بقلم رانيا الحمـّامي
الإهداء
إلى الباحثين على النور وسط الظلام،
إلى زارعي الحب أينما مرّوا،
إلى رعاة السلام في كل مكان،
إلى باعثي الحياة في فاقدي الأمل،
إلى أصحاب العزائم والإرادة،
إلى محاربي الوهن والضعف،
إلى كل من يرفض أن تهدمه الهزائم،
إلى من قرّر الحياة.
“الفاضرضي”
نار مُشتعلة يُخيَّل للرائي أن لهيبها يعانق السماء. وهجها يلفح الوجوه من بعد أمتار. ليس بعيدا عنها، تجمَّع المئات – رجال ونسوة – ليشاهدوا ما يحدث. يعلو صوت بيبو ٱمِرا :
” فلتُرم في النار ولتكن عبرة ودرسا.”
يقطع صَوته صراخ امرأة رُمِيت في النار الحامية.
يعم المكان ضجيج وشهيق وتتصاعد رائحة شواء.
واصل بيبو خاطبا:
” تلتهمك النيران لكنها تُطَهرك من الإثم الذي ارتكبته، فتنضج روحك لتعود طاهرة إلى حياة أخرى.”
ثم يَقْترب بعض الخطوات من أهل القرية، فيظهر وجهه مع انعكاس النار عليه كوجه ملاك جمع بين بياض الثلج وحمرة الخمر، ويضيف:
” التعاليم واضحة، من يقترب من القبو المحاذي للمقام، تحرقه النار. لكم تاجوت وما فيها، غاباتها
وجبالها، أنهارها ووديانها، أشجارها وحيواناتها… لكن ذلك القبو فهو مُحرّم. ذلك ما أراده الخالق وما أنا إلا موصل لكم رسالة. “…
لم يجتمع أهل القرية في هذه الساحة منذ زمن طويل. الاجتماع الأخير فيها كان إعلانا وتأكيدا أن بيبو هو نبي رسول. ومنذ ذلك اليوم، لم يعد هناك ضرورة للاجتماع في الساحة. انتهى الخصام والشجار والتقاتل وعمّ السّلام والوئام فقد كان يكفي زيارة السيد بيبو في مقامه للاستماع لحكمه عند الاختلاف على أمر ما بين سكان تاجوت. يعترف الجميع أن أحكامه ونصوصه مُنزّلة من السماء وإلا فكيف لبشر عادي أن يأتي بكل تلك الحكمة والرصانة والمعرفة.
الاجتماعات الدورية التي تدور في المقام والتي يترأسها بيبو ليملي على الحاضرين ما أوحي إليه، تضم كبير كل عائلة من القرية.
المقام هو البيت الأكثر عُلوا والأكثر قِدما في تاجوت، واسع به ما يقارب أربعة غرف، شيد من طين وخشب عملاق. لا يعلم أحد متى شُيِّد ولا كيف، حذوه قبو، لم يدخله بشر غير بيبو وزوجته. وكانت التعاليم تمنع الاقتراب منه.
وما يُوحى لبيبو متنوع، فيه أساطير حضارات يؤكد شيوخ تاجوت وجودها. حكايات تحمل في طياتها العبر وفي وصفها المتعة. تشابه الخيال بما تواجد فيها من رغد عيش وديار عالية لا تبنى من قش وطوب ومن أناس يتواصلون بينهم رغم المسافات الكبيرة التي تفرقهم. حتى مياه الشرب تأتيهم إلى بيوتهم ولا يكلفون أنفسهم عناء الذهاب إلى العيون العذبة. يخبرهم بيبو عن الحضارات التي انتهت
واندثرت لأن اللؤم والأنانية والصراع غلب سكانها
ومجتمعاتها كما تناسوا وجود خالق.
فكان أهل تاجوت يستخلصون العِبَر من ذلك الذي أجمعوا عليه أنه وحي يوحى إلى بيبو.
