بقلم رانيا الحمـّامي 
الإهداء
إلى الباحثين على النور وسط الظلام،
إلى زارعي الحب أينما مرّوا،
إلى رعاة السلام في كل مكان،
إلى باعثي الحياة في فاقدي الأمل،
إلى أصحاب العزائم والإرادة،
إلى محاربي الوهن والضعف،
إلى كل من يرفض أن تهدمه الهزائم،
إلى من قرّر الحياة.
كما هو مُتَّفق عليه مع إيحا، تقرَّبت ميسا كثيرا من سالي. تكادُ لا تُفَارِقُها فيظن من يرَاهما أنهما أم وابنتها. كما أصبحت ميسا من مريدي وأتباع بيبو الملتزمين. تُتَابِع الحَلقات التعليمية وتكاد لا تُغادر المَقام. تبقى أحيانا مستيقظة لوقت متأخر
وتستيقظ باكرا. خَدُومَة ومُنْتَبِهة لكل ما يدور حولَها والأهم ألّا تختفي سالي من عينيها، تتابعها لحظة بلحظة. تأكدّت مما يُشاع أن سالي تذهب كل ليلة إلى القبو. كما تمكَّنت من تحديد التوقيت الذي تذهب فيه ولاحظت أنها تَحْمِل معها جرّة ماء مُمْتَلِئة وتَضعُ مكانها عند العودة من القبو جرّة فارغة مُمَاثلة، انْتَبَهَت لاخْتِلافِهما الطفيف عندما كانت تملأ الجرار ذات يوم بالماء من العيْن. كما لاحظت أن سالي تَحْمِل معها إلى القبو كيسًا مُتَوسِّط الحَجْم تَمْلَؤُه حُبوبا ظهر كل يوم وتَضَعُه جانِبًا في المطبخ بسرية تامة. سألتها ميسا يوما أن كيسًا مُمْتَلئًا مَؤُونَة يَخْتَفي كل لَيْلَة من المطبخ فأجابتها سالي مُتَفاجِئَة مُرْتَبِكة لتَفَطُن ميسا لذلك أنه كيسُ صدقةٍ، تمر ليلا طائفة لا تُرى بالعين تَحْمِلُه لمُحتاج وهو دفع للبلاء. لذلك فهو يَسْتوجِب السرية التامة وطلبت منها أن لا تُخْبِر بذلك أَحدا. أدْركَت ميسا أن زوجة المُعَلّم بيبو – الذي يدعو إلى الصدق ويُؤكد أن الكذب هو السبب الأصلي لكل ابتلاء ومصيبة وهم – ليست صادقة وأنها تكذب عليها. فقد رأتها بأم عينيْها وهي تأخذ الكيس من المطبخ ثم تُخْفِيه بيْن طَيّات ثِيابِها وتَخْرُجُ بِه مع الجرّة نَحو القَبْو. كما لاحظت أيضا أنها لا تحمل مفاتيح معها عند الذهاب إلى القبو. رغم ذلك لم يُؤثّر كَذِب سالي على ميسا على علاقتهما.
لكن ما كان يُثير الانتباه ومنذ قدوم ميسا اضطراب غريب يُلاحَظُ عَليْها لم تُزِلْه الأيّام مما جعل سالي تسألُها يوما:
ميسا، أراك مُشوشة الأفكار مُضطربة منذ مَجيئك للإقامة عِندنا. لم أشأ أن أسألَك عن السبب عند قُدومك لكي لا أُحْرِجَكِ وكُنْتُ أَظُن أن بَقاءك مَعنا سَيُشعِرَك بالرَّاحة والطمأنينة فيَتلاشى الاضْطِراب. لكن اللافِتُ للنظر أنه يَزيد ولا يَنقُص، فما الأمر.
ميسا: هي طِباعي منذ طفولتي. أشعر دائما بالتوتر والاضطراب.
