بقلم رانيا الحمـّامي 
الإهداء
إلى الباحثين على النور وسط الظلام،
إلى زارعي الحب أينما مرّوا،
إلى رعاة السلام في كل مكان،
إلى باعثي الحياة في فاقدي الأمل،
إلى أصحاب العزائم والإرادة،
إلى محاربي الوهن والضعف،
إلى كل من يرفض أن تهدمه الهزائم،
إلى من قرّر الحياة.
يجتمع أهل تاجوت ككل عشية أربعاء في المقام ليَتلقوا تعاليم بيبو. يتمتعون بجمال الطبيعة والسير بين الأشجار للوصول إلى المقام الذي يعتلي الهضبة فيُخيَّل لهم وهم في الطريق إليه أنهم صاعدون إلى السماء. كما يتمتعون عند الوصول بحسن الضيافة حيث تقدم لهم سالي زوجة بيبو أطيب وألذّ الطعام. تُعينُها عادة الفتيات اللاتي يَبْقِين عندها قبل زواجهن ليتعلمن منها فنون الحياة والمعاملات والطبخ وتعاليم بيبو. وقد أصبحت ميسا منذ مدّة من أشد المقربات إليها. تكاد لا تفارقها.
ينتهي اجتماع الأربعاء عادة بطرح مسائل عالقة يَحْتارُ في حلِّها وأخذ القرار فيها أهل القرية. أما حل الخصومات فيقع حلها صباح يوم الجُمعة.
لكن المسألة التي طُرِحت مساء اليوم من والد ميسا- وهو رجل يَبلُغ من العمر الستين يبدو عليه أثر الحزن الشّديد- مسألة مُؤثِّرَة على غير العادة وخارجة عن المألوف.
الرجل: بيبو، يا مُعلِّمي، تعاليمك تَأْمُر بعدم مغادرة القرية ونَبْذِ كل من يُغادرها. وهذا ابني نورنو -ورغم إيمانه القاطع بتعاليمك- يرغب في مُغادرة تاجوت. قلبي لا يطيق الفراق وأكاد أموت حسرة من وجع الفراق الٱتي ومن وجع خُروج ابني عن تعاليمك. كلِّمه يا بيبو وتحدَّث إليه، لعله يعْدِل عن قراره ويُغير فكره.
ينظر بيبو بشفقة إلى الأب ثم يحادث الابن الذي يَرْمُقه جميع من في الحلقة باسْتغراب :
يا بني، تريد الرحيل من تاجوت التي فيها وُلِدت وتَرعْرَعْت إلى وجهة غير معلومة. تُريد أن تسافر بلا بوصلة وبلا قيود مخمِّنا أن تنعم بالحرية ومن خلالها تبحث عن سر الوُجود وعن نفسك.
أعلمُ أن التَّعاليم التي وَضَعْتُها تَمنعُك من ترك القرية وتُصنِّفُك إن رَحلْت في خانة الخائنين والجاحدين وتمنع أهل تاجوت من قبولك بينهم يوما إن عُدْت إليهم. لكن لِتعلم، أن تلك التعاليم وُضِعت منذ عقود في ظروف مُعيّنة ولغايات مُحدَّدة حين كان أفراد القرية يُعَدُّون على أصابع اليد وتركهم يرحلون لن يؤسس لهذه القرية بل سيجعلها فراغا وخرابا. لكن اليوم وقد تم إعمار تاجوت وأصبحتم تُعَدُّون بالٱلاف، فالتعاليم التي أنزلت لي اليوم مُخَالِفة للتعاليم القديمة.
فالتعاليم تتطور حسب الأوضاع والأزْمان. وأُبَشِّرُك بما أُنْزِل إلي.
لا تجعل أثقال الأرض تُكبِّلك، حلِّق بعيدا وأمنح لنفسك فُرْصة معانقة نفسك.
لا تَجعل الوجوه التي تحيط بك – بعضها سعيدوبعضها حزين، بعضها صامت وبعضها مثرثر، بعضها مُمتلئة أفكارا وبعضها فارغة، بعضها مُحبَّة وبعضها حاقدة – أن تحُدّ من حُرِّيَتِك وأحلامك ولا تجعلها تحبط طموحك.
