بقلم رانيا الحـمّـامي
الإهداء
إلى الباحثين على النور وسط الظلام،
إلى زارعي الحب أينما مرّوا،
إلى رعاة السلام في كل مكان،
إلى باعثي الحياة في فاقدي الأمل،
إلى أصحاب العزائم والإرادة،
إلى محاربي الوهن والضعف،
إلى كل من يرفض أن تهدمه الهزائم،
إلى من قرّر الحياة.
في القَاعة الواسعة المُزَيَّنَةِ ذهبًا وفضة وجواهر، يَجتَمِعُ الشُّيوخ الخمسة ومَعهم إيحا الذي اخْتَبأ مُنذ شُهورٍ في بيْتِهم. بيْت يَختلِف عن بقيَّة البُيُوت، مَوقِعه أقْرَب إلى الغابة منه إلى القرية، لم يَدْخُلْه أحدٌ غير بيبو وإيحا. غُرَفه واسعة ومُتَعدِّدَة تَزيد على العِشْرين. عَشرةُ غرفٍ مُغْلقة دَائما. يَحمل كل شَيْخ مِفتاح غُرفتيْن ولا يَدخلهما ولا يعلم مُحتواهما إلا هو. وعشرة غُرف للعيش تُفْتَح نوافذها العِمْلاقَة على الغابة.
أحدُ الشّيوخ: دق الطُّبول مُجدَّدًا. هل هو إعلان بحث عن مُتمرّد آخر أراد كشف ما بالقبو؟
إيحا: إن بيبو يُعامل أهل تاجوت كعبيد مَسلوبي الحُرية. يَتَدخل في كل شُؤونِهم ويأْمُرهم ويتَحكم فيهم وهذا لا يَليق بهم. عَليْنا العَمل على تَحْرِيرهم.
أحد الشيوخ: كيف نُحرِّرُ من أخْتَار أن يَبقى خَاضِعا؟ كيف نُحرِّر من تَمَّتْ دَمغجته مُنذ نُعومة أَظافِره؟
إيحا: عَليْنا السَّعي لذلك. لا يُمكن الاسْتِمرار على هذه الشاكلة. أنتم أشدُّ وَقارًا وحِكمةً من بيبو فلِماذا يَتَحكم في القرية وأَنْتُم أجدرُ بذلك.
يَنظر الشُّيوخ الخمسة إلى بَعضِهم في صَمتٍ. فتأتي صُورُ بيبو المُنْحَني أمامَهم وهو عارٍ من كل مَلابِسه بين أعينهم. ذِكرى مرَّت عليْها عُقودٍ وعقود. كانوا يَظنُّون أنهم سيكونون النَّاجين الوحيدين من الانفجار الكبير والذين يُمْكِنُهم التَّحَكُم في المُستقبل وفي بعض البَشر النَّاجين. لكن بيبو لم يُنْجز المُهمّة التي كلَّفوه بها بِسذاجة. بل حمَى نفسَه وزوجته وأعدَّ
كل شيء للنَّجاة مُحمَّلا بكل ما يَلزم لتَسيير عالمٍ جديد وتشييده. وكانت انْطلاقَته هذه القرية. كان كل تركيزهم عند الاستعداد للانفجار على حماية الذَّهب والفِّضة ليَكون سلِاحهم لتأسيس العالم الجديد في حين ركَّز بيبو على حِماية بعض الآلات والأسْلحة وكُتُبٍ وأشياء لا يَعلمون كُنْهَها، فكانت سَنَدَهُ في التأسيس وتنظيم عالم جديد.
أحد الشيوخ: لا أحد يُمْكِنُه الوُقوف ضِدَّ بيبو. فأهل تاجوت يَروْن في بيبو المُعلّم، نظَّم حياتهم وزَرَع فيهم قِيَما ومَناهِجَ حياةٍ وتعايشٍ. ولذلك لا تُخمِّن يا إيحا أن يَخُونَه أحدٌ من القريةِ وإن كَان البَعْضُ يَحمِلُ غَضَبًا أو استياءً منه لسبب ما.
شيخ آخر: وخيرُ دليلٍ على ذلك ما قَامت به ميسا. خيَّرت خِيانَتَك على خِيانة بيبو رغم حُبّها الشديد لك.
إيحا: ستُلاحِقُها لَعْنَتِي. لن أَغْفِرَ لها ما فَعَلَتْهُ بي.
أحد الشيوخ: في هذه المَرحلة علينا الصبر ومَزيد الانْتِظار، فالمُؤكد أن الأيام ستَأتي بما سَيُسَاعِدُنا على الانْتِقام من بيبو وتَحْرِير القَرية منه.