انصرف بيبو وغادر الساحة التي غمرها الدخان ورائحة الشواء عائدا إلى مقامه أين يمضي كل وقته، وانصرف الجميع.
*****
وراء أحد المنازل بعيدا على الأعين، يجتمع الشيوخ الخمسة مع إيحا. شاب جميل في مقتبل العمر تبدو على وجهه علامات حزن لا تظهر عادة على وجه من هو في سنه، وگأنه ودع الفرحة والأمل إلى الأبد.
إيحا: لقد حرق بيبو أمي وبارك جميع أهل القرية ذلك. بل حتى أبي وأخي باركا ذلك. لم أعد أحتمل العيش بينهم. ما الخطأ الجسيم الذي قامت به أمي حين أرادت معرفة ما يدور بالقبو؟ هل يستحق الحرق بالنار؟ ما معنى أن تُحرِم التعاليم زيارة قبو؟ ما جُرمها أن تمَكَّن منها الفضول؟ أتناسى الجميع أفعالهم وجرائهم قبل أن يُنَظِّم بيبو حياتهم؟ كانوا أكلة بشر وزناة ولصوصا… ولم يحرق بيبو أحدا
منهم… ما معنى أن يحرق أمي بدعوى أنها ستعود أكثر نضجا!
يغلبه البكاء فيصمت، يحضنه أحد الشيوخ ويُربِّت على كتفيه قائلا:
بني، ما أخبرنا به أهل القرية مرارا وتكرارا، أن بيبو ليس رسولا وليس نبيا. وحرقه لأمك دليل ٱخر على ذلك. إن الأنبياء والرسل تغلبهم الرحمة والحب ولا يفعلون ذلك. إننا نعلم حقيقته إلا أن لا أحد يُصَدِّقُنا. يظنون أننا مشعوذون وكهنة لا يؤتمن لنا جانب. أما نحن فلسنا إلا شيوخا مرّت علينا السنين فأدركنا ما لا يُدركه أهل تاجوت.
إيحا: للأسف أهل تاجوت لا يثقون فيكم. انتم تعلمون أن ما تعيشونه من رغد عيش وما تملكونه من معادن مُشَكَّلة، أقصد أواني وحلي الذهب والفضة،
والتي لا يعلم أحد مصدرها والتي تُبادلون بها القمح والغلال والخضر، جعل الجميع يظنون أنكم سحرة تتعاملون مع أرواح لا نراها تَمُدُّكم بها.
كما أن بيبو أكد لهم ذلك.
أحد الشيوخ: لكنه كاذب ونحن أبرياء مما يتهمنا به.
إيحا: إنني أصدقكم وأثق فيكم، وإلا لما كنت هنا، أستعين بكم للانتقام.
أحد الشيوخ: للانتقام من بيبو، هناك مراحل عليك إتباعها وأولها عليك أن تقنع أهل تاجوت أن بيبو ليس رسولا وأن عليهم الوثوق فينا للتخلص منه.
إيحا: لن يكون ذلك بالأمر السهل. وفي المرحلة الثانية، ما الذي علي القيام به؟
أحد الشيوخ: أن نكتشف ماذا يوجد بالقبو وما الذي يخفيه؟ فما يخفيه دفعه لحرق أمك وهو ليس بالأمر الهيِّن.
إيحا: سيكون ذلك.
أحد الشيوخ: لكن اِحذر. لن يمنعه شيء من حرقِك أيضا.
*******
الحُب الذي جمعهما كان كافيا لتُحارب ميسا الجميع من أجل إيحا، لكن أن تُحارب مُعتقداتها وتتخلى عنها كُليّا وتعصي إرادة الخالق ورسوله بيبو فذلك يُرْعِبُها. مجرّد التفكير في ارتكاب المعاصي يشعرها بإثم عظيم. لكن في الوقت نفسه، لا يُمكنها التّخلي عن إيحا فهي تعشقه. حب ولد منذ طفولتها، تعتقد دائما أنهما خُلِقا لمهمة وحيدة وهي أن يعيش الواحد منهما للٱخر، من أجل إسعاده ولإشباعه حُبا وغراما.