سالي: لكن اضْطَرَابك يَزيد بمُرُور الوقت بشكل مَلحوظ. وقد سَمِعْتُ من بعض الفتيات اللاتي قضّيْن أياما في المقام أنك لست على ما يُرام منذ أن تركك حَبيبك لسبب مجهول.
ميسا: ليس صحيحا. لم يَتْرُكْني حبيبي، فقط أجّلنا زواجنا.
سالي: وما السبب؟
تصمت ميسا وتسبح في أفكارها.
رغم أن لكل بداية نهاية، كانت ميسا تَظُن أن لا نهاية لحب إيحا لها. فتَعابيرُه لها كانت تفوت كلمات عشق عابرة. كان يُؤكد لها دائما أنها الدَّافِع لكل ما يَقُوم به وإنها الحُلْم الذي يَنْتَظِرُ اللحظة المُناسبة ليحضنه إلى الأبد. كان يُشيِّد البيت الذي سيَجْمَعُهما بحماس جعل من كل أيام راحته عملا دائما ليُنْهي تشييده بسرعة. هي تعرف أن النهايات أسرع مما يُمْكِن للفرْد أحْيانا تَخيّلَها ولكن نهاية حب إيحا لها غير مُتَوقعة بالمرة. لقد صار إيحا شخصا جديدا غريبا عنها. وجع النهايات في العادة مُؤلِم جدا ولكن هذا الوجع بالنسبة لميسا قاتل فتّاك.
ومُوافَقتها للقيام بالمُهمة التي وكّلها إياها ليس بحْثا على اسْتِرْجاع حب إيحا بل هو إعلان النهاية من طرفها وإعلان موتها الذي تَشعر به منذ مدة. تَحَلِّيها بالشّجاعة والجُرأة لتَعرية حقيقة علاقتها بإيحا في شَكْلها الجَديد تُشابِه تَحَلِّيها بالشَّجاعة لكَشف ما بِالقبو وخِيانة من ائْتَمَنها على مَسْكَنِه ومَأْكَله.
سالي: ميسا، ميسا… ميسا. هل أنت بخير؟ أين ذهب ذِهنك؟
ميسا: أنا بخير.
سالي: ناديتُك مِرارا وتِكرارا ولم تُجيبي. كأنك لست معي. أنا صديقتك يا ميسا أو اعتبريني أما لك. يُمكنك إخباري بكل ما يُثْقِلُ صَدْرَك ويُشَوِّشُ فِكْرَك.
ميسا: أعلم ذلك يا عزيزتي. لا تقلقي. أنا بخير.
*****
هذه الليلة هي الليلة الحَسْم التي بعدها تنتقل ميسا من الخَدومة المُلتزمة بتعاليم بيبو إلى الخائنة التي يسْتوجِب ما سَتقوم به الحَرق حيّة. أعدّت نفسها جيدا.
تَزور سالي القبو كل ليلة مُحمّلةً بشيء ما كما لاحظتْ ولاحَظ ذلك زوار المقام من أهل تاجوت الذين يقضون ليال هناك تَبركا ببيبو. لم تنم ميسا بغُرفتها وأعدّت كيسا من عُشب وحشيش وضعته خارجا لتتَغطّى به عند وُصولها حذو القبو. الليلة ليست مُقمرة والغيوم كثيرة ولذلك مُستبعد أن تكشف سالي وجودها عندما تَفتح القبو وتدْخله.
بعد فتح الباب، ستتبعها ورُبما ستلجأ إلى الانقضاض عليها بالعصا الغليظة التي تحملها سالي معها دائما عند الخروج من المقام بعد أن نحتت عليها صورة بيبو للتَّبَرُك به.
الليلة تنتهي كل المسرحيات ولن يعود الزمن إلى الوراء أبدا بأحداثه وصوره.
مسرحية بيبو وزوجته الكاذبة.
مسرحيتها للتمكن من العيش في المقام كمخلصة للتعاليم.