إيحا: لا يَمْكِنُنِي العيْش إن لم أنْتَقم لأمي. على أمَل الانْتِقام أحْيى. صُورتها وهي تَشْتَعل نارا وتَصْرُخ لا تُغادِرُ خَيالي لَحظة. أرَاه في اليَقَظة والمَنام. أكاد أُجَن. رَائحة الشِّواء التي عمَّت المَكان عند حَرْقها لا تُغادِر أنْفي. المَوت أرْحمُ ممَّا أَعيش.
*****
لا خطْبَ في تاجوت بعد حَادثة حَرْق المَرأة الآثمة ضُبطَت مُتلبِّسة تُحاوِل فَتح باب القَبو المُحرَّم لكشف ما في داخله، إلَّا الصَّحْن الغريب الذي دقَّت الطُّبول للإخْبار عنه وتَجْنيد الشَّباب للدفاع عن القرية إذا أتى مكروه من هذا الجِسْم الغريب.
تَدافع كل سُكان تاجوت نحْو الغابة لمُشاهدتِه من بعيد دون التجرّؤ على الاقتراب منه. صحن عملاق حديدي لونه فضّي وعليه قبَّة في نفس لونِه ومَعدنِه. تُحيطُ به أضْواء مُلوَّنة مُتوَهجة تَظْهرُ عند الغُروب وتَغيب عن الأنْظار مع أَول خُيوط ضَوْء النَّهار. لا يُمكن لأحدٍ الاقتراب من الصحن العِملاق، ليس خوفا من غريب مجهول بل لأنهم ممنوعون من ذلك. فقد أمر بيبو عددا من شباب القرية الذين قام بتدريبهم على القتال أن يحيطوا بالصحن العملاق ويُراقِبوه ويُخبروه بأي تَحرّك يصْدُر عنه كما أمرَهم أن يَمْنعُوا أهل القرية من الاقتراب منه.
يَتناوب كل يوم على حِراسة الصَّحن عِشرون شابّا. أحدهم أخو إيحا الذي اِنْظمَّ إلى الشَّباب المُجنَّدين رغم أن والده رفض ذلك بشدة. فقد أعْيى الأبَ فَقْدُ زوجته بتلك الطريقة البَشعة وغِياب إيحا الهَارب. لكن الإبن ملّ الحياة ومُجرياتها فبَنى أملا أن يكون هذا الصحن الطائر سببا لحتفه ولإنهاء مأساة حياته. خمَّن في الإنْتِحار مِرارا لكن إنتحاره سَيُضيف عارا إلى عار العائلة وهو الشيء الذي لم يَعُد يَحْتَمِلُه الأب.
في أحد الليالي ، كانت المُفاجأة لأخ إيحا – وهو بصدد الحراسة – اقتراب أحد الشيوخ الخمسة مُتَنكّرا وتبليغه سلام إيحا إليه وإلى أبيه. أدْرك أن أخاه في ضِيافة هذا الرجل الذي لم يَعرفه وأنه حيّ يُرزق. كاد يبكي فرِحا لكن تَمالك نفسه وسأل الشيخ عن إمكانية لِقائه. ابْتسَم الشَّيخ وهَرْول مُبتعدا يَخطو خطوات سريعة. كانت كل خطوة تُعيد حس الحياة إلى أخ إيحا لكن لا يمكن إتِّباعها حتى لا يَكشف عن مكان إيحا فالعُيون في القَرْية يقظة لا تنام هَمّها الوحيد حمل الأخبار إلى بيبو فتَصله الصغيرة قبل الكبيرة. أراد أن يَركض مُسرعا إلى أبيه ويُخبره لكن أيضا لا يُمكنه مُغادرة المكان. انتظر طُلوع الصَّباح بفارغ الصبر ليُنهي الحِراسة ويَأتي الفَريق الآخر. وَصل إلى البيت لكنه قرَّر أن لا يُخبر أباه. فرُبما فَضح الأب الأمر بِشكل عَفوي وغير مَقْصود ويكون سَببا في القَضاء على أخيه.
و أصبح لا يَهُمّه من الحراسة إلا رُؤية ذلك الرجل مُجدَّدا يأتي إلى مُشاهدة الصحن العملاق الذي أصبح مكانا للتَّسْلية بعد أن كان في بِداية تَواجُدِه مُثيرا لِجزع وخوف أهل القرية.
و كان له ما تمنى ذات ليلة حالكة السواد. اقترب منه أحد الشيوخ مُتنكِّرا كالمَرَّة السابقة وتمتم له: لك ما تُريد. لقاء إيحا بكل أمان مُقابل أن تتركني أخْترق الحراسة وأقتربُ من الصحن دون أن يلاحظني أحد.