كيف لها أن تختار بين حبيب قدري وخالق أزلي؟
يشتد الصِّراع داخلها يكاد يُفجِّر كيانها. الموت أرحم أن تختار بين أمرين لا يُمكن الاختيار بينهما مطلقا. سيكون التخلي عن إيحا في أزمته بمثابة الانتحار
و لكن معصية الخالق وإتباع رغبات إيحا هي كُفر مُطلق. لم يَطلب منها إيحا الجهر بالمعصية وإعلان رفضها لبيبو والتعاليم التي يأتي بها من الخالق لكن يكفيه أن تَعترف له سرّا أن بيبو ليس رسولا ويمكنها معصية أوامره وما أتى به.
تعلم ميسا أن صدْمة حرق والدة إيحا موجعة للجميع – المقربين وكل أهل تاجوت- لكن أن يصل الأمر بإيحا للكفر المطلق وأن يشترط كُفرها للبقاء معا والزواج أدخلها في دوامة ونزع من عينيها النوم.
عند لقائهما اليوم طلب منها إيحا الاستعداد للقيام بمهمة سيخبرها بها لاحقا. أرعبتها كلماته. فهي تعلم أن لا شيء يَشْغَلُه قدْر اكتشاف ما يُوجَد في القبو المحاذي للمقام. لا تريد أن ترفض له طلبا كما لا تريد أن تموت حَرقا كما أُحْرِقت أم إيحا. وفي النهاية ما الذي يمكن إخفاؤه في قبو نوافذه عالية لم تغلق يوما وبابه صغير من حديد. يقول أهل القرية أنه يُسْمَع أحيانا صوت غريب من القبو لا يشبه صوت إنسان ولا حيوان. يظن بعضهم أن القبو هو المكان الذي تنزل فيه أصوات من السماء فيَتلَقَّفُها بيبو لتكون مصدر تعاليمه. ويَظن البعض الآخر أن بالقبو شيئا غريبا يُمْكن من خلاله أن يتَحَكّم بيبو في أهل تاجوت فيتَّبعونه ولا يُخالفون ما يُمْليه عليهم. لكن لا أحد يتجرأ ويقترب من القبو للاكتشاف لكن أم إيحا كانت ذات فضول شديد، فضولها كان يقودها دائما إلى شجار مع الجيران والأقارب والصديقات انتهى إلى حتفها.
و كان الجميع يتأفف من فضولها الذي لا حدَّ له إلى درجة أنه قد بلغ بالبعض حدّ الشّماتة عند حرقها.
أن يدفعها إيحا لاكتشاف ما في القبو ويتم كشفها سيكون الخبر الصاعق على أبيها الذي أعياه قرار أخيها الراغب في ترك تاجوت والرحيل وهو ما يخالف تعاليم بيبو.
هل عليها القطع مع إيحا لتبقى وعائلتها بسلام.
حاولت في الآونة الأخيرة مرارا وتكرارا أن تبتعد عنه نهائيا لكنها لم تتمكن من ذلك. فيكفي أن يَطلب منها الالتقاء لتكون بجواره تداعب يديه.
(يتبع)
* نشرع انطلاقا من اليوم وعلى امتداد سنة 2025 نشر رواية "الفاضرضي"، في أجزاء بصفة دورية وذلك بالاتفاق مع الكاتبة ومؤلفة هذا العمل رانيا الحمّامي، التي تمتلك حصريا حقوق النشر. وقد تم تقديم هذه الرواية من قبل الباحث والدكتور توفيق بن عامر، رئيس الجمعية الدولية للمسلمين القرآنيين. لمعرفة أكثر تفاصيل عن كاتبة الرواية يمكن زيارة موقع www.raniahammami.tn