مسرحية حب إيحا لها، فهي متأكدة أنها بكشف المخفي في القبو، يكون إيحا تمكن من هدفه
ولن يحتاجها مجدّدا. هي مُتأكدة أنه لا يُحبها وإلا لما عاملها بذلك الجفاف والأنانية المطلقة.
بعد كشف ما في القبو، ستكون هي الخاسرة. ستلتصق بها وصمة العار والخيانة مدى الحياة وستكون مَنبوذة وإن كان ما ستكشفه من سر سيعري كذب بيبو وزوجته وتحيّلهما. وستخسر إيحا إلى الأبد ولن يُبقيه أي سبب معها بعد اِنتهاء مُهمتها فهو لا يُحِبّها.
صراع داخلي عنيف وصل أوجه باقتراب اللحظة الحاسمة. ما هي مقدمة عليه سيُدمّرها ثم سيدمّر كل شيء حولها. ويبقى السؤال ما الذي يُمكِنها أن تجد بالداخل؟
هل يكون بيبو قد حبس النبي الحقيقي داخلا ليأخذ مكانه ويصبح الآمر الناهي بالقرية ويصير نفوذه يعلو كل نفوذ؟ وإن كان من بالداخل نبيّا مخفيا فربما يُجازيها على تخليصه من بيبو وزوجته. لكن إن كان نبيًّا من في القبو، لماذا لم يسمع أهل تاجوت بنبيٍّ غير بيبو بالقرية؟ تكاد تُجن. الحلقات التعليمية لبيبو التي حَضرتها واستمعتْ إليها لأشهر كانت نابعة من أعماق بيبو. لم تلاحظ عليه اضْطرابا ولم تلاحظ أنه ينتظر إملاءات لأخذ قرارات أو مصدرا لتوجيه الناس وبسط أفكاره. كان بيبو يتكلّم بسلاسة ودون انقطاع كأن هناك قوة تمليه ما يَقول. كل ما كان يَسْرُده من قصص دارت أحداثها في عهود سابقة ليُسْتَشف منها العبر كان واقعيا يتناول تفاصيله كأنه عاش في تلك العهود. لا يمكن للخيال الطبيعي لأحدنا أن يصل لذلك الوصف الدقيق وترابط الأحداث والشّخصيات. تعاليمه كانت تمس الروح فتُمتعها وتحل الأزَمات فيَعُم السلام. لولا تعاليمه لكانت القرية غابة وُحوش يكون فيها البقاء للأقوى. تعاليمه نظَّمت تاجوت وحياة أهلها.
وفي الحقيقة وبعد كل هذه المدة التي أمضتها في المقام تشعر بإيمان عميق بكل ما يَنطِق به بيبو ولولا كذب سالي والسر الخفي وحرق أم إيحا لما شكّت لحظة في صدق نُبوّة بيبو.
*****
سُويْعاتٌ تَفصِل إيحا لاكْتِشاف ما يوجد داخِل القبو. يَنتظرُ بفارغ الصّبر ما ستَحمِله له ميسا من سرٍّ. سِر سيُنهي عرش بيبو الوهمي القائم في مُخيلة أهل تاجوت. سيُخبِر الجميع بما يوجد في القبو. سيطرُق أبواب جميع المَنازِل دون اسْتثناء، وسَيكشِف حقيقة بيبو. سيَنتقم لأمه. كيف لبيبو أن يَحرقها دون رحمة؟ سيَحرِق القَبو بعد اكْتِشاف ما بداخِله. لن يَكفيه هذا. سيَحرق المقام الذي يَسكنه بيبو وزوجته ويجتمع فيه أهل القرية.
شُعورٌ غريبٌ يَعتريه أنه وإن فَعل كل ذلك انتقاماً فلن تَبرُد النّار التي تَحرق قَلبه. منذ حرْق أمّه، رُؤية النّار تُدخِله في هستيريا يُقاوِمها حتى لا يُحطِّم أو يعنِّف كل ما يَعترِض طَريقَه كما يمضي ليالي عديدة لا يُمكنه النوم بعدَ تلك الهستيريا.