و كانت إجابة أخ إيحا دون أي تَخمين : طبعا لك ذلك.
*****
في غُرفتهما الخاصة، بعيدا على كل الزُوَّار، يَتحدَّث بيبو الذي تبدو عليه – على غير العادة – علامات الإرهاق الشديد مع سالي.
سالي: ما قيمة إعداد الشَّباب لخوض حَرب ضد المجهول. لا نعلم شيئا عن ذلك الجِسم.
بيبو: يُمكننا التَّخمين. صَحن طائر لا يعني شيئا غير كائنات فضائية.
سالي: ما أتى بها؟ وماذا يُريدون؟ أمضينا سنوات نُنَظِّم من تَبَقى من سُكان الأرض بعد الانفجار الكبير ومن تزايد منهم. بعد الانفجار، حوَّلَهم الجُوع ونَقص الغِذاء والماء وكل المواد الحياتية إلى وُحوشٍ بشرية، يَأكلون لحوم بعضهم إذا جاعوا ويُنجبون دون زواج ولا قواعد ويَتجولون عُراة.
لم يكن ترويضهم سهلا. حَلِمْنا أن نَبني أرضا مثالية لا حروب فيها ولا قتال ولا تغلبها المادة ويُعمّها الحب. فهل ستَتحول الأرض ثانية إلى حلبة صراع؟
يتعالى صراخ عظيم آت من القبو.
ينتفض بيبو من مكانه قائلا: لم يَنقطع هذا الصراخ مُنذ ظُهور هذا الجِسم الغريب مما جَعلني أمنع جميع سكان تاجوت من الصُعود إلى المقام مُفسّرا أن الأضمن لسلامتهم مع تواجد الصحن العملاق هو البَقاء بعيدا عنا. ولكن هذا الصراخ يُؤكد ما يَدور في ذهني ومُجرّد التفكير فيه يُثير رُعبي.
سالي: لا يُمكنني تَصديق هذا. لم أَتخيّل يوما أن أعيش مثل هذه اللحظات. يَتَمزَّق قلبي ألمًا مع كل صرخة.
بيبو: أعتقد أنه علي مواجهة ما يحمله هذا الصحن العملاق الغريب وحدي، فإن كانت كائنات فضائية، فقد سبق لي التَّواصُل معها وإن كان ذلك عن بعد. وإن كان شيئا آخر، فأنا الرّسول في عيون سكان هذه القرية ومُنجيهم من التهلكة، وعليه فواجبي مُجابهة الخطر بكل شَجاعة والذَّهاب إلى الصحن الطائر والصعود إلى قبته واكتشاف مُحْتواه.
سالي: لا بيبو. لا تفعل ذلك. ماذا سَيحدث لي إن حدث لك مَكروه. كيف أُكمل حياتي.
بييبو: هذا المَقام مَقامُك وكل أسراري مُشتركة بيننا، وذِكراي سَتبقى قُرونا وقُرونا بعدي، فلا تَحزني ولا تَجزعي. وسَيُقدِّر أهل تاجوت كل ما قدّمته من أجلهم ولذلك ستكونين مُكرَّمة مُعزّزة.
سالي: لا قيمة للأشياء بَعدك ولا طعم للحياة. ولا مُرشد لأهل تاجوت إذا رَحلت. فأعدل عن فكرة استكشافك الصحن.
يعود الصراخ مُجدّدا يكاد يرُج المكان.
تَبكي سالي بحُرقة وتَضع يديها على أذنيْها وهي تَصرخ : أُريد أن أُصبح صمَّاء.
فيُعانِقُها بيبو ويَمسح دُموعها ويُتمتم لها بكلمات فتَبتسم.
معانقة وكلمات وإبتسامة حملت بيبو إلى أيّام خَوال لم يبق من آثارها إلا حبيبته سالي والشيوخ والسّر العظيم. فقبل الإنفجار الكبير الذي كان له في حدوثه – وعن قناعة – الدور الرئيسي والفاعل ، كانت الحياة غير هذه الحياة.
* على امتداد سنة 2025 ننشر رواية "الفاضرضي"، في أجزاء بصفة دورية وذلك بالاتفاق مع الكاتبة ومؤلفة هذاالعمل رانيا الحمّامي، التي تمتلك حصريا حقوق النشر. وقد تم تقديم هذه الرواية من قبل الباحث والدكتور توفيق بن عامر، رئيس الجمعية الدولية للمسلمين القرآنيين. لمعرفة أكثر تفاصيل عن كاتبة الرواية يمكن زيارة موقع www.raniahammami.tn