كُن حرّا. فالحرية أحد أجنحة الحب. ومن الحب يولد العطاء وكل ما هو جميل. لا تبق قابعا في مكانك تنتظِر من يأتي إليك أو من يُحرِّرك.
قُم، انهض، اقفز ثم اركض، اركض دون تَوقُف باحثا عن جوهرك إلى أن تجد ذاتك. اعْرف نفسك، حاوِرْها، أُحضُنْها، حلِّق بها في الفضاء. ببساطة اعشق نفسك.
لا تكن أنانيا بل كن مُقَدِّرا لذاتك وإلا لن يُقَدِّرَك أَحد ولن تُقَدِّر أَحدا. احْتَرِم نَفسَك وأحاسيسك قبل أن تَطلب من أحد أن يَحْتَرِمك. واجْعل قلبك يحمِلك على أمواج الحب حيث يرى الجمال. لا يعني هذا أن لا تُعْمِل العقل، لكن العَقل والقلب هُما في الحَقيقة واحدٌ، مُتَكامِلان حد الانصهار، فمَصْدَرُهُما وأَصْلُهُما واحد ولا معنى لأن تُفَرِّق بَيْنَهُما.
وأَخْبِر نَفْسَك كُلّ صَباح أنّكَ تُحِبُّها وأنها كَكُل ما يُحِيط بها تَنْبَع من نَفْس المَصْدَر ممّا يَجعلُها واحدا مع كل ما يُحِيطُ بِها، وهذا يعني إن أحْبَبْتَها فإنك أحْبَبْتَ كل ما يُحيط بِها.
نورنو: لا أجِدُ الكلمات التي أَشكرك بها فتفيك حقك وتُعبِّرُ عن إمْتِنَاني. دُمْتَ لي ولأهل تاجوت المُعَلِّم الذي ينير لنا الطريق والذي يُسَانِدَنَا ويحْمل عنا ثِقل مَشَاغِلَنا ومَشَاكلنا كما كنت دائما تماما كما فعلت هذه اللَّحظة معي. كلماتك نفذت إلى أَعْماقي وكأنَّك تقرأ في كتاب مفتوح ما تَحْمله نَفْسي. شكرا لأنك تركت لي فرصة العيش لأنني لا أعتبر نفسي حيّا وأنا كمسجون بين القُضْبَان في هذا المَكان.
في الحقيقية، السِّجْن ليس فقط بقائي في المكان الذي فيه تَرعرتُ أو بين العباد المُحيطين بي بل أَشعر أن نفسي تَسجُن نَفْسِي وأنه عليّ أن أبحث عنها وأُحَرِّرَهَا. أَبْحَث عَن الحُرِيّة في ذاتي وأُجَسِّمَها عبر رَغبتي في التَّحرك وترك هذا المكان والابتعاد عن كل ما تعودتُ العيش فيه ومن خلالها.
بيبو : أنا مُدْرِك لما تَشعرُ به وأُبَارِكُكَ أينما حَلَلْت وأُشْهِدُ أهل تاجوت على ذلك. بوركتَ في رِحلتَك الدَّاخِلية ورِحلَتك المَكانية في كل اللَّحظات.
ولك مني بعض التعليمات التي أُنزلت :
تقّدم بخطوات ثابتة إلى الأمام وهو ما عليك أن تَسْعَى إليه دائما وباستمرار. لكن – وإن كان من أجل ذلك يُضحي البَعض بالكثير حيث يكون التَّقَدم المُسْتمر هو الهَدف الدائم- فاعلم أيضا يا بُني أن القِيام بخُطوات إلى الوراء أحيانا يكون ضروريا من أجل المصلحة ومن أجل الانطلاق مُجَدَّدا إلى الأمام وبقُوة دَفع أكبر.