يَخرُج إيحا من بيتِه، كأن المَكان لا يَسعُه ويَرمقُ أباه وأخته نائمين. كيف لهما النوم في سَكينةٍ وكأن لا شيء قلب حيَاتهما مُنذ مدة قصيرةٍ؟ يحث الخُطى مُبتعِدًا عن البيت والقرية ويمشي مُتَّجِها نحو الغابة، يَصرُخ بأعلى صَوته ورأسه مرفوع إلى السماء كأنه يَرغب أن يصل صوته إلى الكون:
” أمي ، أينما كانت روحك، الليلة سيَكون الإنتقام”.
ثم يَنهمرُ بالبُكاء في حرقة تُذيب أشد القلوب قسوة.
مُنذ حادثة حرق أمه، لم يعد يرى في ميسا إلا أداة للوصول لهدف يعيش من أجله : الإنتقام من بيبو. يعلم أنها تُحبّه حبا لا حدود له، لكنه لم يَعُد يحمِل من المَشاعر شيئا إلا شُعور الكراهية والحِقد، ليس حقدا على بيبو فقط بل على كل أهل تاجوت الذين تَقَبّلوا حُكم بيبو على أُمّه ولم يُعارضُوه بل وتَجمَّعُوا ليُشاهِدوا العقاب المُسلّط عليها.
يَعلم جيِّدًا أن ميسا لاحظت بُرودَه وتَغيُّر تَصرُفاتِه. ويَعلم أنها أدركت أنها لم تَعُد تَعني له شَيْئًا غَيْر أنها وَسيلةُ انْتِقام. ورَغم ذلك لم تَتخل عنه ولكن وفاءها وتَشبُّثَها به ومُسَانَدتها المُطلقة له وحُبَّها لم تَشْفَع لها عِنده لتَتحرَّك مَشاعِره من جَديد.
كيْف للحُب أن يتَحوَّل إلى بُرُودٍ وجُمُودٍ؟ كيف لإنْسَانٍ مُرْهَف الأحاسيس أن يتَحوَّل إلى عديم المشاعر لا يَحمِلُ إلا النِّقْمَة؟ كيف تتَغيَّر الأشياء التي نظن أبداً أنها لن تتَغيَّر إلى عكْسِها؟ تحوُّل كُلِّي لا يُمْكِن تَخَيّله مُسْبقا، فقط التَّجارِبُ المُتَنوعة توصِلُنا إليه.
لم يَعُد يَفْصل إيحا عن السّر إلا القليل. فعند الصُّبح ستَغادر ميسا المَقام وكأن شَيْئًا لم يَكُن بَعْد أن تكون قد اطَّلَعَتْ على ما يَحْتويه القَبو. مَدَّها بالخُطَّة منذ مدَّة: ستَقْبَع خارجا بَعد أن يَنام الجَميع وتَضع الأعْشاب فوق جسدها حتى لا تُلاحِظها سالي عند خُروجها إلى القبو. وعند فَتح البَاب تَتبعها داخِلاً.
يَشعرُ إيحا بإرهاق شديد فيَرْتَمي مُسْتَلْقِيًا على العُشْب. يَغْلُبه النُّعاس فينام.
* على امتداد سنة 2025 ننشر رواية "الفاضرضي"، في أجزاء بصفة دورية وذلك بالاتفاق مع الكاتبة ومؤلفة هذاالعمل رانيا الحمّامي، التي تمتلك حصريا حقوق النشر. وقد تم تقديم هذه الرواية من قبل الباحث والدكتور توفيق بن عامر، رئيس الجمعية الدولية للمسلمين القرآنيين. لمعرفة أكثر تفاصيل عن كاتبةالرواية يمكن زيارة موقع www.raniahammami.tn