعالات ونشر ثقافة شعبوية اجتماعية-محافظة ترتكز على استعمال “الضرب” لإصلاح المجتمع، للأسف الشديد.