فلا تتشبث بظاهر الأشياء وبُهْرَجها ولا تكترث بالصورة والمَظهر ولا تُضحي من أجل ذلك بالغالي والنَّفيس مُعْتَقِدًا أن ذلك يشُدُّك إلى فوق أو يدفعك إلى الأمام. ففي لحظات ما من مشوار الحياة، يكون من الحكمة والذكاء التَّرَاجُع خُطُوات إلى الوراء والرُّجوع عن مَواقِف ومَواقِع رُبما نكون قد ضَحَيْنا كثيرا من أجل الوُصول إليها. عليك فقط إتقان اختيار اللحظة دون أن تَختَلِط عليك الأمور فالتّراجع ليس منصوحا به في المُطْلَق ولذلك فالسِّر هو اختيار اللحظة والحسم. أن التّراجع والانطلاق من جديد هو الأنسب وأكثر نفعا ليس بسيطا فهو يُؤْخَذُ برويّة
ورصانة وبعد دراسة جميع الاحتمالات الواردة على المدى القريب والمتوسط والبعيد. الحياة فن، والفن رقصة والرقص تمايل فأتقن التمايل لتكون راقصا ماهرا على حَبل الحياة، فالسقوط من الحَبل مُدمر وموجع.
خطِّط ولا تَترك الصدف تَتقاذَفُك. اجعل خُطَطك ليِّنة تتماشى مع كل المُعطيات الجديدة التي تَرد عليك وكل المُستَجدَّات.
تقبّل حاضرك وإن أردت تغييره. فالتغيير لن يكون من خلال رفضك إياه لكن من خلال تَقبُّلِه أولاثم استغلال كل جُزئياته لتغييره ولتطويره.
لا تنسى من أنت ومن أين أتيت وافتخر بذلك دائما واصنع حاضرك وافتخر به ولا تدع الكسل أو الإحباط يمنعك من بناء غَدِك .
وإياك أن تنسى من كان معك في اللحظات العِجاف ومن ساندك في اللحظات العصيبة ولا تتخلى عنه أبدا فالثقات والمُخلصون لا يعترضون طريقنا كل يوم. وكن مُمْتَنّا وشَكُورا وسَعِيدًا. فالسعادة هي اخْتِيارٌ وقرارٌ.
إستمتع باللحظة التي تَعيشُها فربما غيرك يتمنَّاها وإن كانت سيئة، فربما غَيرُك كان في وضع أسوأ. في الواقع، لا وُجود لسيء وجيِّد فالكُل يَرْتَبِطُ بك وبالزاوية التي تَقبَع فيها لتُشاهِد وتُراقِب ما يُحِيط بك. فتعلّم إيجاد النُقطة المُضيئة في بحر السواد لتَكون لك المَخرج إلى النور.
والد نورنو: لكن يا بيبو، كيف له تَركي وأنا أتَقدَّم في السن وغِيَابُه سَيشْعِرُني بالوِحْدَة وإن كانت أخْتُه وأهل القرية حولي.
فلِكل مَكانته في قلبي وصدري لا يتّسِعُ للوداع.
بيبو: إن الفُرَاق مُوجِعٌ والشعور بالفراغ والوحدة مُرْعِب لكن الامتلاء لن تجده في من يحيطون بك.
بَحْثُك عنه خارج نفسك هو بحث عقيم واسْتِئْناسُك بأبْنائك أو الأعزاء على قلبك ما هو إلا سَراب ووَهْم. فالامتلاء الحقيقي لا ينبع إلا من داخلك. فبارِك لنورنو رِحلته وامتلأ بنفسك.
يتقدم نورنو نحو أبيه فيعانقه بشدة فيَحضُنه الأب والدموع تملأ جفنيه.
(يتبع)
* على امتداد سنة 2025 ننشر رواية "الفاضرضي"، في أجزاء بصفة دورية وذلك بالاتفاق مع الكاتبة ومؤلفة هذاالعمل رانيا الحمّامي، التي تمتلك حصريا حقوق النشر. وقد تم تقديم هذه الرواية من قبل الباحث والدكتور توفيق بن عامر، رئيس الجمعية الدولية للمسلمين القرآنيين. لمعرفة أكثر تفاصيل عن كاتبةالرواية يمكن زيارة موقع www.raniahammami.tn